خطبة بمناسبة مولد خاتم الأنبياء سيدنا محمد ص وآله: المتاعب التي تعرّض لها الرسول. للشيخ عبد الكريم علي حسن الخطيب عفى الله عنه.

أُضيف بتاريخ الجمعة, 18/02/2011 - 14:39

خطبة بمناسبة مولد خاتم الأنبياء سيدنا محمد ، بعنوان (المتاعب التي تعرّض لها الرسول)، وقد أُلقيت من على منبر مسجد الإمام علي  في طرطوس في ستّينيات القرن الماضي وهي للمغفور له فضيلة الشيخ عبد الكريم علي حسن الخطيب .. وقد نقلناها من كتابه ""الكَلِمُ الطيّب" المطبوع سنة 1968م والذي يشتمل على خطب وبحوث إسلامية..

 

الحمد لله............................ وبعد

أيّها الأخوة المؤمنون:

كانت الأمّة العربية في جاهليتها تعبد آلهة متعددة، فأهل اليمن كانوا يعبدون الشمس، وكنانة كانوا يعبدون القمر، وخزاعة كانوا يعبدون الشعرى، وأهل مكة ومن حولها كانوا يعبدون الأصنام المصنوعة من الحجارة والحديد وغيره، ولقد عدّد بعضهم الأصنام التي عُبدت من دون الله في الكعبة بثلاثمئة وستين أعاذنا الله وإياكم من الشك والشرك..

وتعدّد الآلهة يا سادة: سبّب تعدّد الآراء والأهواء والتقاليد والعادات السيئة، كوأد البنات، والأخذ بالثأر، والنهب والسلب والمُفاخرة بالآباء، والأولاد، والأموال، والخطب والأشعار.
هكذا كانت الأمة في جاهليتها، آراء متفرقة وأهواء متباينة، وتحكما مريراً، وتسلطاً قاسياً من الدول المجاورة لهم، كالروم، والفرس، والحبشة، ممّا سبّب الفقر والذل والجهل..
في وسط هذا التيار الجارف، وفي هذا البحر المضطرب المائج وفي حلكة هذا الليل المظلم:

وُلدَ الهُدى فالكائناتُ ضياءُ
وفمُ الزمان تبسّم ورواءُ

وُلد محمد  ولكن لا كما يولد أبناء الملوك والأغنياء، بل وُلِدَ فقيرًا مُعدَمًا كما تولد أبناء الفقراء.
وُلدَ يتيمًا مات أبوه قبل ولادته بثلاثة أشهر، فحُرمَ عطف الأب، وأُرسل إلى البادية، ورُبّيَ بين رُعاة الإبل والغنم والماعز، ثم عاد إلى مكّة فماتت أمّه ولم يكن له من العمر إلا ست سنين، فحُرمَ حنان الأم، وتكفـّله جدّه عبد المطلب، ولكنه مات بعد موت أمّه بسنتين، وضمّه عمّه أبو طالب وربّاه ودافع عنه وجافى المجافي لأجله، ورعى الغنم لأهله في مكة، وقال: (ما من نبي أرسله الله إلا وأرعاه الغنم، يُعلّمه بذلك رعاية الناس).
قيل له: وأنت يا رسول الله؟!
قال: نعم، رعيتُ الغنم لأهلي بالقراريط.

هكذا وُلدَ محمد  فقيرًا يتيمًا، لا مال، ولا أبوان، وهكذا كانت بداية حياته مملوءة بالأسى والمتاعب، محفوفة بالمكاره والمصاعب، ومَنَّ الله عليه، فاختاره للرسالة وأيّده بنصره وبالمؤمنين، فآواه إليه بعد اليُتم، وهداه إلى معرفته بعد الضلال، وأغناه بعد العيلة والفقر، قال تعالى:  أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى 6 وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى 7 وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى 8 سورة الضحى.

ومَنّ الله على هذه الأمّة المُستضعفة المفرّقة والمختلفة الأهواء، وأوجد فيها هذا الرجل العظيم، وبعث فيها هذا النبي الكريم، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ 2 سورة الجمعة.
فوحّد كلمتها، وقوّى شوكتها، وخلّصها من تحكّم الدول المجاورة، ومن مساوئ العادات السيئة، وطهّرها من الشرك، وأرشدها إلى عبادة إله واحد : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ  سورة الإخلاص.

وبهذا فقد جمع تلك الآراء المتفرقة بالعبادات والنزعات إلى رأي واحد، وجميع تلك العشائر والقبائل والبطون والأفخاذ إلى أمّة واحدة، تحت لواء واحد: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ 92 سورة الأنبياء.

هكذا ابتدأ الإسلام من كلمة التوحيد، ومن تحقيق الوحدة فخلّص الأمّة التي وجد فيها الفساد، وانتشلها من براثن الذل، وأجلسها على عرش العزّة، وتلى عليهم قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ 8 سورة المنافقون.

وهكذا وُجد مع مولد النبي  الإسلام الذي أوجد الحُب والمساواة والعدل، وحرّم الكذب والنفاق، والخيانة والدّس، ومن لم يتقيّد بهذا عمليًا، فما أسلم، ولا آمن بالنبي العربي، نبي المسلمين الذي قال: (لا يُؤمن أحدكم حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه).

وآخى بينهم على الخير، وباعد بينهم وبين الشر، وقرأ عليهم قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ 10 سورة الحجرات.
فتعاونوا وشد بعضهم أزر بعض، وكانوا كما قال : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا).

كل هذا كان بمولد الرسول، وبسرّ عنوان كلمة الإخلاص،  وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ..  
 لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ..
 لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

أوحى الله بهذا إلى نبينا محمد  فأعلنها في أندية القوم وفي أسواقهم، قولوا: لا إله إلا الله.
وقرن بها كلمة ثانية بعد الوحي، قولوا: محمد رسول الله.
بهذا أذّن مؤذن محمد في أصحابه، وبهذا أذّن أصحاب محمد بالناس، أذّنوا وارتفعت أصواتهم بالآذان:
حي على الصلاة
حي على الفلاح
حي على خير العمل
والله أكبر
ولا إله إلا الله...

ومن أجل هذا وُلد محمد  وبهذا صرّح، وإلى هذا دعا، وصدق الله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.. 285 سورة البقرة.
هذا ما يجب أن نحتفل به، وهذا ما يجب أن نردده ونعمل به في يوم المولد، والسلام عليكم ورحمة الله.