الإعراض عن الجاهلين.. عُظماء الرجال لا يأبهون بضعاف النفوس والأفهام، ولذلك يغضّون الطرف عن كلامهم ولو كان مريرا وجارحا... خُطبة للشيخ عبد الكريم علي حسن الخطيب عفى الله عنه.

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 22/02/2012 - 13:32

خُطبة بعنوان (الإعراض عن الجاهلين)، وقد أُلقيت من على منبر مسجد الإمام علي  في طرطوس في ستّينيّات القرن الماضي  وهي للمغفور له فضيلة الشيخ عبد الكريم علي حسن الخطيب .. وقد نقلناها من كتابه ""الكَلِمُ الطيّب" المطبوع سنة 1968م والذي يشتمل على خطب وبحوث إسلامية..

 

الحمد لله..................... وبعد

قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ...

أيّها الأخوة:

هذه الآية الكريمة، جامعةٌ لمكارم الأخلاق، فهي تأمر الإنسان أن يأخذ من الناس أو من أفعالهم ما سَهَل، وأن لا يطلب منهم ما شق عليهم أبدًا، ثم يأمرهم بالمُستحب المُستحسن من الأفعال، وعلاوة على كُل ما ذُكِر، لا يُكافئهم على أفعالهم بمثلها، ومثاله قوله تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

ثم تأمر المؤمن، بأن لا يصرف وقته الثمين بتوافه الأشياء، فهو أكبر من ذلك، ووقته أغلى وأثمن.

ثم تُلفت النظر إلى أنّ الإنسان الكبير أرفع من أن ينحطّ إلى الحضيض ليُماشي صغار الناس، صغار النفوس والعقول، وخُلقُهُ الكريم أكرم من أن ينزل إلى مستواهم، ووقته الثمين أغلى من أن يقضيه في تتبّع حركات وسَكنات الآخرين، ومن هنا يُعرف عُظماء الرجال...

فعُظماء الرجال لا يأبهون بضعاف النفوس، ضعاف الأفهام، ولذلك يغضّون الطرف عن كلام الصغير، والأُذن عن كلام البليد، حتى ولو كان مريرًا وجارحًا، ويترفّعون عن خصومة أو عداوة أوجَدتها أنفس صغيرة، ولو فيها بعض الأذى، وكلما كان الرجل أعظم ونفسه أسمى كُلّما كان أصفح وأعَفّ، وأرفع عن الدنَايا، وأبعد عن الإنتقام.

هذا رسول الله  يُوضَعُ الدم والغرث على رأسه، وهو ساجدٌ، تنكيلاً وإمعانًا بالأذيّة، فيرفع رأسه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون)..

ومَثَلُ الرجال العِظام مع صغار النفوس كمثل الرياح الهُوج والعواصف العاتية، تقتلع النخلة الباسقة، وتزعزع البناء الشامخ ولا تعبأ بصغار الحشيش...

أمّا صغار الناس ذوو النفوس المريضة، والصدور الضيّقة، والعقول السخيفة، لا شغل لهم، إلاّ مُعاداة هذا، والطمع على ذلك، وتتبّع عورات أولئك، ذلك لأنّ العداوة نبتة خبيثة، لا تنبتُ إلاّ في النفوس العَفِنة، ولا تورق إلاّ الشوك والحسك، ولا تُثمر إلاّ الأقذار والأوساخ..

فالحقد والضغينة، والعداوة والطعن، وسرعة الإنتقام، وما شاكل هذا دليلٌ على انحطاط النفس، ووساختها وتمرّغها بالأوحال، وليس هذا من صفات الرجل العظيم، الذي يترفّع عن الدنايا عملاً بقوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

ويقول الرسول : (المؤمن ليس بحقود، ولا بحسود.).

وبقوله : (ليس المؤمن بالطعّان، ولا الفاحش البذيء.).

وقال  وقد رأى رجلين يتشاتمان: (المتَسَابّان شيطانان، متعاديان، مُتهاتران.)..

هذه سيرة مُعلّم الإنسانية محمد بن عبد الله . تنكّر له أهل مكّة، وشدّدوا عليه النكير، وتآمروا عليه، وأخرجوه من بلده، واغتصبوا كُل ما يملك هو وأتباعه، ولمّا نصره الله عليهم، قال: ماذا ترون أنّي فاعلٌ بكم؟؟ قالوا: أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريمٍ، فقال: (اذهبوا فأنتم الطُلقاء)..

وهكذا أعطى رسول الله  درسًا بليغًا لكل الناس، وعلّمهم كيف يكون الترفّع عن التشفّي والإنتقام، وكيف يكون الإعراض عن الجاهلين.

وبلغ النبي  أنّ قومًا من أصحابه يشتمون أبا جهل في وجه ولده عكرمة، وعكرمة هذا من أحسن المسلمين إسلامًا، ومن أحبّهم إلى رسول الله ، فوقف خطيبًا وقال: (أيّها الناس، عِكرمة أخوكم، ولقد بلغني أنّ أقوامًا منكم يشتمون أباه في وجهه، فلا تفعلوا، لأنّ الشتم يُؤذي الحَي ولا يَصِل إلى المَيّت..).

الله أكبر ما أجمل هذا القول، وما أعظم هذه الأخلاق، ينهي رسول الله  عن شتم الميّت حتى ولو كان كافرًا، إذا كان في ذلك الشتم ما يُؤذي الحَي المؤمن، وسار على هذه السيرة العظيمة من الترفّع عن سواقط الأمور صحابته الكرام، رضوان الله عليهم جميعًا...

وأحسن من طبّق هذه السيرة الطيبة، وسار على هذا النهج القويم، بعد الرسول ، إمام المُتقين، وقائد الغر المُحجلين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .

حدثت الفتنة الأولى في الإسلام، علي وأهل بيته وشيعته وأتباعه، يحافظون على حقّهم المشروع، ومعاوية وأنصاره وأعوانه، يريدون اغتصاب هذا الحق، وانتزاعه من أيدي أصحابه بلا مُبرّر، وبالقوة الغاشمة.. 
والتقى الجيشان على شاطئ النهر، وسبق جيش معاوية إلى الماء فشربوا وتمركزوا على الشاطئ، يمنعون جيش علي من ورود الماء ومن شربه حتى كادوا يموتون عطشًا، فأخذ أتباع علي  يشتمون خصمهم، وبلغ ذلك الإمام ، فوقف فيهم خطيبًا وقال: (لا تشتموهم.)، فقام بعض المتحمّسين وقال: ولماذا؟ ألسنا على حق!؟
قال الإمام: نعم، فقال الرجل: أليسوا على باطل؟ قال الإمام: نعم، فقال الرجل: إذًا ولماذا؟؟ فقال الإمام عليه السلام: (لأنّي لا أرضى لكم أن تكونوا شتّامين.).

فيا مسلمون، يا عرب، يا أهل الدين، يا أصحاب الولاية:

أميــر المؤمنين، لا يرضى لكم أن تكونوا شتّامين.

ورسول رب العالمين لا يرضى لكم شتم الكافر، إذا كان شتمه يُؤذي المؤمن.

والله رب العالمين لا يرضى لكم أن تسبّوا ما يعبده المشركون من دونه إذا كان ذلك السب سببًا لمسبّة الله عزّ وجلّ. قال تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ..

  كُلُّ هذا ترفّعٌ عن الدنايا، وإعراضٌ عن النزول إلى مستوى أهل الجهل.

  صدق الله العظيم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

  جعلنا الله وإياكم ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.