قسمة الأرزاق والأخلاق.. (المال آلة الغِنَى في الدنيا.. والأخلاق آلة الدين والدنيا..).. خُطبة للشيخ عبد الكريم علي حسن الخطيب عفى الله عنه.

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 29/02/2012 - 04:31

خُطبة بعنوان (قسمة الأرزاق والأخلاق)، وقد أُلقيت من على منبر مسجد الإمام علي  في طرطوس في ستّينيّات القرن الماضي، وهي للمغفور له فضيلة الشيخ عبد الكريم علي حسن الخطيب .. وقد نقلناها من كتابه ""الكَلِمُ الطيّب" المطبوع سنة 1968م والذي يشتمل على خطب وبحوث إسلامية..

 

الحمد لله..................... وبعد

قال تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.

أيّها الأخوة:

إنّ الله سبحانه قسم بين الناس معائشهم وأرزاقهم، وقسم بينهم أيضًا أديانهم وأخلاقهم، فكما أنّ بين الناس: الغني الكبير والفقير المُعدَم، فكذلك بين الناس، من هو في أعلى القمّة من الدين والأخلاق، وبينهم من هو في قعر الحضيض من قلّة الدين، والإنحراف الخُلُقي المُشين. قال تعالى: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.

فالمال آلة الغِنَى في الدنيا فلا تُستصلحُ أرضٌ، ولا يُفتحُ متجرٌ، ولا يقومُ عملٌ مهما كان نوعه حتى ولا تقوم دولةٌ إلاّ بالمال..

والأخلاق آلة الدين، فلا تصحّ صلاةٌ، ولا تُقبلُ زكاةٌ، ولا صيامٌ إلاّ بالأخلاق، حتى ولا يكون رجل الدين صادقًا في دينه إلاّ إذا كان يتمتّع بالطباع الحميدة والخُلق الكريم... فإذن:
الله سبحانه قسم بين العالم كُلّ العالم، فجعل الأرزاق للدنيا فقط، وجعل الأخلاق للدنيا والدين..

غير أنّ الله سبحانه لم يقسمها ويُحدّدها ويُعيّنها لكُل فردٍ من الناس منذ الأزل كما يقول آخرون، بل أوجدها وكوّنها، وجعل للحصول على أيّ شيء منها سببًا. قال تعالى: وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا.

فالسعي والنشاط والجد والعمل، سبب لكسب المال في الدنيا، وللتخلص من ويلات الفقر، قال تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ.

وقال تعالى: فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ.

فالمشي في مناكب الأرض، والإنتشار فيها سبب للأكل من الرزق الذي تفضّل الله به على عباده، وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وهكذا بالعمل والسعي يوجد المال، وتوجد الدنيا.

والإخلاص والأمانة والمحبة سبب لصحّة الدين، وللتخلص من الرياء المُفسد للدين، ومن الإنحراف المُذهِب للأخلاق، قال تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ.

وقال : (من أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس).

ويقول الإمام علي : (الدنيا والآخرة ضرّتان، وماشٍ بينهما كماشٍ بين المشرق والمغرب، كلما اقترب من واحدةٍ بَعُدَ عن الأُخرى).

وكيف لا يكون ذلك كذلك، وبين الدنيا والدين بونٌ شاسعٌ، وفرقٌ كبيرٌ، وهذا الفرق هو أنّ الله سبحانه يُعطي الدنيا من يُحب ومن لا يُحب ولا يُعطي الآخرة إلاّ لمن يُحب، وما ذلك إلاّ لهَوان الدنيا على الله.

فإذا كان نوح  الذي عاش في الدنيا -كما يُقال- ألفًا وأربعمائة عام، وَجَدَ الدنيا بعد طول هذه الإقامة فيها، كدارٍ لها بابان، دخل فيها من باب وخرج من باب، فماذا يقول من لا يعيش إلاّ خمسين سنة أو أقلّ أو أكثر بقليل!.
قيل لنوح : كيف وجدتَ الدنيا؟ قال: (كدارٍ لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر)..

وإذا كانت الدنيا بأقاليمها السبعة، وبما في هذه الأقاليم من بحور وأنهار وسهول وجبال وأشجار وأثمار وزرع وفواكه لا تُعادل عند الله ولا تزن عنده بميزان الحق جناح بعوضة، فما قيمة الإقليم الواحد، أو القطر أو الناحية أو البلد!.

قال : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء، وإذا كانت الدنيا لهو ولعب، واللهو واللعب متعة الصبيان، وعمل الأطفال، فماذا يرجو الإنسان العاقل من هذه الدنيا، يا أبناء الدنيا، وهذا ما يُعطيه الله من يُحب ومن لا يُحب...

أمّا الدين.. يا رجال الدين.. 

فهو الأخلاق والأمانة والإخلاص، فمن تحلّى بهذه الصفات كان مُحببًا عند الله، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.

وقال : (لن تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تتحابّوا).

فإذا أحببنا بعضنا، واتبعنا الرسول، فقد أحببنا الله، وإذا صَدَقَ حُبّنا لله، فقد أَحَبَّنا الله.

ولقد وضع لنا أئمّتنا علامة للذين يُحبّهم الله فقالوا:
إذا أنعَمَ الله على عبدٍ نِعمةٍ في الدنيا، فازداد بها شكرًا على شكر، وإيمانًا على إيمان، وإحسانًا على إحسان، فأعطى الفقير وساعد المُحتاج، وناصر المظلوم، وكافح الظالم، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأمر بالمعروف ونهى عن المُنكر، فهو من المحبوبين. قال تعالى: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.

أمّا إذا أنعَمَ الله على عبدٍ نِعمةً، فازداد بها معصية على معصية، فأفسد وطغى وبغى فهو من الممقوتين، قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.

أيّها الأخوة:

لا يَغُرّنكم من خالف الأوامر، ولم تزل نِعَمُ الله تنهال عليه، كُلّ ذلك مَكرٌ من الله، واستدراجٌ، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ.

وقيل أنّ الله يُملي الظالم للظلم، فإذا أخذه لم يفلته، ولا يأمن مكر الله إلاّ القوم الضّالون..

أجل أيها الأخوة: كثيرٌ من الناس، من هو في نعمةٍ، ولكنّه لا يَشعُرُ أنّه في نِعمةٍ، فنِعَمُ الله كثيرة، لا تُعّدُّ، وفضلُ الله كبيرٌ لا يُحصى، قال تعالى: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.

فالمال نعمة، والعافية نعمة، والذكاء نعمة، والأخلاق الفاضلة نعمة، والدين نعمة، وما ينتج عن هذه النِعَم، من خيرٍ، وهُدى، وصلاح، نعمة.

كذلك إذا أردتم أن تعرفوا قيمة هذه النِعَم، فانظروا إلى من هو دونكم، فكم من فقيرٍ جائعٍ، لا يحصل على لقمة العيش، وكم من بليدٍ أبلَه لا يفهم الكلام ولا يعي الحديث، وكم من مُشرّد بالعراء لا مأوى له ولا ظل ولا ماء، وكم من ضالّ هالك لا يهتدي إلى النجاة ونجاتُه بين يديه! وما أحسن ما قاله الإمام زين العابدين :

ولقد عجبت لهالكٍ ونجاتُهُ
موجودةٌ، ولقد عجبتُ لمن نجا

فإذا نظرتم إلى هؤلاء، وما هم فيه من ألمٍ وعَناء، وفقرٍ وعَوَز، وضلالٍ وجحود، علمتم قدر نعمة الله عليكم، قال : (إذا أردت أن تعرف قدر نعمة الله عليك، فانظر إلى من دونك)، وعند ذلك تتبين لك قسمة الأرزاق والأخلاق، ولم يبقَ إلاّ عدم التقصير في حق الله الذي أطعمكم من جوعٍ، وآمنكم من خوف، ولم يُكلّفكم إلاّ عبادته. قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ..

فيا إخواني:

لا تُعَرّضوا نِعَمَ الله التي قسمها لكم وأنعَمَ بها عليكم للزوال، بل هيّئوها للبقاء والإستمرار، فلا تدوم النِعَمُ إلاّ بالشُكر، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ.
فعلامة قلّة الشكر على هذه النِعَم، تركُ المُفترضات، وإهمال الواجبات، وبصورةٍ خاصّةٍ: تركُ الصلاة، واتّباعُ الشهوات، فهو الذي أهلك الأُمَمَ قبلكم، قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنّه هو الغفور الرحيم.