الهِجرة النبوية وليلة المبيت، استعراض لجانبها التاريخيّ والمُعاصر والمعنويّ والمُستمر.

أُضيف بتاريخ الأثنين, 17/07/2023 - 09:56

الهِجرة النبوية وليلة المبيت،
استعراض لجانبها التاريخيّ والمُعاصر والمعنويّ والمُستمر.

هذه الخُطْبَةُ الأُوْلَى من خُطْبَتَي الجُمُعَة 21\آب\2020م

في واقعةٍ من أشرف الوقائع التي كانت في الإسلام، والتي لولاها لم يقُم لإسلام عمودٌ، ولم يخضَرَّ للإيمان عود، تلك الواقعة التي تُعرف بليلة المبيت، وهي الليلة التي فدى فيها أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب  رسول الله  ورقد في فراشِهِ بعدما أجمَعَت قريش على مكيدةٍ من أجلِ إطفاء نور الله سبحانه وتعالى، ومن أجل إزالة الإسلام واستئصاله بإسكات صوت الحق، وباغتيال نبيّهِ  إذ استنفذوا كل ما يملكون من الوسائل، فعرضوا عليه المال فأبى، وعرضوا عليه الجاه فأبى، وقال كلمته المشهورة:

لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شِمالي على أن أترك هذا الأمر لا أترُكُهُ حتّى يُبَيِّنَهُ الله -أو حتى يُظهره الله- أو أهْلِكَ دونه.

هذه المقالةُ جعلت مُناوئي النبي  من مُشركي قُريش يتربّصون به الدوائر، وينتهزون الفُرص من أجل إيقاف هذه الدعوة، إذ كثُرَ أنصاره فعذّبوهم، فأذِنَ لهم أن يهاجروا إلى مكان آمن، وحين أخفق المشركون في استرداد المُهاجرين من الحبشة، اتفقوا على أن يُبيّتوا أمرًا من أجل أن يوقفوا الإسلام، وأن يستأصلوه.

فاقتُرِحَت آراءٌ شتّى، كان منها أن قال بعضهم: نُلقيه في بُنيانٍ لا ينجو منه حتى يموت. وقال بعضهم: بل نُوَثِّقُهُ على بعير ثم نتركه في الصحراء حتى يهلك، ثم استقرّت الآراء بعد ذلك على أن يجمعوا من كُلّ قبيلةٍ رجُلًا فإذا اجتمعوا ضاع الدم ولا يستطيع أحدٌ أن يُطالب به.

حين اجتمعوا واتفقوا على هذا الأمر، أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نبيّه، في قوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿الأنفال 30﴾  

هو الذي سيُنبّهُكَ على مكيدتهم، وهو الذي سيُنجيك من كيدهم، وهو الذي سيُريحُكَ من غدرهم، فدعا رسول الله  أميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب  وأخبره بما أوحى اللهُ سبحانه وتعالى إليه، فكان قول مولانا أمير المؤمنين (أَوَتَسْلَمَنَّ بِمَبِيتِي فِي فِرَاشِكَ يَا رَسُولَ الله)، فقال : نعم.

كان جوابُ أمير المؤمنين هو السجود شُكرًا لله سبحانه وتعالى على ما أكرمه من هذا الفضل أن جعله يفتدي هذه الرسالة التي هي نور الله في خلقه، والتي هي امتداد لرسالة نبيّ الله إبراهيم، الذي كان أول من وضع الإسلام، ثم لا يزالُ يُجدّدُ في كُلّ زمن وفي كُلِّ عصر، كلّما انمحت آثاره، وكلما اندثرت معالمه، حتى جدّده بخاتم النبيين .

وكانت الهجرة على ما يعلم كثير مِنَّا كيف كانت بالدليل الذي استأجره واسمه عبد اللهِ بن أُرَيْقِط، إذ عَبَرَ به الصحراء، وكيف دخل مع أبي بكر في الغار الذي يُعرف بـ غار ثور نِسبَةً إلى ثور بن مَناة.

ثم بعد ذلك كيف اجتمع عليه من تبعَهُ إذ طلبه مُشركو قريش فوجدوا على باب الغار العنكبوت، ووجدوا على بابه أفراخ الحمام، فعلموا بذلك أنه لا يمكن أن يكون دخل أحدٌ إلى هذا المكان، كانت المعجزة من الله سبحانه وتعالى بهذه الأشياء التي أوهمتهم والتي ضيّعتهم والتي بسببها سلِم النبيّ وصاحبه من أن يصِلَ إليه أحدٌ من مُناوئيه، أو من أعدائه.

وفي هذا المعنى قال كثيرٌ من الأدباء والشعراء في تلخيص هذه الحال، كان منها:

أكرِم بمن صَحِبَ المُختار يُؤنِسُهُ***وفي مكان فراش المصطفى رقدا
حتّى إذا جاءَ أعداءُ النبيِّ إلى مكانه***وجدوا فيه لهم أسدا
فاستيأسوا ومَضَو يبغونه طلبًا***يقفون إثرَ رسول الله أينَ غَدا
فالعنكبوت وقد مَدَّت مناسجها***فقال قائلهم لن تُدركوا أحدا
حتى إذا وقفوا في الغار لم يجدوا***إلا حمامًا على أفراخه لبدا
ولو هنا دخل لم يبق ما نسجت***عناكبٌ ورأيتَ الطير قد شردا
أما ترى العنكبوتَ الغزلَ ناسجةً***ثم الحمامةُ بحُسن الصوت قد غَرَدَا
فصدّقوه ووَلَّو راجعين وقد***ماتوا بغَيظِهِمُ مِمَّا رأوْ كمَدَا

هذه القصة التي فيها من العِبَر ما لا يُحصى وفيها من الدّلائل ما لا يُستقصى ولا يستطيع أحدٌ أن يوجزه في خُطبةٍ ولا في حديث.

كان فيه من بركة رسول الله  أن نزل في خيمة أم مَعبَد في طريقه ولم تكُن تملك إلا شاةً قد خَلَّفها الجَهْدُ، أي التعب، ولم يكن يحمل شيئًا يستطيع أن يُقيمَ به أَوَدَهُ أو أن يسُدَّ به جوعه ومن كان معه، حتى بارك الله سبحانه وتعالى لها في هذه الشاة إذ درّت فشرب وسقى أصحابه.

مجموع الأحداث التي وَرَدَت في هِجرة رسول الله  تدُلُّ على دلائل، وتُستفادُ منها عِبَرٌ، من تلك العِبَر أنَّ الحَقَّ لا يموت مهما ضيّقَ عليه أعداؤه.

كان موقِعُ رسول الله  في مَكّة، في اقتصادها وعند تُجّارها وعند أثريائها، كان من أضعف الناس، لولا المال الذي تاجر به لزوجه خديجة بنت خويلد لكان من أضعف الناس، وكان أتباعُهُ من أفقر الناس، لذلك استطال عليهم أغنياء قريش، وكان مفهوم الإسلام في هذا هو مُحاربة هذه الطبقية التي فرّقت الناس إلى أحرارٍ وعبيد، وجعلت منهم إماءً وحرائر.

كانت رسالة الإسلام هي محو هذه الطبقية، والتي أصبحت تُعرف اليوم، ويُعبّر عنها بعضهم بكلمة اشتراكية التي ينسُبُها بعضهم إلى أبي ذر، هذه كانت رسالة الإسلام بمحو هذه الطبقية، هذا الفارق الطبقي.

هذه الفوارق الطبقية هي التي جعلت الناس على درجات وهي التي مكّنت بعض الأقوياء والأثرياء من استغلال الضعفاء، ومن جعلهم بمنزلة العبيد لهم.

أول رسالة من رسالات الإسلام هي تحرير الإنسان، تحريره من عبادة المادة التي تُمثلها النِّخاسة والتي يُمثّلها الاسترقاق.

تحرير الإنسان من عبودية العبد وإطلاقه من أجل أن يكون عبدًا لله وحده، أطلقوا الإنسان من عبودية العبد من أجل أن يكون عبدًا لله عز وجل، (لا تكُن عبدَ غيركَ وقد خلقك الله حُرًّا).

هذه العبودية التي فرضها الظلم الاجتماعي، كانت من أول رسالة للإسلام هو تدمير هذه الطبقية وجعل المال بين الناس اشتراكية، لا يصِحُّ أن يتشارك به الجميع، ولكن تقِلُّ هذه الفوارق الطبقية فيه بين الناس.

الأمر الثاني والعِبرَة الثانية والفائدة أنّ الإنسان ينبغي إذا ضاقت به الأرض في مكان ما، أن لا يقتصر على الإقامة فيها. (خيرُ البلاد ما حملكَ

ولو استقام بمكٍّةٍ لمُحَمَّدٍ ما رامَ***لم يطلُب بيثرِبَ مِنبَرا

فالحق لا يُحصرُ في مكان والرزق لا يُحصر في مكان.

مما يجب أن يتعلَّمَهُ أحدُنا من الهجرة هو أن المكان إذا ضاق فيه، ووجدَ أهلًا للحق في مكانٍ آخر، فليعلم أن اللهَ سبحانه وتعالى لا يُفضّل أرضًا على أرض إلّا بأعمال أهلها.

أن يخرُجَ من المكان الذي فيه الضيق، وفيه العَناء إلى مكانٍ فيه السَّعَةُ وفيه الرزق وفيه الخير. 

من جُملة هذه الفوائد أنَّ الإنسان إذا أطاع نبيّه سُمِّيَ في ذلك الوقت مُهاجرًا، وسُمِّيَ الذي كان في يثرب ونصر النبيَّ من الأنصار. هذه الفئة التي آخى بينها رسول الله  ، آخى بين الأنصار وآخى بين المهاجرين والأنصار، على ماذا؟! 

آخى بينهم على الحق والمواساة، ألّا يظلمَ بعضُهُم بعضًا، وألّا يستأثر أحدٌ منهم بشيءٍ يكون يرى أخًا من إخوانه في هذا الدين يكون فيه أحوجَ إلى ما يستأثر به، ولذلك جعل اللهُ سبحانه وتعالى الإسلام مبنيًّا على الإخاء، وقبل أن تنزل الآية الكريمة وَأُولُو الْأَرْحَامِ هذه الآية التي نسخت هذا التوارث، كانت في بداية الإسلام كانت المواريث أن يرث الإنسان أخاه من الإسلام ومن الإيمان ولذلك حين آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار جعل المواريث بينهم، ثمّ نُسخت هذه الأحكام وحَلَّ محلَّها الميراث في الأرحام.

اليوم إذا نحن نظرنا في تاريخ هذه الهِجرة، واستعرضنا جانبها التاريخيّ، بقي علينا أن ننظر في جانبها المُعاصر والمعنويّ والمُستمر.

أين تكون هذه الهِجرة، في الحديث النبويّ (المُهاجر من هَجَرَ السيّئات).

الهجرة اليوم بعد هِجرة رسول الله  مَن هَجَرَ فيها ذُنوبه، مَن هَجَرَ فيها سيّئاتِه، مَن هَجَرَ فيها أخطاءَه. (المُهاجر من هَجَرَ السيّئة).

من استطاع أن يهجُرَ الخطأ والمعصية فذلك مُهاجر في سبيل الله، ومُتَّبِعٌ رسول الله  ،مُنتقلٌ من مكان الضيق إلى مكان السَّعَة، من مكان الظلم إلى مكان العدل، خارجٌ من طَوْرٍ إلى طَوْر، مكان أن يكون ظالمًا ومادِّيًا ينتقل إلى مكانٍ يكون فيه عادلًا ومُنصفًا وروحانيًا.

هذه هي الهِجرة التي يجب أن نبحثَ عنها، وأن ننظُرَ كيف نُهاجر فيها (إنّما المُهاجر من هَجَرَ السيّئات).

هذه الهِجرة التي يجب أن تكون في كُلّ يومٍ من أيامنا، أن يكون أحدُنا مُهاجرًا إلى الله وإلى رسول الله. 

مُهاجرًا إلى الله وإلى رسوله، يعني خارجًا من كُلّ قيدٍ يمنعُهُ من هذه الهِجرة، مُطيعًا لله، مُتّبعًا سُنَّة رسول الله.

من أين فرَّ خاتم النبيين، فرَّ من مكة من الضيق، فرّ من المُكذّبين، فرّ من الجَهَلَة، فرَّ من الأذى، وخرج إلى المدينة.

كذلك ينبغي أن يكون المُسلم وينبغي أن يكون مُتّبع رسول الله، يجب أن يخرجَ بدينه من الظلم ومن الأذى ومن السوء ومن الفاحشة، حتّى يصِلَ إلى مكان العدل والحُرّية ليكون بذلك مُهاجرًا إلى الله وإلى رسول الله.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم مِمَّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّدٍ صلاةً تقبل بها صلاتنا، وتُجيب بها دُعاءنا وتغفر بها ذَنبنا، وتمحو بها سيّئاتنا، وتُغني بها فقرنا، وتجبُر بها كسْرنا، إنّك على كُلّ شيء قدير.

عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون ﴿النحل 90

اللهم اجعلنا ممّن ذكّرته فتذكّر، وزجرته فانزجر، وأسمعته فسمع وبصّرته فأبصر.

أقول قوليَ هذا وأستغفر الله لي ولكم.

هذه كانت الخطبة الأولى من صلاة الجمعة في 21 آب 2020م
لفضيلة الشيخ تمّام أحمد حفظه الله
مسجد الإمام جعفر الصادق (ع) \ قرية عين حفاض \ صافيتا