خُطبتا صلاة الجُمُعَة في 28 تشرين الثاني 2014م

أُضيف بتاريخ الخميس, 05/11/2015 - 13:08
خُطبتا صلاة الجُمُعَة في 28 تشرين الثاني 2014م + (فيديو)

  مُلَخّص الخطبتين:
- كثيراً ما نسمع كلمة التقوى وما نسمع وصف المتقين ، وكيف لنا أن نعرف صِفَة هؤلاء الذين يوصفون بهذه الصِفَة! كيف نعرف الذين يجب أن نَعُدَّهُم من المُتّقين؟
- المُتّقي في كتاب الله عز وجل هو الذي يُطعِمُ و يُنفق لوجه الله تعالى في السرّاء وفي الضرّاء، الذي يُنفِقُ من ماله والذي يُنفقُ مِن جاههِ، والذي يُنفِقُ من عِلمِهِ، هذه أوّلُ صِفَةٍ من صفات المُتّقين فما هي باقي الصفات؟..
- المُتّقون الذين يتقبّل اللهُ عز وجل منهم هم الذين إذا أساء الناس إليهم لم يحملوا في صُدورهم حِقداً ولم يحملوا في صدورهم حسداً ولم يحملوا في صدورهم أضغاناً..
- ماذا يجب على الذي يُحبّ أن يكون من المُتّقين...
- قول الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه في المُتّقين والحقد...
- إذا سمع أحدُنا كلمةً تُؤذيه فليُطأطئ لها فإنّها تتخطاه ولا تقِفُ عنده...
- ما هي التقوى التي أمر الله سبحانه وتعالى بالتزوّد منها؟...
- وإذا طلبتَ دُخولَ أمرٍ فالتمس من قبلِ مدخَلِهِ سبيلَ المَخرَجِ...
- الشِركُ يشتملُ على كُلّ عملٍ يَعمَلُهُ المَرء، وهو يُريد أن يمدحهُ من الناس ناظرٌ إليه، إذا صَلّى، أو ناظرٌ إليه إذا صام، أو ناظرٌ إليه إذا أنفَقَ مالَهُ.....
- الفاحشةُ ليست مُقيّدَةً بالأعمال التي نعرفُها، كُلُّ شيءٍ يتجاوز الحَد يدخُلُ في باب الفاحشة....
-- كُلُّنا يعلمُ أنّ الموت أقربُ إلينا ممّا نظُنّ، وأنّه حين يكون أجلُ الله سبحانه وتعالى لا يستطيعُ أحدٌ فعهُ ولا ردّهُ ولا منعهُ.
-- لكُلّ شيءٍ عُدَّةٌ يحملُها المَرء، إنّ أحدنا إذا ذهب في زيارةٍ أو ذهب إلى نُزهةٍ حمل معه طعامهُ من أجل ألّا يجوع وألّا يحتاج أحداً يسألهُ شيئاً من الطّعام. كيف تكون بنا الحال حين يتوفّى اللهُ عز وجل أحَدَنا ولا يملِكُ في يديه شيئاً؟...
-- عن قول أمير المؤمنين ع (ألا وإنّ الأيام ثلاثةٌ: فيومٌ مضى لا تَرجوه، ويومٌ بقيَ لا بُدَّ منه، ويومٌ يأتي لا تأمَنُهُ)...
-- أما كان أولى أن يحمِلَ أحدُنا معه زاداً إلى المكان الذي لا يُغني فيه أحدٌ عن أحدٍ شيئاً؟! ولا يستطيعُ أحدٌ أن يحملَ عنك من ذُنوبِكَ شيئا، ولا يستطيعُ أحدٌ أن يُعطيك من حسناته شيئاً. ما كان أولى أن نتذكّر هذا اليوم، أما كان أولى أن نُعِدَّ لهذا اليوم.؟!...
-- ليذكُر كُلٌّ منّا يوم يرجعُ عنه من يحملُهُ إلى قبرِهِ إنّه أعجز من أن يرُدَّ الدود عن وجهه وأعجزُ من أن يرُدّ هامّةً إذا أكلت عينه. ليعرف اليوم ما كان من تجبّره في هذه الدُنيا. سوف يُلقى في حُفرتِهِ وحيداً حتى إذا انصرف المُشيّع ورَجَعَ المُتفجّع أقعِدَ في حُفرتِهِ نجياً لبَهتَةِ السؤال وعثرة الإمتحان.


  الخُطبة الأولى:

  كثيراً ما نسمع كلمة التقوى وما نسمع وصف المتقين ، وكيف لنا أن نعرف صِفَة هؤلاء الذين يوصفون بهذه الصِفَة! كيف نعرف الذين يجب أن نَعُدَّهُم من المُتّقين؟

  قال تعالى في كتابه الكريم: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} المائدة (27)
الذي يتقبّل الله عز وجل منه قُربانَه وصلاته وصِيامه وحًجَّهُ وعملهُ الذي يتقبّل الله عز وجل منه كُلّ عملٍ لأنّه يكون عملاً طيّباً ، عملاً صالحاً يرفعُهُ اللهُ سبحانه وتعالى إليه ، ما هي صِفته وكيف نعرف ذلك الذي يجوز أن نصفه أو أن نجعلهُ في زُمرةِ المُتّقين؟!.

  قال تعالى في كتابه الكريم: { وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} آل عمران (133) ثم قال الله تعالى بعد هذا يُبيّن صِفَة هؤلاء { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) } آل عمران.
هذه صفة المُتّقين في كتاب الله عز وجل، { أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } آل عمران.

  المُتّقي في كتاب الله عز وجل هو الذي يُطعِمُ و يُنفق لوجه الله تعالى في السرّاء وفي الضرّاء، الذي يُنفِقُ من ماله والذي يُنفقُ مِن جاههِ، والذي يُنفِقُ من عِلمِهِ، هذه أوّلُ صِفَةٍ من صفات المُتّقين.

  {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} الذين يكظمون غَيْظَهُم ابتغاءَ ثواب الله عز وجل لأنّه يُعتقُهُم برداً في قُلوبهم، الذين يكظمون الغيظ ثم الذين إذا أساء إليهُمُ الناس عَفَو عن الناس {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

  {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الذين إذا أخطئوا تابوا إلى الله عز وجل التوبة التي لا رجوع فيها إلى الذنب بعون الله تعالى وتوفيقه.

  {أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} وضعوا أنفسهم في غير موضعها {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } ولم يُصِرّوا على ما فعلوا من الذَنْب وهم يعلمون.

  هذه صِفاتُ المُتّقين الذي يكظِمُ غَيظَهُ ابتغاءَ ثواب الله عز وجل صِفةٌ من صِفات الذين ذكر الله سبحانه وتعالى أنّ لهم مغفرة من ربّهم وأنّ لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها.

  المُتّقون الذين يتقبّل اللهُ عز وجل منهم هم الذين إذا أساء الناس إليهم لم يحملوا في صُدورهم حِقداً، ولم يحملوا في صدورهم حسداً، ولم يحملوا في صدورهم أضغاناً، هؤلاء هم الذين عَرَفوا كيف يتّقون الله عز وجل.
والذي جانب صفةً من هذه الصِفات فاحتمل في قلبه حِقداً لم يكُن ذلك الحِقدُ طارئاً وعارضاً ما دام في مجلس، فقد خرج من هؤلاء الذين وصفهم الله عز وجل بالمُتّقين، لأنّ المؤمن كما تعلمون من حديث الإمام الصادق عليه السلام إذا أُسيء إليه إذا حقد إنّما يحقد ما دام في مجلسه فإذا قام ذهب عنه الحِقد.

  ما من إنسانٍ يستطيع أن يُسيطر على مشاعره وعلى عواطفه، ربّما سمع كلمةً لكن إذا أحدثت له هذه الكلمة إساءةً أو جرحتهُ أو سبّبت له نُفوراً فإنّ نُفورَهُ هذا لا يتجاوز المجلس الذي يجلس فيه.

  يقول الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه في هذا الشأن:

يا طالبَ الجنّة أين التُقى؟   أُعِدَّتِ الجَنّةُ للمُتّقين
من تكو نارُ الحِقدِ في قلبِهِ   هيهاتَ أن يعرفَ بَردَ اليَقين

  الذي يتّقي الله عز وجل هو الذي يعلم أنّه سُبحانه وتعالى ناصِره إذ لا ناصر له وهو مُعينُهُ إذ لا مُعين له، وهو كافيه إذ لا كافيَ له. هو الذي إذا استجار به أجاره وإذا استغاث به أغاثه، هو الذي إذا رزقهُ وأنعَمَ عليه لا يسألُهُ أجراً، هو الذي إذا أكرَمَهُ لا يسألُهُ لِما أكرمَهُ ثمناً .

  الذي يعرف كيف يتّقي الله عز وجل هو الذي يعلم أنّه سُبحانه وتعالى يبتلي عِباده أنّهم يسمعون من الأذى وأنّه يُساءُ إليهم وأنّهم مع هذا يرجعون إلى الله عز وجل فيُسامحون من أساء إليهم ويَعفون عَمَّن أضرَّ بهم.

  يقول مولانا أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام (إذا سمعتَ الكلمة تُؤذيك فطأطئ لها فإنّها تتخطّاك) إذا سمع أحدُنا كلمةً تُؤذيه فليُطأطئ لها فإنّها تتخطاه ولا تقِفُ عنده.

  الذي يُحبّ أن يكون من المُتّقين الذين ذكرهم الله سُبحانه وتعالى فليكُن ذاكراً لله عز وجل في السرّاء وفي الضرّاء، يذكُرُهُ في فَقرِهِ كما يذكُرُهُ في غِناه، يذكُرُهُ في صِحّته كما يذكُرُهُ في سَقَمِهِ، يذكُرُهُ في بَلائه كما يذكُرُه في عافيته.

  الذي يُنفق في السرّاء وفي الضرّاء، والذي يكظِمُ غيظه والذي يَعفي عن الناس فإنّ اله سُبحانه وتعالى يُؤتيه خيراً ويُبدِلُهُ خيراً فإنّه سُبحانه وتعالى أعلمُ بما في صُدُر عباده وهو الذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يدّعِيَ معه علماً بالغيب، ولا يستطيع أحدٌ أن يدّعي معه معرفةَ ما في نفوس الناس إنّه سُبحانه وتعالى وحده الذي يعلم ما في صُدور الناس، ويعلم ما في ظنون الناس، ويعلم ما في نيّتهم، وما من أحدٍ دون الله عز وجل يستطيع أن يعرف ماذا يُخبّئُ فُلانٌ أو ماذا يُخبّئُ فُلانٌ في نفسه.

  التقوى التي أمر الله سبحانه وتعالى بالتزوّد منها إذ قال {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ} هي أن تعفُوَ عن الناس، هي أن تكظِمَ غَيظَك ابتغاء وجه الله تعالى، هي أن تُنفق في السّرّاء والضرّاء، هي أن تذكُر الله إذا ظلمتَ نفسكَ أو وقعتَ في معصيةٍ لترجع إلى الله عز وجل ولتتوب إلى الله عز وجل.

  الذي يُريد أن يُدخَلَ في زُمرةِ هؤلاء:
فلا يحمِل في صدره حِقداً على أحد،
ولا يحمِل في صدره حسداً لأحد،
لأنّ الله سبحانه وتعالى قد نَهاهُ أن يكون من الحاسدين، أو نهاهُ أن يكون من الحاقدين،
ونهاه أن يتكلّم كلمةً لا يعرف لها سنداً ولا يعرف لها مخرجاً،
ونهاهُ أن يدخُلَ في أمرٍ قبل أن يعرف المَخرَجَ منه،
نهاهُ أن يدخُل في الأمر الذي يُشكِلُ عليه،
وإذا طلبتَ دُخولَ أمرٍ فالتمس من قبلِ مدخَلِهِ سبيلَ المَخرَجِ.

  إذا أراد أحدُنا أن يدخُل في أمرٍ ما فعليه أن يبحث عن مَخرج ذلك الأمر قبل أن يعرف المدخل إليه، لئلّا يظلمَ نفسه، لأنّ الظلم كما جاء في الحديث (ظُلماتٌ يوم القيامة).

  الظُلمُ وضعُ الشيء في غير موضِعِه يشتملُ على الشِرك، لأنّه وضعُ العبادة في غير موضعها، ووضع الحق في غير موضعهِ، ووضع الشُكرِ في غير موضعهِ، يا بُنيَّ لا تُشرك بالله إنّ الشِركَ لظُلمٌ عظيم.
الشِركُ يشتملُ على كُلّ عملٍ يَعمَلُهُ المَرء، وهو يُريد أن يمدحهُ من الناس ناظرٌ إليه، إذا صَلّى، أو ناظرٌ إليه إذا صام، أو ناظرٌ إليه إذا أنفَقَ مالَهُ.

  الفاحشةُ ليست مُقيّدَةً بالأعمال التي نعرفُها، كُلُّ شيءٍ يتجاوز الحَد يدخُلُ في باب الفاحشة، الذي يجب على المرء إذا غَلَبَتهُ نفسُهُ ففعَلَ شيئاً من هذه الأمور أن يذكُرَ اللهَ عزّ وجَلّ، أن يرجع إلى الله عز وجل فإنّه سُبحانه وتعالى خيرُ الغافرين.

  أن لا ينظُرَ أحدٌ إلى عُيوب الناس قبلَ أن يُصلِحَ عُيوبَهُ، أن نذكُرَ جميعاً أنَّ اللهَ عزّ وجلّ ستر علينا من ذُنُوبنا ما لو كُشِفَ لما تقبّلَ غيرُنا أن يُصافحنا أو أن يُسَلّمَ علينا.

  أن نذكُرَ أنَّ اللهَ عز وجل ستر علينا وقد خالفناه، وستر علينا وقد عصيناه، فلا نكُن من الذين قال فيهم أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام (من الذين يتّخذون سِترَ الله ذريعةً إلى معصية الله).

  الذي يُريد أن يستُرَ الله تعالى عليه فليكفُف عن عُيوب الناس، وليرجع إلى الله عز وجل يجِد اللهَ غفوراً رَحيما، قد ستَرَ عليه من ذُنوبِهِ ما لو بَيَّنَهُ للناس لكان أمرُهُ على أسوء ما كان يظُنّ أو ما كان يتصوّر.

  نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم ، لمن حَضَرَ، لمن سمع كلامنا نسأل الله أن يأخُذَ بأيماننا إلى المَنههَجِ القَويم، وإلى الصِراطِ المُستقيم، وأن يجعلنا ممّن يُحدثُ لكُلّ ذنبٍ توبةً، وأن يجعلنا ممّن يعرفُ لكُلّ نِعمةٍ شُكراً، وأن يجعلنا ممّن لا يأخُذُهُ الباطل إذا عرف الحق. اللهم صلّ على مُحمّد وآل مُحمّد...

  الخُطبة الثانية:

  كم ذُكَرنا بأنّ الله سُبحانه وتعالى لا يستأذنُ عبده إذا حضرَ أجَلُه.
كُلُّنا يعلمً أنّه قد يجلسُ ثم لا ينهضُ من مجلسه.
وكُلُّنا يعلمُ أنّه قد ينام ثم لا يستيقظُ ولا ينهضُ عن فراشه.
كُلُّنا يعلمُ أنّ الموت أقربُ إلينا ممّا نظُنّ، وأنّه حين يكون أجلُ الله سبحانه وتعالى لا يستطيعُ أحدٌ فعهُ ولا ردّهُ ولا منعهُ.

  كُلّنا نعلم أنّ ما بعد هذه المَواقِف إنّما هو اضطجاعٌ في القبور، وأنّ كُلّ نفسٍ ذائقةُ الموت وأنّه سبحانه وتعالى خاطب نبيّهُ ص وآله وسلم {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الأنبياء (34-35) صدق الله العلي العظيم

  كُلنا يعلمُ أنّ الموت وأنّ سَكْرَةَ الموت ممّا لا يستطيعُ الإنسانُ معها أن يوصيَ إلى أحد ولا يستطيع أن يرجعَ ليعتذرَ إن كان أخطأ أو أساء إلى أحد.

  كلنا يعلم أنه يكون عاجزاً حتى إذا كلّمهُ أحدهم أن يرُدّ عليه. كُلنا يعلم هذه الحال ولكن ما عدد الذين يتصوّرون هذا الموقف.

  منذ بِضعةِ أيّام تُوُفِّيَ رجُلٌ إلى رحمة الله، ما كان في ظنّه أنّ أجَلَهُ قد جاء، كُلّنا قد نكون من أمثال هذا الرَّجُل. فهل تَصَوَّرَ أحدُنا أنّه إذا نام قد لا ينهضُ، وأنّه إذا جلس قد لا ينهض، وأنّه إذا خرج من بيته قد لا يرجعُ.

  لكُلّ شيءٍ عُدَّةٌ يحملُها المَرء، إنّ أحدنا إذا ذهب في زيارةٍ أو ذهب إلى نُزهةٍ حمل معه طعامهُ من أجل ألّا يجوع وألّا يحتاج أحداً يسألهُ شيئاً من الطّعام.
كيف تكون بنا الحال حين يتوفّى اللهُ عز وجل أحَدَنا ولا يملِكُ في يديه شيئاً حينئذٍ يتمنّى ويوَدُّ لو أنّه يرجِعُ إلى الدنيا لهَولِ ما يُعاينُهُ ، من أجلِ أن يُصلِحَ ما أفسدَ من عَمَلِهِ ومن أجل أن يتوبَ إلى اللهِ مُعتذراً إلى مَن ظلمَهُ، هل تصوّرَ أحدُنا هذا الموقف؟!!

  يقول أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام (ألا وإنّ الأيام ثلاثةٌ: فيومٌ مضى لا تَرجوه، ويومٌ بقيَ لا بُدَّ منه، ويومٌ يأتي لا تأمَنُهُ) هذا اليوم الذي لا تأمَنُهُ لا تدري ما يكون (فالأمسُ موعظةٌ، واليومُ غنيمةٌ وغداً لا تدري من أهلُهُ) اليوم أنت تملكُ هذا البيت ولكن لا تدري غداً من يكون صاحباً له، من يكون مالكاً له، غدٌ سيأتي لا تدري من هم الذين سيكونون من أهل ما تركت ومن أهل ما ادّخرت ومن أهل ما منعت من حُقوق الله عز وجل.

  يقول أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام (الشيءُ شيئان: فشيءٌ مضى، شيءٌ لا أرجو فيما مَضى، ولا آمُلُهُ فيما يأتي، وشيءٌ لا أنالُهُ دون وقتِهِ ولو أجلبتُ عليه بقوّة السماوات والأرض، فبأيّ هاتين أُفني عُمُري)

  بماذا يُفني أحَدُنا عُمُرَهُ؟! أبشيءٍ في قَدَرِ اللهِ عز وجل وفي تقديره وفي قضائه، إمّا شيءٌ مضى لا ترجوه، وإمّا شيءٌ لن تنالُه دون وقته ولو أجلبتَ عليه بقوّة السماوات والأرض، فبأيّ هاتين أُفني عُمُري؟
هل نظرَ ناظرٌ مِنّا في هذين الشيئين؟! شيءٌ مضى لا يرجوه، وشيءٌ لا يستطيع أن يَنالَهُ إلا في الوقت الذي قدّر الله تعالى أن يَنالَهُ فبأيّ هاتين يُفني أحدُنا وقتهُ ويُبلي بدنه ويُتلفُ ماله، ويُضيّعُ وقتهُ ؟!

  أما كان أولى أن يحمِلَ أحدُنا معه زاداً إلى المكان الذي لا يُغني فيه أحدٌ عن أحدٍ شيئاً؟! ولا يستطيعُ أحدٌ أن يحملَ عنك من ذُنوبِكَ شيئا، ولا يستطيعُ أحدٌ أن يُعطيك من حسناته شيئاً.
أما كان أولى أن نتذكّر هذا اليوم، أما كان أولى أن نُعِدَّ لهذا اليوم.

  ممّأ نسمعُ ويُقرأُ علينا قول أمير المؤمنين عليه السلام (ألا فاحذروا عباد الله الموت وكربه وسَكَراتِهِ وأعِدّوا له عُدّتَهُ فإنّه يأتي بأمرٍ عظيم، بخيرٍ لا يكون معه شرٌّ، وبشرٍّ لا يكون معه خيرٌ أبدا، فمن أقربُ إلى الجنّة من عامِلِها، وأقربُ إلى النار من أهلها، فاذكروا الموت حين تُنازعُكُم أنفُسُكُم إليه فإنّي سمعتُ رسول الله ص وآله وسلم يقول: اذكُروا هازمَ اللذات، وإنّ ما بعد الموت لمن لم يغفِر اللهُ له ويرحَمهُ أشدُّ من الموت)

  إنّ ما بعد الموت لمن لم يغفِر اللهُ تعالى ذَنْبَهُ أشدُّ ممّا يُعانيه في سَكَرات المَوت. ليتمثّل أحدُنا وليتصوّر أنّه ذلك المُسجّى على السرير.

اصبِر لِمَرِّ حوادِثِ الدَهرِ   فلتَحْمَدَنَّ مَغَبَّةَ الصَبرِ
وامهَد لنفسِكَ قبلَ ميتتِها   واذخر ليوم تفاضُلِ الذُخرِ
فكأنَّ أهلَكَ قَد دَعَوْكَ فلَم   تسمَع وأنت مُحَشرَجُ الصدر
أي يتردّد نفسُهُ في آخر دقيقة من عُمُره.
وكأنّهم قد قلبوك على   ظهرِ السريرِ وأنت لا تدري
أو ليتَ شِعري كيفَ أنتَ   إذا غُسِّلتَ بالكافورِ والسِدرِ
أو ليت شِعري كيف أنتَ إذا   وُضِعَ الحِسابُ صبيحةَ الحَشرِ
ما حُجّتي فيما أتيتُ وما   قولي لرَبّي بل وما عُذري
ألّا أكون قصدتُ رُشدِيَ أو   أقبَل ما استدبرتُ من أمري
يا سَوأتا ممّ اكتسبتُ ويا   أسفي على ما فات من عُمري

  ليذكُر كُلٌّ مِنّا يا ليت شِعري كيف أنت على ظَهر السرير وأنت لا تدري إلى أين تُساق!؟ يا ليتَ شِعري كيفَ أنتَ إذا غُسِّلتَ بالكافورِ والسِدرِ.

والله لو عاش الفتى من دهره   ألفاً من الأعوام، مالكَ أمره
مُتلذِذاً فيها بكُلّ هنيئةٍ   ومُبلّغاً ذُلَّ المُنى من عُمرِهِ
لم يعرف الآلام فيها مَرَّةً   كلّا ولا جرت الهُموم بِفِكرِهِ
ما كان ذاكَ يُفيدُهُ من عِظْمِ   ما يَلقى بأوّل ليلةٍ في قبرِهِ

  ليذكُر أحدُنا أنّهُ إذا حملَهُ مُشيّعُهُ سوف يترُكُهُ في حُفرتِهِ وحيداً لن يجدَ إلّا عَمَلَهُ يومئذٍ يعلم كم ظلم نفسه، يومئذٍ يودّ لو أنّه ألجَمَ فمهُ بلِجام ولم يكُن قال من فُضول القول والكلام، فإنّ بالكلام تبيضُّ الوُجوه وبالكلام تسودُّ الوُجوه.

  سُئلَ مَولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أيُّ شيءٍ ممّا خلقَ اللهُ أحسن؟ قال: الكلام.
سُئِلَ: وأيُّ شيءٍ ممّا خلقَ اللهُ أقبح؟ قال: الكلام.
بالكلام ابيضّت الوجوه وبالكلام اسودّت الوُجوه.

ردّوا عليَّ تُراب القبر وانصرفوا   كأنّ ما فيهُمُ من كان يعرِفُني

  ليذكُر كُلٌّ منّا يوم يرجعُ عنه من يحملُهُ إلى قبرِهِ إنّه أعجز من أن يرُدَّ الدود عن وجهه وأعجزُ من أن يرُدّ هامّةً إذا أكلت عينه. ليعرف اليوم ما كان من تجبّره في هذه الدُنيا. سوف يُلقى في حُفرتِهِ وحيداً حتى إذا انصرف المُشيّع ورَجَعَ المُتفجّع أقعِدَ في حُفرتِهِ نجياً لبَهتَةِ السؤال وعثرة الإمتحان.

  هذا هو الذي يجب أن نبنيَ عليه وهذا هو الذي يجب أن نُعِدَّ له لأننا لا نستطيع أن نرجعَ لنُصلح ما أفسدنا، يومئذٍ لا ينفعُ إلاّ ما كان من عمَلٍ صالح.

  نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم حُسنَ العاقِبَة، أن يجعلنا ممّن يُقدّمُ تقوى الله وأن يجعلنا ممّن يتقرّبُ إليهبما أحبَّ وبما يَرضى. اللهم صلّ على مُحمّد وآل محمد.....