من خطبة للشيخ محمود الصالح في عيد الفطر السعيد

أُضيف بتاريخ الخميس, 13/05/2021 - 05:34

ننقل لكم الحديث عن الصيام والعيد من خُطبة عيد الفطر السعيد لفضيلة الشيخ محمود الصالح رحمة الله تعالى ورضوانه عليه.. 
وكان رحمه الله قد أوردها في
 مُلحَق كتابه (النبأ اليقين عن العلويين) المطبوع في تسعينيّات القرن الماضي صفحة (249-...-253).. 
نرجو لكم كل فائدة ومتعة.. وأهلًا وسهلًا بكم..
(إدارة موقع المكتبة الإسلامية العلوية)

 

الحمد لله الذي جعل الحمد أداءً لِحَقّ نعمته، وأداةً لامتراء أخلاف رحمته، وسببًا موصلًا إلى جنّته، وجُنَّةً من بلائه ونِقمته.

أحمَدُهُ وأشكُرُه، وأعبُدُهُ وأذْكُرُهُ، وأستعينُهُ وأستغفِرُهُ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مؤمن بوجوده، عارف بتوحيده، مُعترف بإفاضة جوده على عبيده، وأشهدُ أنّ مُحمّدًا عبده ورسوله، أرسله بالهُدى ودين الحق ليُظهِرَهُ على الدين كُلّه. بَلَّغَ ما أُنزِلَ إليه وأَدَّى ما ائتُمِنَ عليه أئِمَّةِ العِصمة، وباب حطّة هذه الأُمّة. جعلنا الله ممّن أثبتوا حُجّتهُم ولَزِموا مَحَجَّتَهُم، وثبّتَ على ولائهم قلوبَنا، وغفر بمحبتهم ذُنوبَنا.

أمّا بعد:

فإنَّ الأُمَمَ والشعوب كانت ولا تزال تَتَّخِذُ -من مولد عظيم من عُظمائِها أو من مناسبة قيام ثورةٍ تُطِيحُ بحُكم ظَلَمَة مُستبدّين فيها، أو ممن حدوث أمرٍ يُشرق به وجهَ تاريخها- عيدًا يُحتفل به في ليالي وأيَّامًا وإذ ذاك، فما أجدر عُشّاق الحياة حُرّةً كريمةً أن يتّخِذُوا من أيّام شهر رمضان أعياد ومهرجانات ومن لياليه ليالي أفراح ومسرّات.

هذا الشهر المُبارك،

  • شهر المواساة والرّحمة،
  • شهر العطاء والتضحية،
  • شهر الجهاد والصّبر،
  • شهر استجمام للقلب وخلوة بالنّفس،

يعرِض فيه المؤمن على مرآة عقله ما خطّته يداه من صحائف أعماله من رسوم وصُوَر فيُثَبِّت ما يستحسن منه ويستزيد، ويمحو ما يستقبح منه بممحاة التوبة والاستغفار.

شهر يثوب المؤمن فيه إلى رُشدِه، ويتوب إلى رَبّه، وينظُر لنفسِه، يُمَيّز بين صالح عاداته وبين فاسدها، فيستكثر من الصالحات ويُقلع عن المُفسِدات، يُجَدّد حياته ويُخَطّط لمُستقبله.

شهرٌ حَمَلَ إلى عالم الكون بأسره من مُبدِعِهِ ومالِكِهِ أسمى وأسنى هديّة عرفها التاريخ البشري، هي الهُدى والنّور، هي الشفاء والرّحمة، هي الضياء والحِكمة، هي الحِجّة البالغة والقول الفَصْل، هي القرآن الكريم الحكيم، مُعجزة النبوة الخالدة، ومَصدر التشريع السماوي الأسمى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ.

هذا القرآن الكريم نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المُرسلين؛

  • دفقة نور،
  • ودفعة حياة،
  • ونظام اجتماع،
  • ومنهاج تربية،
  • وقانون تشريع،
  • ليُنشِئ به أُمّةً،
  • ويُقيمَ به دولةً،
  • ويبني به حضارةً،
  • ويُنَظِّمَ به مُجتمعًا،
  • ويُرَبِّي به ضمائر وأخلاقًا وعقولًا،
  • ولِيَربِطَ الأُمّةَ التي يُنشِئها بالأمم الأُخرى على أساس التعايش السلمي والتكافل الاجتماعي،
  • ولِيُحَدِّدَ العلاقات بين الدولة التي يُقيمها وبين بقيّة الدول على ضوء المصالح المُشتركة والمنافع المُتبادلة.

ولِيَجْعَل المُجتمع الذي يَدينُ به ويأخُذ بتعاليمه مُجتمعًا صحيحًا مُنَسَّقًا مُتكاملًا قائمًا على العدل والمساواة حيًّا بروح التعاون والتضامن، مُستظلًّا بلواء الأمن والطمأنينة، واردًا شِرعَةَ السلام والمحبّة. يتلاقى جميع أبنائه في مودّةٍ وإخاءٍ على مَعينٍ واحدٍ دافقٍ بالنور والحياة، ألا وهو الإسلام.

هذا الدين؛

  • هو العروة الوُثقى التي لا تنفَصِم،
  • والرّابطة القوية التي لا تتفكّك،
  • والوَشيجَة المَتينة التي لا تنقطع،
  • والآصِرَة الشديدة التي تشُدّ الناس بعضهم إلى بعض من مُختلف اللغات والأجناس،
  • والعَقيدة الثابتة التي لا تُمَيّز بين أبنائها طبقة، لا يُفَرِّقُهُم جنس، ولا تُباعِد بينهم لُغة، ولا تحُدّهم سِمَة من سمات الأرض جميعًا يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...13 [الحجرات]. (كُلُّكُم من آدم، وآدَمُ من تُراب، ولا فَضلَ لِعَرَبِيٍّ على أعجَمِيٍّ إلا بالتّقوى).

هذه هي دعوة القُرآن، وهذه هي رسالة الإسلام، وهذه هي الخصيصة التي تُمَيِّزُ بين الإنسان وأخيه الإنسان.

وعلى هذا فما أوجَبَ على كُلّ ذي قلبٍ سليمٍ أن يتّخِذَ من أيّام وليالي ولادة ذلك الهُدى أيّامَ أعيادٍ ولياليَ أفراح، ومِن إحياء ذِكرى إشراقة ذلك النّور وهجًا تستضيء به جوانب نفسه ويهتدي به في اجتياز دروب حياته.

وإذا كانت عادةُ -وعلى الأغلب- مظاهر الاحتفالات وشِعاراتها من طبيعةِ وجِنسيّة المُحتفى به، فبديهِيٌّ أن لا تكون شِعارات الاحتفاء بنزول القرآن الكريم أكلًا وشُربًا وبَهْرَجَةً واستعلاءً! وإنّما هي من نوع ما لأجله نزل وإليه دعا، ألا وهو:

  • تطهير القلب،
  • وتزكية النفس،
  • وتنمية الإرادة الخَيِّرَة،
  • وتقويم الأخلاق،
  • وتقوية روح الأمانة والإيمان،
  • والاستعلاء على الشُّح والأثَرَة،
  • وتوطين النفس على الثبات والصّبر،
  • وحملها على التحسّس بآلام أبناء نوعها،
  • وتنظيم المعايش،
  • ومُراعاة الحالة الصِّحِّيَّة،
  • وما إلى ذلك من مُقَوِّمات تعود بالنفع المُباشر على بني الإنسان مادّيًا وروحيًّا.

وهذه الخصائص والصّفات يجمعُها كُلّها الصيام.

فالصيام كغيره من عبادات الإسلام المَشروعة لتنظيم علاقة العباد بربّهم، وتنظيم علاقة بعضهم ببعض، ومن تَدَبَّرَ حِكمةَ الصّيام تَجَلَّتْ له صورةُ هذا التنظيم واضحةً بأمرَين رئيسيّين هما:

  1. حِفْظُ النَّفسِ.
  2. والتَّوَجُّه إلى الله.

وخليقٌ بأيّ هذين الأمرين أن يَصْلُحَ العامل به ويجعل منه دعامةً للإصلاح الاجتماعي لأنّ في صلاح الفرد صلاح المُجتمع.

أمّا حفظ النفس:

أي منعها من الجَري وراء شهواتها، وكَفِّهَا عن اتّباع هواها، فهو من أعرض الخُطوط التي وضعها الإسلام للإصلاح العام. وذلك أنّ النفس بطبعها أمّارة بالسوء إلا ما رحم الله، فإذا تُرِكَتْ وهواهَا لا تُعْرَض لها شهوةٌ إلا ابتدرتها لمُجرّد اشتهائها، وكُلّما اندفعت بغرائزها عجزت عن الصّمود والمُقاومة، ومن استحوذ عليه هَواه وغلبت عليه شقوته لا يأمن أن يُورِدَ نفسه ومُجتمعه موارد الهَلَكَة، وهو غير مُبالٍ بما يلحق به وبمجتمعه من سوء مغبّةٍ ووخامة عاقِبَة.

هُنا تتجلّى الحِكمة من الصِّيام، وتبدو حاجة الناس إليه مُلِحّة، وذلك أنَّ الصيام:

  • يُكفكِفُ من غَلواء النفس ويكسِر شرتها ويكبح جماحها،
  • ويُرَوِّضُها على الصّبر وتَحَمُّلِ المَشاق،
  • ويُمَرِّنُها على مُقاومة مُيولها والصّمود أمام نزواتها،
  • ولا يزال يتدرّج بها تمزينًا وترويضًا إلى أن تُصبِحَ قوّة الإرادة مَلَكَةَ راسِخَةً فيها تصرِفُها كيف تشاء قبضًا وبَسْطًا.

وإذ يصِلُ الإنسان إلى حَدّ القدرة على زمّ نفسه بزمام إرادي فإنّه لا بُدّ يقِف عند حد الصلاح، ولا ينزلق في مداحض الفساد فيُلقي بنفسه وبمجتمعه في تهلُكَة.

أمّا التّوجُّه إلى الله:

فهو إقبال العبد بكُلّيتِهِ على ربّه، وتصَوّرَهُ نفسه دائمًا بين يديه سُبحانه، وأنّه تعالى معه، يعلم جَلِيَّ أمرِهِ وخَفِيَّ سِرِّهِ، ويُحيطُ بكُل خَطَراتِ قلبه ونوايا نفسه، وهذا التصوّر لا بُدّ وأن يُشعِرَ الإنسان بمسؤوليته وجزائه عن كل ما يقول ويفعل. ولا بُدّ لهذا الشعور من أن يُحْيِيَ في العبد مَلَكَةَ الحضورية بين يدي مالِكِهِ ومالك الكون بأسره وينعكس على تصرّفاته وأعماله، ويحمله على التأدّب بالآداب الرفيعة والتخلّق بالأخلاق الشريفة، كما لو جلس امرؤ بين يَدَي أحد الملوك أو العُظماء فإنّ أدب المُجالَس يقضي عليه أن لا يقول ولا يفعل ما يُسخِط ذلك الملك أو العظيم، تعظيمًا له واتقاءً، وإذ ذاك، فالله سبحانه أحقّ أن يُعَظَّمَ وأَوْلى أن يُتَّقى.

وما من شكٍّ في أنَّ تكرار الصوم يومًا بعد يوم، وامتداد الصّيام في كل يوم ساعة بعد ساعة، يُقَوِّي هذا التوجّهَ في العبد ويُحي فيه الوازِعَ الضميري والمُراقبة الوجدانية، ويُرَسِّخَ فيه المَلَكَة الحُضوريّة فتحول دونه ودون ما يسخط ربّه ومليكه.

ولعلّ هذين الأمرين:

  1. حِفظ النّفس.
  2. والتّوجّه إلى الله.

هُما علّة فرض الصّيام المُعَبّر عنها بالتقوى في قوله تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 183 [البقرة].

وقد يرى المُبصر بعين بصيرته معنًى آخر في فريضة الصّوم امتدادٌ للمعنى السابق، وذلك أنّ فريضة الصوم كانت في السنة الثانية للهجرة وقبل فرض الجهاد، وعلى هذا فإنّ الصوم تهيئةٌ لنفوس المؤمنين، وشحذٌ لعزائمهم، وإعدادٌ لجوارحهم، وإمضاءٌ في عزمهم، وتصميمٌ على الجهاد الذي قد يفرض عليهم إعلاءً لكلمةِ دينهم، ورفعًا لمستواهم الإجتماعي، ودَفعًا لعدوّهم المُتَربّص بهم، ودرءًا لأخطارٍ قد تواجههم، وإذ ذاك فإنّ شهر رمضان فترةُ تدريبٍ يُمرَّنُ المؤمنون فيها على المقلومة والصمود، ويبعثون فيها قوى إرادتهم وصبرهم، ذودًا عن حِياضِ دينهم ووطنهم، وحمايةً لما تلزمهم حمايته من نفسٍ وعِرضٍ ومالٍ وما إلى ذلك وهذا هو الجهاد.


عزيزي القارئ، انقر هنا لقراءة الحديث عن الجهاد في تتمّة هذه الخطبة. وأهلًا وسهلًا بكم.