تمهيد (حال البلاد في ظل الاستعمار العثماني والأوروبي)

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 07/04/2021 - 07:06

تمهيد


نُكبَ المجتمع العربي بالسيطرة الإستعمارية العثمانية سنة 1517، ثم الأوروبية 1798، فعانى هذا المجتمع من أسوأ أنواع الذل والفقر والمرض والتأخر.

وقد كان الإستعمار التركي جاهلاً وغبيًا وأحمقًا! ولم يكن همّه إلا استنزاف ثروات الشعوب بكل ما أوتيَ من جشع، حتى الصُّنَّاع المهرة فقد ضنّ بهم على أوطانهم، فنقلهم إلى القستنطينية لينهضوا بصناعته، ويرضوا الحاجات الجديدة للطبقة الغنية التي ظهرت في المجتمع العثماني نتيجة ما استنزفته من خيرات نهبية من الشعوب.

فقد كان السلاطين العثمانيون لا يُوَلّون وُلاتَهُم على الأقاليم العربية، إلاّ لمدة قصيرة، خيفة أن يستقلوا بهذه الولايات، فكان هَمُّ الولاة أن يجمعوا أكبر ثروة ممكنة في مدة حكمهم القصيرة، لكي يتمتعوا بها حينما يُعزلون من أعمالهم.

ولم يكن السلاطين ولا الوزراء أقل منهم جشعًا، بل كانوا لا يسمحون بتعيين والٍ ولا بإبقائه في وظيفته، إن لم يُوالِهِم بالرشاوى والهدايا، فكان جهل الولاة وغطرستهم وجشعهم واحتقارهم للشعب، هي كل ما أعطوه للمجتمعات العربية من جهودهم، ومع ذلك نهبوا ثروات البلاد، وأهملوا إصلاح مرافقها، وأغلقوا المدارس ودُور الكتب، ووَصَمُوا أصحاب البلاد بأنهم فلاحون وأما هم فكانوا السادة الأشراف المُترَفين.

وبلغ من سوء الأحوال الإقتصادية والإجتماعية في البلاد، أن كان كثيرٌ من العرب يفرُّ من بلاده إلى بلاد أخرى، لعلّه يجد فيها ظروفًا أفضل أو شرًّا أقل، وكانت الحروب المستمرة بين الولاة وبعضهم، وبين الوطنيين والمستعمرين، وبين الجنود العثمانيين وغيرهم من جنود المرتزقة، من الظروف المضطربة الدائمة، التي كان الناس يعيشون فيها قلقين على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وكانت أسواق النخاسة هي أكثر الأسواق رواجًا في تلك العصور السوداء، لذلك يُجمِعُ المؤرخون على أنّ المجتمع العربي في تاريخه الطويل، لم يمرّ بفترة أسوأ ولا أظلم من فترة السيطرة الإستعمارية العثمانية.

وكانت السيطرة الإستعمارية الأوروبية لا تقل عنها سوءًا، إلا أنّ الإستعمار الأوروبي كان استعمارًا ذكيًّا! فكان ينهب البلاد ويستنزف ثرواتها حسب خطة موضوعة بدراسة وعلم، فلم يترك مصدرًا من مصادر الثروة إلا نهبه، ولم يترك بابًا من أبواب المجد أو العلم للشعب المغلوب إلا أغلقه، وضرب على هذا الشعب الذل والخنوع والرضا بالقليل، وحرّم عليه التجارة والصناعة والزراعة إلاّ ما يخدم مصالحه ويوطّد أركانه إلى الأبد..

ورغم أنّ الإستعمار قديمٌ في تاريخه، إلا أنّ قديمه كان يكتفي من استعماره بالفخر بفتوحاته والإستيلاء على الغنائم من الشعوب وممتلكاتها وفرض الضرائب عليها كل سنة، إلا أنّ الإستعمار الحديث لم يكن يرضى بأقل من استنزاف دماء الشعوب كلها وتركها في أحطّ درجات الذل والهوان، وكان الإستعمار الأوروبي يستعين في ذلك بالحروب والمؤامرات والإعدامات والتجويع والحصار الإقتصادي، وبالتستر وراء فريق من الخونة، يحركهم لتنفيذ تعليماته، وبالتفرقة بين الطوائف، وبالتجزئة للشعب الواحد، وبالتخلف الإقتصادي والإجتماعي، وبتشجيع الخيانات وترويج الآراء الكاذبة التي تؤدي إلى تحطيم الروح المعنوية، وبالوقيعة بين الشعوب وحكوماتها، وتحريض كل جانب على الآخر، وبسرقة الآثار والمخطوطات العربية وبكل ما يُمكن تصوّره من وسائل وحشية وغير إنسانية لتأكيد سيطرته وإبقائها.

ومنذ أن دفع المستعمر الفرنسي جحافله في أوائل هذا القرن، على قطرنا العربي السوري، هبّ شعبنا لمقاومته، وهو يكاد يكون أعزلاً إلا من سلاح الإرادة المُصَمِّمَة، ولم تكن القوة العسكرية متكافئة بل كان التفاوت فيها كبيرًا، غير أنّ شعبنا أراد وصمّم، وكانت ثورة الشيخ صالح العلي أول إنذار للمستعمر بأنه سيواجه في هذا البلد شعبًا ذا إرادة لا تلين، وتصميم لا يُقهر، فتتابعت الثورات، وكان الموت يترصد جنود المستعمر في كل مكان.. إلى أن انتصرت إرادة شعبنا، وجَلَت القوات الفرنسية بعد أن أرغِمت على الجلاء.

كانت زعامة الشيخ صالح العلي لهذه الثورة الوطنية، زعامة الجدير بقيادتها.. زعامة أول من يثورون ويُطلقون على جنود المستعمر الفرنسي الرصاص..

لم يكن مناضلاً من هذه الأمة تابعًا لها منفذًا لرغباتها فحسب، بل هو السابق لتفكيرها، الذي استطاع أن يتوسّم بحدسه ما تتطلع إليه، فحققه لها قبل أن تطالب به، مؤكدًا أنّ الزعامة الناجحة تعتمد على نفوذ البصيرة وتقوّي الحوادث، أكثر مما تعتمد على الديبلوماسية..

ولهذا فقد كان عليَّ -وأنا أخوض غِمار هذا البحث- أن أقوم باستقصاء الوثائق التي خلّفتها الثورة، وتتبّع الحوادث التاريخية، لكنني وبعد جهدٍ طويل أدركت أنّ وثائق الشيخ صالح العلي سُرقت كلها من بين ما سُرق للشيخ من أمتعة وأموال وأثاث بعد وفاته، وإنّ السارق لم يكن يُدرك مدى أهمية هذه الوثائق وقيمتها التاريخية، إلا أنه لم يُظهرها فيما بعد خوفًا من وخيم العاقبة وسوء النتيجة.

اطّلعت على معظم الفهارس والوسائل المُستحدثة.. وأنا أبحث عن الكتب التي تناولت ثورة الشيخ صالح العلي، فوجدتها قليلة جدًّا..!!

بحثتُ عنها.. واستطعت أن أحصل عليها.. فقرأتها.. وتمعّنت في بواعثها.. ووقائعها، وكم سُررتُ عندما وجدت بين مؤلفيها أدباء لهم من وفائهم لهذه الثورة وقائدها مواقف وآثار تسجّل بكثير من الإعتزاز.

لم تكتفِ كتب "هؤلاء القلّة" بحمل هوية الأدب والتاريخ في دنيانا العربية فحسب، بل ارتدَتْ ثوب الموضوعية بالقدر المُرتجى من مؤلفيها المنصفين وهم يتجردون من عواطفهم الخاصة، فتفاعلتُ معها مثلما تفاعلتْ هي في نفسي ومَلكت شغاف قلبي، فشربتُ وإياها كأس المشاركة في تخليد هذه الثورة وتمجيد قائدها حتى الثمالة.

ولأنّ منطقة (الشيخ بدر) كانت معقل الثورة ومسقط رأس قائدها، فقد اتجهتُ إليها أتسقّط أخبار الشيخ صالح من أفواه أهله وأصدقائه ورجال ثورته الذين ما زالوا على قيد الحياة.

لم أكد أسمع بصديقٍ للشيخ أو معاصرٍ له، إلا توجّهتُ إليه وأخذت أستنبش له ذكرياته الماضية معه، وقد خرجت من هذه المحاولات برصيد ليس بقليل من المعلومات بطريقة (التواتر والرواية) لكنني لم أزدري أيًّا من هذه الوثائق، أو أُهْمِله، لأن أضألها لدى النظرة الأولى قد يغدو بعد التحقيق أشدّها خطورة وأغناها بالمعلومات.

وعلى مدى سنتين ونيّف، كنت بين هؤلاء كالمستنطق في الدوائر القضائية، الذي يأتي بالشهود والرواة فيستمع إليهم، ويُدقق في شهاداتهم، ويُحقق في إفاداتهم كي يُثبت الوقائع ويستند إليها في الحكم..

ثم جمعت ما قد حصلت عليه من معلومات، فوجدتها أشبه ما تكون بالحجارة المتفرقة التي تحتاج إلى جمع ورصف وتركيب ليتكوّن منها البناء كاملاً أو أقرب ما يكون إلى الكمال، ولكن كثيرًا ما كانت بعض هذه الأحجار مفقودة، فتظهر ثلم وثغرات، كنت أجد ضرورة لسدّها وملء فراغها، وكان سبيلي إلى ذلك الإستنتاج ومُعطيات الحوادث والأحداث، آخذًا بعين الإعتبار وجوب التحلّي بالحذر كي لا يجمح بي الخيال أو يَغرُب بي التكهن، وكي لا أبعد عن الواقع التاريخي الصحيح للثورة. فكان أن وصلت إلى نتيجة واحدة، هي أنّ الشيخ صالح العلي كان قائدًا عقائديًا، لم يقتصر على الفلسفة والعلوم العقلية الدينية فحسب، بل كان له في الأمور العسكرية باعٌ طويل، وقدم راسخة.

ولا يسعني هنا، إلا أن أتقدّم بأعمق الشكر، وأعظم التقدير، للأديب الكبير الأستاذ حامد حسن، على ما خطّه قلمه البارع المصوّر في مقدمته الضافية، ولكني لا أحسب أنني أتسامى إلى وصفه الذي أراده، بل أنه -ببحوثه وكتبه وشعره- قد تسامى إليه وتربّع على عرش معاليه..

وقد حرصتُ على إثبات مقدمته في الكتاب، تقديرًا لأدبه وعلمه وإخلاصه للحقيقة التاريخية، اللذان أمليا على قلمه أحرفه وكلماته وسطوره فالتاريخ التزام بالواقعية، ومسؤولية كبرى..

وأخيرًا:
  • ولأنّ الشيخ صالح العلي قاد ثورته بكل طاقاته.. وسخّر لها كل إمكانياته.
     
  • لأنه قاتل قتال الأبطال بإرادة مصممة وذل وسخاء..
     
  • وضحّى بالنفس والنفيس، فلم يترك للمستعمر فرصةً تمكنه من تنفيذ خططه وبلوغ مآربه.
     
  • ولأنّ الشيخ صالح العلي كان طوال سنيّ نضاله واضح الرؤية والهدف، وكان يَعتبر نضاله جزء من نضال الأمة العربية.. كان يفهم الإستقلال بمعناه الحقيقي.. كان يفهمه إخراجًا لقوات الإستعمار من بلادنا.. وكان يفهمه أن تتسلم جماهيرنا زمام أمورها، وكان يفهمه نضالاً مستمرًا من أجل القضاء على التجزئة، وإقامة الدولة العربية الواحدة.
     
  • ولأنني أرى في قيادة الشيخ صالح العلي لهذه الثورة مادّة بحث غزيرة خصبة.

أقدّم كتابي هذا إلى الذين يحترمون العقل والإنسان والثقافة والحضارة، ويُضيء في أعماقهم شعاع من نور العصر.. لا إلى الذين يشنّون حرب الإبادة لطمس معالم الحضارة وفرض الكهف على الآخرين..

لقد حاولت أن أقوم بواجبي تجاه هذا القائد العقائدي الخالد، بحثًا واستقصاءً وتوثيقًا، حرصًا على الحقيقة وإخلاصًا للتاريخ، ليأتي عملي هذا نقيًّا صافيًا، ويبقى صادقًا و.. يقينيًّا.. وربما ضقت بطنين ذباب ولسعات البعوض، ولكن النغم الصادق لا يرتفع على طنين، والقدم الراسخة الثابتة لا ترتعش أبدًا.