إنّما يُحقّق الإنسان ذاته ويُحيي مولد نبيّه بقَدْرِ استِنارَةِ قلبه مِنَ القِيَمِ والأخلاق.
هذه الخطبة الأولى من صلاة الجمعة في 15 تشرين أول 2021م
لفضيلة الشيخ تمّام أحمد حفظه الله
مسجد الإمام جعفر الصادق \ قرية عين حفاض \ صافيتا
في هذه الأيام ذِكرى غيّرت كثيرًا من تاريخ الإنسانية، واقعةٌ عظيمةٌ أراد الله سبحانه وتعالى بها لعباده أن يرجِعوا إلى إنسانيتهم، أن يرتدّوا إلى أخلاقهم، أن يعودوا إلى ضمائرهم؛ اليوم الذي أكرم اللهُ سبحانه وتعالى به عباده بولادة خاتم النبيين، سيدنا محمد .
هذه المناسبة الجليلة التي جاءت في هذا الشهر الكريم، شهر ربيع الأول هي مناسبةٌ أعدَّ الله بها سبحانه وتعالى لعباده مكانةً عاليةً بين الأُمم، وأراد أن يرُدّ لهم أمجادهم، وأراد أن يرُد لهم قِيَمَهُم التي كانوا قد أهملوها، والتي كان الشيطان قد أنساهم بعضها، واستولى على قلوبهم فيها، فأرسل الله عز وجل نبيّه هاديًا ومُذكّرًا وبشيرًا ونذيرًا.
بماذا أراد أن يُذَكِّرَ الناس، ولماذا أتاهم؟
إذا أردنا أن نَصِفَ حال الجاهلية نجدُ أقوالاً شتّى، لكنّ منها قول سيدنا جعفر بن أبي طالب حين استدعاه ملك الحبشة النجاشيّ ليسأله: لماذا فارقتم قومكم، ما هذا الدين الذي خالفتم فيه قومكم، وتركتم فيه أرضكم! فلم تدخلوا فيه! ولم تدخلوا في ديني! ولم تدخلوا في دين غيركم من الأمم؟
فقال جعفر بن أبي طالب :
أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فبعث الله عز وجل فينا نبيا ورسولا منا، نعرف صدقه ونسبه وأمانته وعفافه، فأمرنا أن نعبد الله وحده، ونخلع ما كنا نعبد من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بالصلاة وبالصيام وبالزكاة وبأداء الأمانة، ونهانا عن الدماء والفواحش، أمرنا أن نجتنب قول الزور، أن نجتنب الأخطاء أن نجتنب الفاحشة، أن نجتنب الظلم...
لو أردنا أن نصِفَ أحوالنا في هذا العصر لوجدنا فيها كثيرًا ممّا جاء في هذه الكلمة الكريمة؛ القوم في الجاهلية كانوا يُسيئون الجِوار، يقطعون الأرحام، يأكلون المَيْتة، يعبدون الأصنام من دون الله، يعدو القوي فيهم على الضعيف، يستعبد الغني منهم الفقير... فهل ابتعدنا كثيرًا عن هذه الحال!
نحن نعيش الأحوال نفسها، التي عاشها القوم في الجاهلية.
كثيرٌ منّا يُسيءُ جِوارَ مَن جاوَرَه، وكثيرٌ من الأقوياء يُهينون الضعفاء، وكثير من الأغنياء يمتصّون دم الفقراء، وكثير منهم يأتون الفواحش، يستطيلون، يتعالَوْن، يظلمون، لا يُشبعهم شيءٌ من حُطام هذه الدنيا.
فإذا أردنا أن نحتَفِيَ بميلاد رسول الله فلنعلم أنّنا نقِفُ على مولده في هذا العصر حين نُحي ضمائرنا، حين نُحي أخلاقنا، لأنّ الله عز وجل بعثه والناس في هذه الحال من الظلم ومن الاستبداد، ليُنقذ الناس من هذا الظلم، ليَدعُوَهُم إلى مكارم الأخلاق، فمن دعا الناس إلى مكارم الأخلاق فهو ممّن وُلِد رسول الله في قلبه، من استطاع أن يُجدّد الضمير في نفسه فهو ممّن وُلد رسول الله في قلبه.
رحم الله الذي قال:
ما دامَ قلبُكَ فيهِ رحمَةٌ للناس فأنت امْرُؤٌ في قلبِكَ اللهُ عز وجل.
من أرادَ أن يحتَفِيَ بمولد رسول الله ، فليُحيي عقله وليُمِت شهوات نفسه، فإنَّ رسول الله ما بُعِثَ إلَا ليُحْيِيَ الضمائر، وإلّا لِيُحَرِّكَ الأخلاق، ما بُعِثَ إلَا لِيُخرِجَ الإنسان من شهوته إلى عقله، من ظلمه إلى عدالته، ليَرُدَّ له إنسانيَّتَهُ، ولذلك يكون الاحتفال بمولد رسول الله في هذا العصر حين نُحيي أخلاقنا، حين يلتزم التاجر بما يُرضي ربّه، وحين يلتزم العامل بما يُرضي ربّه، حين نُحسن جِوارَ جيراننا فنحن نخرجُ من الجاهلية إلى الإسلام.
إذا كان الله عز وجل بعثَ نبيّهُ ليُخرج الناس من ظلمات الجهل والجاهلية والتعصب إلى نور الإنسانية والعدل، فليَنظُر فيما كانوا عليه وليجتنبه يكن بذلك ممّن خرج من الجاهلية إلى الإسلام.
أن يجتنب الفواحش، أن يُحسن جوار الناس، أن يصِلَ رحِمَهُ، إنّنا نسمع كثيرًا من عقوق الأرحام، ما لا يستطيع العقل أن يتقبّله، ولا النفس أن تتحمّله، الولد يقتل أباه والأخ يقتل أخاه، كُرما شيءٍ من فانيات هذه الدنيا، ومن حُطامها، فبماذا نختلف عن الجاهلية!
هم كانوا يقطعون الأرحام، وإنَّ أكثرنا اليوم يقطع الأرحام.
إذا سُلِبَ الإنسان الرحمة من قلبه، فاعتدى على أبيه وعلى أمّه وعلى أخيه، فليس من الجاهلية فليس من الجاهلية ببعيد.
إنّما يُحيي مولد رسول الله حين يذكُرُ قول الله عز وجل: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴿الإسراء 23﴾.
حين يَصِلُ رَحِمَهُ، حين يرعى أخاه، حين يرحمُ أباه، حين يحنو على الصغير، وحين يُشفق على الكبير، حين يُجلَه وحين يحترمه، حين تملأ الرحمة قلبه يكون بهذا ممّن أحيى مولد رسول الله .
من ألطف هذه المعاني قول الشيخ عبد اللطيف إبراهيم طيّب الله ثراه:
قدّمت لنا الحضارة كثيرًا، ولكنّها سلبنا قِيَمَنا وَضَمائِرَنا وأخلاقنا وأخرجتنا من إنسانيتنا، وهو رحمه الله يقول في هذا المعنى:
إنّما يُحقّق الإنسان ذاته ويُحيي مولد نبيّه بقَدْرِ استِنارَةِ قلبه مِنَ القِيَمِ والأخلاق.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم مِمَّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّدٍ صلاةً تقبل بها صلاتنا، وتُجيب بها دُعاءنا وتغفر بها ذَنبنا، وتمحو بها سيّئاتنا، وتُغني بها فقرنا، وتجبُر بها كسْرنا، إنّك على كُلّ شيء قدير.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿النحل 90﴾
اللهم اجعلنا ممّن ذكّرته فتذكّر، وزجرته فانزجر، وأسمعته فسمع وبصّرته فأبصر.
أقول قوليَ هذا وأستغفر الله لي ولكم.
- 229 مشاهدة