خُطبتا صلاة الجُمُعة في 14 تشرين الثاني 2014م (فيديو)

أُضيف بتاريخ الخميس, 22/10/2015 - 13:24
خُطبتا صلاة الجُمُعَة في 14 تشرين الثاني 2014م + (فيديو)

  موضوع الخطبتين:
- من هو النّاصحُ الذي لا يَغُشّ، والمُحَدّثُ الذي لا يَكذِب؟
- كيف تُكلّمُ الله وكيف يُكلّمُكَ الله؟
- ماذا كان يفعل ابن سينا إذا تعذّرَ عليه شيءٌ من المسائل؟
- الرياضات الروحيّة عند أُمم العالم وفي الحَضارات السابقة كانت المِفتاح لمن أراد أن يرتقيَ..
- ماذا فعلتَ في كتاب الله عز وجل؟
- هل أصبحَ كتابُ الله عز وجل عندكَ مهجوراً ومُهملاً ومَنسيّا؟!!
- ماذا تفعل لئلا تضيع هويّتكُ ولئلا يضيع انتماؤك بين أفكارٍ جديدةٍ قد تدخُلُ في ذهنك وتستقرُّ في قلبك؟
- ضياع الهوية وضياع الإنتماء
- يرجع سلوك الأبناء كما سلك الآباء..
-- بين أن تقول وبين أن تفعل بونٌ شاسع، هذا البَوْن يُمكن تقريبُهُ بماذا؟
-- الإستغفار مع الإصرار، ذُنوبٌ مُجَدَّدَة.
-- (سَكِّنُوا في أنفُسِكُم معرفة ما تعبُدُون، حتى ينفعَكُم ما تُحَرّكون من الجَوارح بعبادةِ مَن تعرفون)
-- (إنّ للمؤمنِ ثَلاث علامات: الصلاةُ والصِيامُ والزكاة)
-- العَمَلُ في البِرَ وتَعَسُّرُ المَعاصي نِعمتان من نِعَمِ اللهِ عزّ وجَلّ. ومن يُحسِنُ فإنّما يُحسِنُ لنفسه..


  الخُطبة الأولى:

  يحتاجُ كُلٌّ منّا إذا كان في حَيْرَةٍ من أمرِهِ إلى من يَنصَحُ لهُ، ويتمنّى أن يجدَ من إذا حدّثَهُ لا يكذِبُ، ومن إذا سأله عن أمرٍ أجابهُ بما يكون فيه خيرُهُ ومَنفَعَتُه.

  من مِنّا لا يُحِبُّ أن يرى مُحدّثاً لا يكذب عليه ولا يُكذّبُهُ ، ومن منّا لا يرغبُ في أن يجد ناصحاً لا يغُشُّهُ، وهو يعلمُ أنَّ مَن غشّ أخاه كما جاء في حديث رسول الله ص وآله وسلم أنّ (من غشّنا فليس مِنّا وأنّ من رأى أخاهُ على أمرٍ يكرهُهُ وهو يقدرُ على تغييره فلم يفعل فقد خانهُ)، وقلّما تجدُ رجلاً تجتمعُ فيه صِفاتُ الصِدقِ إذا حَدَّثَ وصِفاتُ التنزُّهِ عن الغِشِّ إذا نَصَحَ.

  وهناك دليلٌ تجتمعُ فيه هذه الأمور وهو ليس بالمُستصعب ولا بالشيء الذي يتعذّرُ أو يتعسّرُ إحضارُهُ أو حُضورُهُ أو مُحادثتُهُ، ذلك الشيء الذي إذا أردتَ أن يُكلّمكَ الله عز وجل قرأت فيه، كما جاء عن أحد الحُكماء حين قال : أنا أُكلّمُ الله والله يُكلّمُني، فلمّا سُئِل كيف تُكلّمُ الله وكيف يُكلّمُكَ الله ؟ قال: إذا أردتُ أن يُكلّمني الله عز وجل قرأتُ في كتابِهِ، وإذا أردتُ أن أُكلّمَ الله عز وجل صلّيت.

  كتاب الله عز وجل الذي قال سُبحانه وتعالى فيه: { إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }. هو في وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لهذا الكتاب: (هو الناصح الذي لا يغُشّ والمُحَدّثُ الذي لا يكذب، وما جالس أحدٌ هذا القُرآن إلّا قام عنه بزيادةٍ أو نُقصان، زيادةٍ في هُدىً أو نُقصانٍ من عمى).

  إذا أراد أحدُنا أن يبحثَ عن ناصحٍ لا يغُشُّهُ وعن مُحَدّثٍ لا يكذِب، فالقُرآنُ هو الناصحُ الذي لا يغُشُّكَ، وهو المُحَدِّثُ الذي إذا حدّثك لا يكذب.

  فما مِقدارُ اهتمامنا بهذا الناصِحِ الأمين، وبهذا المُحَدّث الذي لا يكذب؟!

  قرأتُ ممّا قرأتهُ في سيرةِ الحكيم العربيّ والطبيب والفيلسوف ابن سينا كان أنّهُ إذا تعذّرَ عليه شيءٌ من المسائل قال: (صلّيت وابتهلتُ وتوسّلتُ إلى مُبدع الكُلّ أن يفتحَ عليَّ حلّاً لهذه المَسائل العِلمية التي لا أعرفُ حَلَّها).
وجاء عنه أيضاً أنه كان يستظهرُ كتاب الله عز وجل مرّة كلّ ثلاثةِ أيّام.

  هذا الرجل الذي عرفنا عنه الفلسفة والحِكمَةَ والطِبَّ وما شاكلَ ذلك من أصناف العُلوم لم نعرف ما الذي أوصلهُ والذي جعلهُ يبلُغُ هذه المرتبة العِلميّةَ العالية، بلى إنّه قرأَ ما سبقَهُ من آثار الفلاسفة وكُتُبِهِم ومِمّا كان يتيسّرُ له، لكنّه كان حين يُعييه البحث وحين يتعذّرُ ويتعسّرُ عليه أن يعرف حلاً لبعض مُعضلاتِ العِلم في زمنه، كان زيادةً على اجتهادِهِ في الدراسة وفي البحث، يذهبُ إلى الصلاة، لأنّه يعتقدُ أنّ الله سُبحانه وتعالى يُهيّئ له بتلك الصلاة ما يُزيلُ عنه تِلك الغشاوة التي كانت على ذِهنِه وما يفتحُ له فيها من مَغاليق العِلم، قال إذا كان تعسّر عليه شيء (كنتُ أذهب وأُصلّي إلى مُبدِع الكُلّ).

  ما مِقدارُ اهتمامِنا بهذا النّاصِحِ الذي لا يغُشّنا، وبهذا المُحَدّث الذي لا يكذب، وبهذه الصلاة التي كان العلماء والعباقرة والفلاسفة ويتّجهون إليها وإن اختلفت حركاتها عمّا نحن فيه؟!.

  كُلّنا يسمع بما يُسمّى بالرياضة الروحيّة الذي إذا أراد الرجُلُ أن يستلهمَ شيئاً من علم الله عز وجل، أو ممّا نُسمّيهِ بغير المُصطلح الإسلاميّ (القوّة المُطلقة)، أو نُسمّيه (الفراغ الفيزيائي) أو نسمّيه ما شئت، القوّة التي تُحيط بالكون.

  الرياضات الروحيّة عند أُمم العالم وفي الحَضارات السابقة كانت المِفتاح لمن أراد أن يرتقيَ وأن يَرقىَ بإنسانيّتِهِ إلى روحانيتها، وأن يكشف عنها ما لحِقَ بها، وما تراكمَ عليها مِن غُبار الغرائز والمقتضيات والطبيعة والشهوات، لذلك جاء في الصلاة أنّها عمود الدين.
وكُلُّنا يعلمُ أنّ مَن صَلّى إنّما يُصَلّي لنفسه، لأنّ الله عز وجل غنيٌّ عنه وعن عمله، ولكنه سُبحانه وتعالى دلّه على الطريق التي إذا سَلَكَ فيها نال خيرَ الدُنيا ونالَ خير الآخرة.
وما كَلَّفَ اللهُ سُبحانه وتعالى عِبادَهُ شيئاً من الحُدود، وما فَرَضَ عليهم شيئاً من الفروض إلّا لمنفعةٍ تُصيبُهُم وإلّا لخيرٍ يرجعُ إليهم، وما حَرَّمَ عليهم شيئاً من الفَواحِشِ ولا من الأطعمةِ ولا من الأشرِبَة إلاّ لأنّ فيها ضرراً يُصيبُ أبدانهُم.

  إذا أراد أحدُنا أن يعرف ذلك الحلال وذلك الحرام، ويعرف صِفة الجنّة ويعرف صِفة النار، ويعرف صِفة المؤمنين ويعرف صِفة المُنافقين، ويُريد أن يأخُذها من المُحَدّث الذي لا يكذب، فلن يجد ناصحاً لا يَغُشُّ ولن يجد مُحَدّثاً لا يكذب بعد كِتاب الله عز وجل الذي { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }.
من أراد أن يُحدّثهُ رجُلٌ لا يغُشّهُ ولا يكذبُ ولا يَفتري ولا يختلق، فليقرأ كِتاب ربّه.

  أليس من العَجَبِ أنَّ أحَدَنا إذا كان له صديقٌ من الأُدباء أو من الكُتّاب أو من الشُعراء وأهدى إليه ديواناً من الشِعر أو أعارهُ كِتاباً استحى أن يترُكَ ذلك الكتاب قبل قراءتِهِ !!!..

  أليس عجيباً أنّ أحدنا يُكرِمُ صديقه ويُكرم أخاه إذا أهداه كتاباً من كُتُبِهِ، فلا يترُكُ ذلك الكتاب حتى يقرأهُ، إن لم يقرأ ذلك الكتاب كُلّه قرأ بعضهُ، من أجل ما يُريد أن يُجيب به صاحبه إذا سألهُ: ماذا وجدتَ في كِتابي أو هل قرأت كتابي، ما رأيكَ بما قُلتُهُ هنا في هذه الفِقرة، ما رأيُكَ بهذه القصيدة، ما رأيك بهذه الجُملَة؟ فإن لم يكُن قرأ الكِتاب وجَدَ في نفسه تقصيراً بحق صديق من أصدقائه أهداه كتاباً لم يقرَأهُ. إذاً كيف تكون الحال إذا كان الكِتابُ كتاب رب العالمين؟!!

  كيف يكون الحال إذا كان أحدُنا يستحي من صديقه أن يُقصّر معه في أمرٍ من أُمور الدنيا فكيف يكون موقفه بين يديّ ربّه.؟!!!

  هذا كتابُ الله عز وجلّ، ما موقفنا حين نقفُ بين يَديّ الله:
ماذا صنعتُم بما أبلغتُكُم؟
كيف أكرمتُم ما جاء به رسولُكُم؟
كيف حَفِظتُم عَهْدَ نبيّكُم؟!
ألا يُوقِنُ أكثرُنا أنّه سيُسألُ عن هذا الأمر؟!
ماذا فعلتَ في كتاب الله عز وجل؟!
ماذا فعلتَ بحديث نبيّه صلى الله عليه وآله وسلّم؟!
هل يجدُ أحدُنا حُجَّةً على الله؟!
هل من حُجّةٍ أنَّ هذا لا أعرفه، وأنّ هذا لم أسمع به بعد أن أوصَلَ إليكَ كُلّ ما يحتجُّ به عليك؟!
أليس عجيباً عن يكون في أذهاننا من المَحفوظات ما لا نستطيعُ لو أردنا استرجاعه اليوم، ما لا نستطيع حِفظهُ واستيعابه، وأن يكون كتاب الله عز وجل مهجوراً ومُهملاً ومَنسيّا؟!!

  يرجع سلوك الأبناء كما سلك الآباء، ضياع الهوية وضياع الإنتماء بهجر القرآن.

  نحنُ من أكثر الناس الذين يعلمون أنّه ما جُمعَ شيءٌ إلى شيء أفضلُ من حِلمٍ إلى عِلم، وأنّ أعلمَ الناس من جمع عِلمَ الناس إلى عِلمِه، ولكن! لا يجوز أن يكون ذلك الجمع قبل أن تعرف ما يجب عليك، وقبل أن تُحَصّلَ وتُحَقِّقَ ما وجَبَ عليكَ تحقيقُهُ وتحصينُهُ من العِلم، لئلا تضيع هويّتكُ، ولئلا يضيع انتماؤك بين أفكارٍ جديدةٍ قد تدخُلُ في ذهنك وتستقرُّ في قلبك.

  هذا الكتاب الذي لو قرأ أحدُنا أقلّ من الوقت الذي يُقضيه في أمورٍ كثيرةٍ من باب التسليةِ ومن باب التخفيف عن النفس في ساعات، لو قرأ أحدُنا كُلَّ يوم بمقدار نِصفِ ساعة، أو بمقدارٍ يكون أقل من ذلك، لوجد نفسه بعدَ مُدّةٍ من قُرّاء كتاب الله.

  لا يُطالبُ أحدٌ أن يتفرّغَ لهذا الأمر ليلاً ونهارا، ولكن على أن لا يُهمِلَهُ، وعلى أن لا ينساه، لئلا تكون العاقبة للجيل الذي يأتي بعد هذا كالتي أصابتنا، ولئلا يقول أحدٌ أنا ربّيتُ أبنائي أحسنَ تربيةٍ، نعم أنت قدّمتَ لهم ما يحتاج إلى إصلاح جسدهم، ولكن ماذا قدّمتَ لهم لإصلاح عقولهم ؟!!!

  إنَّ أحدَنا ليُرهِقُ نفسه وهو يسعى من أجل أن يبنيَ منزلاً لولده، لأجل أن يُساعدهُ على مَصاعِبِ الحياة، ولكن هل فكّر أن يتعب ليُهيّئَ عقله وليُصلحَ نفسهُ كما يتعب من أجل أن يُساعده في إنشاء منزلٍ أو في البحث عن عمل؟!!

  لا بُدّ أن يرجع سُلوك الأبناء كما سَلَكَ الآباء:

أَنْجَبْتُمُوهُمُ أنتُمُ فسُلُوكُهُمُ أمرٌ   يَعودِ إلى سُلُوكِ المُنْجِبِ
هذا الأمر الذي يجب أن نتنبّهَ عليه .
ولو أنّكُم روّضتُمُ أخلاقهُمُ   ما خِفتُمُ هَدْرَ الفَليقِ المُصْعَبِ
هذا الأمر الذي كان سَبَبُهُ :
لم تَرْقُبُوهُم في نَضارَةِ عُودِهِم   ويَكادُ يُودي الطِفل إن لم يُرْقََبِ

  نسأل الله سُبحانه وتعالى لنا ولكُم لمن حَضَرَ خُطبَتَنا ولمن سَمِعَ كلامَنا حُسنَ التوفيق إلى ما يُحِبُّ وإلى ما يرضى. اللهم صلّ على مُحمّد وآل مُحَمّد...

  الخُطبة الثانية:

  بين المَقالِ وبينَ الفِعال مَسافةٌ بعيدة، بين أن تقول وبين أن تفعل بونٌ شاسع، هذا البَوْن يُمكن تقريبُهُ بماذا؟ بأن يُوافِقَ القَولُ الفِعل، بأن يتوافقَ القولُ والفعلُ.

  شاهد الإمام الحَسَن عليه السلام رجُلاً تجاوزَ الحَدَّ في التقشّف، حتى ترك ثيابهُ على حالها، اتسخت فلم يُنَظّفها، فقال له الإمام الحَسَن عليه السلام: (يا هذا أما سمعتَ قول الله تبارك وتعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} فواللهِ لابتزالك نِعَمَ اللهِ بالفِعال أحَبُّ إليه من ابتزالكها بالمَقال)
إذا قال أحدُنا بعد ذنبٍ أحدثه (أستغفرُ الله) الواجِبُ يقتضي عليه أن يرجِعَ عن الذَنبِ الذي أحدثهُ، لماذا؟ لأنَّ مُعاوَدَةَ الذنوب بعد الإستغفار تُدخِلُ العَبدَ في درجةِ الإصرار على الذَنْب. الذين جاء في صفتهم من قوله سبحانه وتعالى {وَلَمْ يُصِرُّوا} نفيُ الإصرار على الفِعل.

  يقول الإمام الحَسَن عليه السلام: (الإستغفار مع الإصرار، ذُنوبٌ مُجَدَّدَة).

  ويقول عليه السلام حين سُئِلَ عن المروءة قال: (ألّا تفعلَ شيئاً في السِرّ تستحي منه في العَلانية).

  إذا أرادَ أحدُنا أن تنفَعَهُ صَلاتُه وذلك أنّ للمؤمن كما تعلمون ثلاثُ علامات كما جاء في حديث رسول الله ص وآله وسلم (إنّ للمؤمنِ ثَلاث علامات: الصلاةُ والصِيامُ والزكاة) إذا أراد أحدُنا أن تنفعُهُ صلاتُه وأن ينفعهُ صيامُه وأن تنفعَهُ زكاتُه، فليكُن ممّن سَكَّنَ في نفسهِ معرفةَ ما يَعبُد، أي ممّن يكون على يقينٍ مما يقوم به، ومن يقين ساكنٍ في قلبِهِ، ورسوخ لما يفعل به، لأجل أن ينتفعَ بالعِبادة التي يعبُدُ بها الله عز وجل.

  يقول الإمام الحَسَن عليه السلام (سَكِّنُوا في أنفُسِكُم معرفة ما تعبُدُون، حتى ينفعَكُم ما تُحَرّكون من الجَوارح بعبادةِ مَن تعرفون)
(سَكِّنُوا في أنفُسِكُم) أي كونوا على يَقين.

  ليكُن أحدُنا إذا صَلّى موقناً، موقِناً إذا صامَ، موقناً إذا زكّا، موقناً إذا فعلَ شيئاً من أعمال البِرّ والخير، موقناً بأنّه حين يُحسِنُ فإنّما يُحسِنُ لنفسه، وأنّ الله سبحانه وتعالى لا يُضيعُ عمل عاملٍ من ذكرٍ أو أُنثى، وأنّهُ إذا أنفقَ العَبدُ شيئاً فإنّ الله سبحانه وتعالى يُخلفُ عليه، وأنّهُ حين يتصدّقُ يدفعُ عن نفسه وليس يدفعُ عن غيره، وأنّهُ لا يحتملُ ذنباً من ذُنوبِ غيره إذا كان في قلبه سكونٌ بهذا، عارفاً أنّهُ حين يُصلّي إنّما يعبُدُ الله رب العالمين، يعبُدُ الذي خَلَقَهُ فصوّرهُ وأحسَنَ تركيبَهُ وجعله في أحسن تقويم وأنّه لا يستطيع مهما كان عملُهُ، ومهما كانت عِبادتُه، لو أراد أن يشكُرَ الله عز وجل على نِعمَةِ حُسنِ التقويم، حُسْنِ الخِلقَة، الصورة التي هو فيها، ما استطاع أن يبلُغَ مِعشارَ ما يَجِبُ عليه من شُكرِ الله عز وجل على حُسنِ استواءِ خِلقَتِهِ وعلى تمامِ صورتِه.
فكيف إذا كان الأمرُ بعد ذلك فيما يفعَلُهُ من أعمالِ البِرِّ والخَير؟!

  أليس إذا فعلتَ أمراً، أو قدّمتَ شيئاً من أعمال البِرَ، كان اللهُ تعالى هُوَ المُوَفّقُ من أجلِ أن تفعلَ هذا العَمَل؟!
ألم يجرِ في الحديث أنّه (لا ينفعُ الإجتهاد بِلا توفيقِ. أو من غير توفيق) .
ماذا يستطيعُ أحدُنا أن يفعل لو أنّهُ نوى أن يُنفِقَ من المال كذا وكذا، ونوى أن يُصَلّيَ كذا وكذا، ولم يُوَفَّق إلى فِعلِ شيءٍ من هذا!
ما تكونُ طاقةُ أحدِنا إذا نَوَى المَعصِيَة ثم تعسّرَت عليه تِلكَ المَعصِيَة، أليست تِلكَ نِعمَةً وَفَّقَ اللهُ تعالى لها؟
العَمَلُ في البِرَ وتَعَسُّرُ المَعاصي نِعمتان من نِعَمِ اللهِ عزّ وجَلّ.

  الذي يجبُ أن نُسَكِّنَ في قُلوبِنا بعد معرفته سبحانه وتعالى لأنّها أوّلُ الدين، كما جاء في حديث مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام (أوّلُ الدين معرفتُهُ).

  أوّل الدين معرفة الله سُبحانه وتعالى، هذا هو أوّل الدين فإذا سَكَّنّا في أنفُسِنا معرفةَ ما نعبُدُ ونحنُ نُصَلّي ونحن نصوم ونحن نُزَكّي، حينئذٍ فهذه الصلاة وهذا الوُقوف وهذه الزكاة وكُلُّ شيءٍ نفعلُهُ بجوارحِنا سيكون نافعاً لنا، أمّا إن لم نُسَكِّن في قُلوبِنا معرفةَ ما نعبُد فلن ننتفع بما نُحَرِّكُ به جَوارِحَنا بعبادة من نعرف، لأنّنا حينئذٍ نكون داخلين في باب من يعبُدُ ما لا يعرف، ومن يفعلُ على غير عِلم.

  نسألُ اللهَ سُبحانه وتعالى أن يجعَلَنا وإيّاكُم على هُدىً وعلى بَصيرةٍ وعلى بَيّنَةٍ من أمرِهِ وأن يوفّقنا لما يُحبُّ ولما يرضى وأن يجعل اللهُ خير ما نحمِلُهُ زاداً في مَعادِنا وأن يكونَ لنا ولجميع إخواننا نَصيبٌ مِن رحمتِهِ ومِن بركاتِ خيرِهِ ورزقه وعفوه ومَغفرته...