الجُمُعَة 24 تمّوز

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 02/08/2016 - 15:52
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 24 تموز 2015م.
الخُطْبَةُ الأُوْلَى: الطَّاعَةُ، وَمَنْ أَحَقُّ بِهَا.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: لَمْ يُكَلِّفِ اللهُ الخَلْقَ شَيئًا لا يُطِيْقُونَهُ.

  الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
  ... طاعةُ الله سبحانه وتعالى هي التي تُكسِبُ الإنسان مَكانَتَهُ في الدُّنيا وفي الآخرة، وهي التي تجعَلَهُ من الفائزين، أو تجعله إذا أهمَلَها إهمالُهُ من الخاسرين.

  الذي يُحِبُّ أحدًا في الدّنيا يُطيعُهُ، وطاعةُ الله سبحانه وتعالى هي التي تُمَيِّزُ المُحِبَّ من المُبغِض؛ المُطيعُ يُعرفُ بطاعتِهِ، والذي يَعصي يُعرفُ بعِصيانِه.

  ويترتّبُ على الطَّاعَةِ أشياء منها أنَّ أحَقَّ من يجبُ أن يُطاع هو الذي لا يجدُ الإنسان منه مفرًا، وأحَبُّ مَن يُطاع هو الذي يدُلُّ على الأمر الذي فيه الخَير، وفيه صَلاحُ النّفس، وغنيمةُ الإنسان في الدُّنيا أن يُطيعَ العُقلاء، إذا أطاعَ العاقِلَ غَنِمَ، وإذا عَصَى الجاهِلَ سَلِمَ، على ما جاء في كلم مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام (أَطِعِ العاقِلَ تغنَم، واعصِ الجاهِلَ تَسلَم).

  أحَبُّ من تَجِبُ طاعته قبلَ طاعةِ الخَلق هو الذي خَلَقَ الخَلق، والذي جَعَل لهم إلى العيشِ سبيلًا، والذي رزَقَهُم، والذي أحياهُم ثم يُميتُهُم ثمّ إليه يُرجَعُون.

  أحقُّ من تَجِبُ طاعتُهُ هو الذي لا يجِدُ الإنسانُ منه مَفَرًّا ولا يجِدُ مِن طاعتِهِ بُدًّا، ولا يجِدُ لأمرِهِ رَدًّا، ولا يستطيع لأمرِهِ دَفعًا، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى جعَلَ طاعةَ رسولِهِ طاعةً له، وجعَلَ طاعة أولياء الأمر طاعةً له، وجعل طاعة الأنبياء والمُرسلين وطاعة الأولياء والصالحين طاعةً له لأنّهُم: يَدُلُّونَ على الخير، ويُرشِدونَ إلى سبيل الصَّلاحِ والفَوز، وإلى الحِكمَةِ في الدُّنيا وفي الآخرة.

  ومن يستطيعُ أن يَجِدَ مَفَرًّا من أمر الله سبحانه وتعالى!؟
في المأثور أنَّ من لا يُريدُ أن يُطيعَ الله عز وجل فليمتَنِع عن أكل رِزقِهِ.
إذا كُنتَ لا تريدُ أن تُطيعَ اللهَ عز وجل فلا تأكُل رزقَهُ، ومَن يستطيعُ أن يرزُقَ نفسهُ رِزقًا غير ما رزقه الله عز وجل!؟
إذا كُنتَ لا تريد طاعتهُ فلا تأكُل رِزقَهُ، وإذا كُنتَ غيرَ قانعٍ بقضائهِ وبقدَرِهِ فاطلُب ربًّا سِواه! ومن يستطيعُ أن يطلُبَ مِثلَ هذا؟! ومَن يستطيعُ أن يَجِدَ شيئًا من هذا؟!.

  طاعةُ الله سبحانه وتعالى هي الطاعة التي لا غِنى عنها، ولا مَفَرَّ منها، لأنَّ بها يُكرَمُ الإنسان، وبها يُعَزُّ الإنسان، وبها يصِلُ إلى ما يرجو من العَفو ومِنَ الرحمة.

  ثمَّ أحقُّ مَن يُطاع بعد هذا هو مَن أمَرَ بالتّقوى ونَهَى عن الهَوى، أحقُّ من تُطيعُهُ مَن أمَرَكَ بالتُّقى ونَهاكَ عن الهَوَى. ومَن دَلَّكَ على صلاحِ نفسِكَ فهو أحَقُّ مَن تُطيعُه.

  الذي يأمُرُ الإنسان بالتُّقى ويَنهاهُ عن الهَوى يأمُرُهُ بمَخافةِ الله وينهاهُ عن طاعةِ أهوائه وعن اتّباعِها هو أحقُّ من يُطاع، وإن كان الأمرُ شديدًا أو شاقًا عليه فإنَّ طاعة الله سبحانه وتعالى ما من شيءٍ منها إلاّ وهو يكون في كُره. لذلك كان في كلام أمير المؤمنين عليه السلام أنّ (أفضَلَ الطَّاعات هَجرُ اللذات)، أفضلُ الطاعات أن يترُكَ الإنسان وأن يَكُفَّ وأن يُمسِكَ عن شيءٍ حَرَّمَهُ الله سبحانه وتعالى يجِدُ به لذّةً، فأفضلُ الطاعات أن يصبِرَ على ما أمرهُ الله، وأن يمتنعَ عن المعصية وإن وَجَدَ فيها لذَّةً (أفضَلَ الطَّاعات هَجرُ اللذات)، وأحقُّ من تُطيعُهُ مَن دَلَّكَ على صَلاحِ نفسِكَ، ومَن أمَرَكَ بالتُّقى ونَهَاكَ عن الهَوى، فإنَّ طاعَةَ أمثالِ هؤلاء هي طاعةٌ لله عز وجل، وطاعةُ مَن كان على غير هذا هيَ معصِيَةٌ لله عز وجل لأنّها لا توصِلُ المُطيعَ إلى شيءٍ ينتفِعُ به في دُنياه ولا توصِلُهُ إلى شيءٍ يُكرِمُ به اللهُ عز وجل مَثواهُ في آخرتِه.

  خيرُ ما يُخَلِّفُهُ الإنسان بعدَ مَوتِهِ أن يُذكَرَ بأنَّهُ كان ممّن أطاعَ اللهَ سبحانه وتعالى وخالفَ هَواه وعصى الشيطان فيما أمرهُ، إن كان جمَعَ من الكُنوز ما جَمَع، أو جَمَعَ من الدُّنيا ما جَمَع، أو بلَغَ من جاهِهَا ما بَلَغ، فخيرُ فِعْلٍ يفعَلُهُ هو أن يترُكَ وراءَهُ ميراثًا من العَمَل الصّالح الذي اكتسبَهُ في طاعة الله سبحانه وتعالى.

  يقول في هذا المعنى الشيخ عبد اللطيف إبراهيم رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه:

خيرُ الفِعالِ فِعالُ الخَيْرِ والرَّشَدِ   فَجُدَّ فِي عَمَلِ الطَّاعَاتِ واجْتَهِدِ
قد يُوزَنُ المَرء بالأعمالِ خالِصَةً   لا بالتَّكاثُرِ في مال ولا وَلَدِ

  إذا توفَّى اللهُ سبحانه وتعالى عبدًا من عِبادِهِ نَظَرَ النّاس فيما تَرَكَ خَلفَهُ، قالت الملائكةُ: ما قَدَّمَّ؟ وقالت الناس: ما أَخَّر؟ يعني ما قَدَّمَ من العَمَل الصّالِح ومِنَ الطَّاعَة، أمّا النّاس فينظُرُون إلى ما تَرَكَ خَلفَهُ مِن شيءٍ مِنَ الدُّنيا! فأسعَدُ الناس من كان حينئذٍ قد توفّاهُ اللهُ سبحانه وتعالى وهو في طاعتِهِ، قد اجتَهَدَ في أن ينالَ من رحمة الله ومِن عَفوِهِ ومِن غُفرانِهِ ما تُؤَدِّيهِ الطاعةُ إليه.

  نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكُم ممّن أطاعوا أمرَهُ واتّبَعوا ىسُنَّةَ نبيِّهِ، وممَّن خالفوا أهواءَهُم، ومِمَّن رفضوا شَهَواتِهِم.

  اللهم صلّ على محمد وآل محمد...

  الخُطْبَةِ الآخِرَة:

  ...قال الله تعالى في كتابه الكريم {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقال تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} صدق الله العلي العظيم.

  التكليفُ من اللهِ سبحانه وتعالى على قَدْرِ طاقةِ الإنسان، ومَن تَكَلَّفَ فوقَ ما كَلَّفَهُ الله فقد ظَلَمَ نفسَهُ أو حَمَّلَهَا عِبئًا ثقيلًا لا يستطيعُ أن يَنهَضَ بِهِ.

  التكليفُ الذي أرادهُ اللهُ سبحانه وتعالى وفَرَضَهُ على عِبادِهِ، هو التكليفُ الذي لا يَشُقُّ عليهم، وهو التكليف الذي لم يَزِد عليه لأنَّ نُهُوضَهُم به، ولأنَّ طاعَتَهُم بما أُمِروا ممّا كلّفَهُم هي الغايةُ التي لا يُريدُ سبحانه وتعالى زِيادةً عليها، فهل يكونُ للمرء أن يُكَلِّفَ نفسَهُ ما لم يُكَلَّف، أو أن يأمُرَ أحَدًا بما لا يستطيعُ، وأن يَظُنَّ أنّ في فِعْلِهِ هذا أو في أمرِهِ هذا هو يُقَرِّبُهُ إلى الله عزّ وجل ؟!

  وُسْعُ الإنسان وما أَتاهُ الله تعالى مِن قُدرةٍ في بَدَنِهِ ومِن سَعَةٍ في مالِهِ أو في جاهِهِ، إنّما يُحاسِبُهُ الله تعالى على ما أتاه وعلى ما مَكَّنَهُ مِنه.

  ومَن كَلَّفَ إنسانًا فوقَ ما كَلَّفَهُ اللهُ تعالى، أو فوق طاقتِهِ التي يستطيعُ أن ينهَضَ بها، أو فوق وُسْعِهِ الذي يَجِدُهُ، فهوَ يُفتِي لهُ في المَعصِيَةِ وليسَ مُفتِيًا له في الطَّاعَة. الذي يُفتي في الطّاعَة هو الذي يُكَلِّفُ الإنسان أو يُفتي له أن يَفعَلَ ما في طاقتِهِ وما في وُسْعِهِ. أمّا مَن كَلَّفَهُ أن يفعَلَ زِيادَةً على ما في وُسْعِهِ وعلى ما يُطيق فهُوَ يُفتي له في معصيَة الله ولا يُفتي له في طاعتِه، لأنَّ أوَّلَ خَطَأٍ في هذه الفَتوى أنّه كلّفَهُ ما لم يُكَلِّفُهُ اللهُ سبحانه وتعالى. كلّفَهُ شيءًا فوقَ طاقتِه وقد وَضَعَ اللهُ سبحانه وتعالى عن عِبادِهِ كُلَّ شيءٍ فوقَ طاقتِهِم، وهو سُبحانه وتعالى أعلَمُ بهم، وأعلَمُ بما يُصلِحُهُم، وأعلَمُ بما يكون فيه صَلاحُ أحوالِهِم، وصَلاحُ أبدانِهِم، وصلاحُهُم في هذه الدّنيا، فاللهُ سبحانه وتعالى كَلَّفَ العِبادَ ما يُطيقون ولم يُكَلِّفهُم ما لا يُطيقون.

  فمَن أفتى لك بشيءٍ فوق طاقتِهِ على ما جاء في كلام أمير المؤمنين عليه السلام (مَن أفتى لك بشيءٍ فوق طاقتِهِ فقد أفتاك في عِصيَانِه)، إذا أفتاكَ رجُلٌ بشيء لا تجِدُ إليه سبيلًا فهو يُفتي في معصية الله وليس في طاعَتِهِ لأنَّ ذلك الأمر الذي لا يُيَسَّرُ وليس في وُسْعِ إنسان إذا أراد فِعْلَهُ قد يُلجِئهُ ذلك إلى أن يَسلُكَ سبيل الخطأ أو سبيل الحرام ليَصِلَ به إلى القُدرةِ على هذا العَمَل فيكونُ حينئذٍ ممّن ذهب في معصية الله وليس في طاعتِهِ. والله سبحانه وتعالى إذا ابتلى عبْدًا فأصابَهُ في شيء أو سَلَبَهُ شيئًا فإنّهُ سبحانه وتعالى يَضَعُ عنه التَّكليف الذي كان كَلَّفَهُ أن يَعمَلَ به.

  يقول الإمام الحُسين عليه السلام: (ما أخذَ الله عز وجل من أحدٍ طاقتهُ، إلّا وَضَعَ عنه طاعَتَهُ، وما أخَذَ منه قُدرَتَهُ، إلّا وَضَعَ عنهُ كُلفَتَهُ). ما أخذ الله سبحانه وتعالى من عبدٍ طاقتهُ التي يستطيعُ أن يعمل بها سَواءٌ أكان ذلك في ولده أم كان في ماله إلّا خَفَّفَ الله سبحانه وتعالى عليه ما كان كلّفَهُ أن يعمل به. وإذا سَلَبَهُ قُدرتهُ على العمل وَضَعَ عنه ذلك التكليف.

  فمن نَظَرَ في هذه الأحاديث، ومَن وَقَفَ على الآياتِ التي ذكرها اللهُ سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، فالأولى أن يُمسِكَ عن تكليفِ الناس فوق ما يُطيقون، وأن يعلَمَ أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى وَضَعَ التَّكليفَ لكُلِّ إنسانٍ على قدر قوّتِهِ، وعلى قَدْرِ وُسْعِهِ، وعلى قَدْرِ طاقَتِهِ وقُدرَتِه، فإذا سُلِبَ شيئًا من هذا فإنَّ التكليفَ يوضعُ عنه.

  فإذا سُئِلَ أحَدُنا عن شيء يُريد السائِلُ عنه أن يعرِفَ ماذا يجِبُ عليه في أيّ أمرٍ كان فلينظُر إلى طاقتِهِ وإلى وُسعِهِ وإلى صَبْرِهِ وإلى احتِمالِه قبلَ أن يُفتِيَ لهُ بما يسألُهُ عنه، وقبلَ أن يُجيبَهُ عن سُؤالِه لئلاّ يكون ممّن أفتى له في شيءٍ فوق طاقتِهِ فتكونَ فَتواهُ في معصية الله، ورُبّما حمَلَ ذلك الرّجُل على فِعلِ شيءٍ من المَعصيَة.

  نسألُ الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكُم ممّن شَكَرَهُ في حال قُدرتِه، وممّن شكرَهُ في حال مَرَضِهِ، وفي حالِ فَقلاِهِ، وممّن عرف قَدْرَ نِعمَتِهِ إذ أعطاهُ الله، وممّن عَرَفَ قَدْرَ نِعمَتِهِ إذ سَلَبَهُ الله شيئًا بذَنبِهِ، وممّن يستغفِرُ إذا قَتَرَ عليه رِزقًا، وممّن يتوبُ إليه إذا أخطأ، وممّن يتوسّلُ إليه أن يَغفِرَ له ما أسلَفَ مِن سيّئاتِه وما قَدَّمَ من خطيئاتِه.

  اللهم صلّ على محمّد وآل محمد...