كيف تكون المباهلةُ في هذا العَصْر؟! المباهلة في كل يوم.. كُلُّ إنسانٍ في جسدهِ مُباهلةٌ بين عقله وبين نفسه..

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 11/07/2023 - 07:15

كيف تكون المباهلةُ في هذا العَصْر؟!
المباهلة في كل يوم.. كُلُّ إنسانٍ في جسدهِ مُباهلةٌ بين عقله وبين نفسه..

هذه الخُطْبَةُ الآخرة من خُطْبَتَي الجُمُعَة 30\تمّوز\2021م
من الوقائع العظيمة في تاريخ الإسلام وَقْعَةٌ عُرِفَت بـ (المُباهَلَة)، ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم، والمباهلة تعني في اللغة المُلاعَنَة.

وهو ما يلجأُ إليه الخُصوم بعد أن تنفَذَ الحُجَج، وبعد أن ينتَهِيَ النِّقاش، إذا أصرَّ خصمٌ ما على أن يتمسّك برأيه، ولم يلتفت إلى الحُجَج البيّنات، وإلى الواضحات من الحقائق، تكون بعدها المُباهلة.

وهي الدعاء بإنزال العذاب على من جحد الحق، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى:

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴿آل عمران 61﴾ من حاجَّ واستمر في الخُصومة وفي المُجادلة. 

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ هُنا يجتمع عند المُباهِلِ أن يعتَدَّ بقوّته لا بقوّة خالقه، يُريد أن يبرُزَ للمُلاعنَة للمُباهلة، فيجب عليه أن يتخلّى ويبرأ عن قوّة خالقه إن كان يستطيع. 

فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴿آل عمران 61

أن يدعُوَ الإنسان كُلَّ من يَعتَدُّ به وكُلَّ من يجِدُ فيه قوّةً ونصيرًا ومُعينًا وعضُدًا ليَبرُزَ لخصمه، وليكونا بين يَدَي الله عز وجَل.

فصاحب الحق هو الذي يسأل الله عز وجل أن يُنزل العذاب على من جَحَد، وعلى من دفعَ البيّنات.

كانت هذه الواقعةُ في شهر ذي الحِجَّة، في مثل هذا الشهر، في السنة التاسعة من الهجرة، وفي تاريخ اليوم عِدَّةُ أقوالٍ، بعضُهم جعلها في الرابع والعشرين وبعضهم قال إنها كانت في الخامس والعشرين من هذا الشهر.

نصارى نجران هم قومٌ أرادوا مُجادلة النبيّ في مكانة السيد المسيح  فكانت هذه المُباهلة، ثمّ تراجعوا عنها حين شهِدُوا ما شهِدوا من فَضلِ أمير المؤمنين والسيّدة الزهراء والإمام الحسن والإمام الحُسين ، في الحادثة التي اشتُهِرَت وعُرفت بأهل الكِساء، إذ أدخَلهم النبيّ في الكِساء وتوجَه إلى المُباهلة، حين رأوا عظيم شرفهم وجلالة قَدْرِهم، امتنعوا عن المُباهلة، وصالحوا على جِزيَةٍ كما تقول المصادر التاريخية.

اليوم بعد هذا الزمن الطويل، كيف تكون المباهلةُ في هذا العَصْر؟!

الإنسان إمّا أن يكون صديق نفسه وإمّا أن يكون عدوّها، إمّا أن يكون خَصمَ نفسه، وإمّا أن يكون نصيرًا لنفسه.

الحِكمةُ من المُباهلة، هي أنّه إذا نَفِدَت الوسائل والحُجَج وانتهى النقاش، وبقي من لم يقتنع بالحق، أن يلجأ الإنسان إلى الدعاء.

فإذا كان أحدُنا يريد أن يستدلّ على شيءٍ ما، يُريدُ أن يبحثَ فيه عن خَصْمٍ، فلا يجد لهُ خصمًا غيرَ نفسه، هو إذا عَنَّفَ نفسهُ أو وبّخها وهو يلومها على ما أتى من الأعمال أو من الأفعال أو من الأخلاق، فلينظُر أنّ البيّنةَ إذا كانت واضحةً فلا يُغَلِّبَنَّ شهوتهُ على عقله، ولا يتَّبِعَنَّ سبيل الضلال وهو يرى شمس الهِدايةِ مُشرقة.

كُلُّ إنسانٍ في جسدهِ مُباهلةٌ بين عقله وبين نفسه، إذا توسّطَ الضمير بينهما، تارةً عقلُهُ يغلِبُ على شهواتِه، وتارةً تغلِبُهُ نفسُهُ على عقلِه. فإمّا أن يرتَقِيَ وإمّا أن ينحَدِر.

الخصومةُ التي يُخاصِمُ بها الإنسان نفسه تكون في كُلِّ يوم، تكون في كُلّ دقيقة، في كل ساعة.

كما وَفَدَ نصارى نجران وأٌقيمتِ البيِّنَة، وبقيَ منهم من تمسّكَ برأيه، كذلك تجِدُ عند كثيرٍ من الناس من يرى الحَقَّ واضحًا ثمّ لا يلتفتُ إليه، ولذلك كان في الدعاء: (اللهم، أَرِنَا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتّباعَه، وأرِنًا الباطِلَ باطلًا وارزقنا اجتنابه)، فليست المُشكلة في إقامةِ الحق، إنّما المُشكلة في رؤية الإنسان له! أيراهُ حقًّا.

ولذلك (اللهم، أَرِنَا الحقَّ حقًّا)، كثيرٌ من الناس تخدعهم أعينهم، ولكن القلوب لا تُخدع، إذا كانت على بيّنةٍ وعلى بصيرة.

المباهلةُ في كل يوم، في كل يومٍ نرى فيه الحق، ثم نتجاهلُهُ، فنحن فيه من الخاسرين لأننا خصَمنا أنفُسنا.

(وَالْإِنْسَانُ إِذَا هَجَمَ عَلَى أَمْرٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَدْ جَدَعَ أَنْفَ نَفْسِهِ، وَكَانَ مِنَ الْخَاسِرِين).

قبل أن ننظُرَ فيما لنا من حقوقٍ فلننظر فيما فُرِضَ علينا من الفروض، وفيما وَجَبَ علينا من الواجِب، لنكون بذلك من العادلين، ممّن لا يأخُذُ ما ليس له بحق، وممّن لا يطلُبُ حقّهُ حتى يُؤَدِّيَ ما عليه.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم مِمَّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّدٍ صلاةً تقبل بها صلاتنا، وتُجيب بها دُعاءنا وتغفر بها ذَنبنا، وتمحو بها سيّئاتنا، وتُغني بها فقرنا، وتجبُر بها كَسْرنا، إنّك على كُلّ شيء قدير.

عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿النحل 90﴾ 

اللهم اجعلنا ممّن ذكّرته فتذكّر، وزجرته فانزجر، وأسمعته فسمع وبصّرته فأبصر.

أقول قوليَ هذا وأستغفر الله لي ولكم.