أُخِذَت بيعةُ الغدير أيام النبيّ بالأيدي، فكيف تكون البيعة اليومَ، وكيف تُجَدَّدُ؟! وما هو معنى البيعة الذي بقيَ؟!

أُضيف بتاريخ الخميس, 06/07/2023 - 05:41

أُخِذَت بيعةُ الغدير أيام النبيّ بالأيدي، فكيف تكون البيعة اليومَ، وكيف تُجَدَّدُ؟!
وما هو معنى البيعة الذي بقيَ؟! 

هذه الخُطْبَةُ الأُوْلَى من خُطْبَتَي الجُمُعَة 30\تمّوز\2021م

لأيامٍ جعل الله سبحانه وتعالى جعل لها شأنًا ومكانةً ميّزتها من غيرها من الأيام، ولكل أمّةٍ أيّامٌ مُعظَمة، وفي كُلِّ عصرٍ أيامٌ مُباركة لها فضلُها على غيرها، كما جعل الله سبحانه وتعالى لكل شيءٍ قَدْرًا ومَكانةً وقيمةً، وفضّل من الشهور شهر رمضان لأنّ الله عز وجل أكرمه بأن جعل فيه نُزول القرآن، وفرض فيه عِبادة الصيام، تمييزًا له من غيره من الشهور، وكذلك الأيام التي وقعت فيها أحداثٌ كان لها أثرُها في نفع البشرية، منها مَولدُ النبي ، منها نُزول القرآن، منها هِجرته، منها كثيرٌ من الأيام التي جعل الله سبحانه وتعالى لها فضلًا وأمر الناس أن يستحضروا ذِكرها في كُلِّ عامٍ لما فيها من فوائدَ ولما تنطوي عليه من حِكَمٍ ومن مواعِظ.

من جُملةٍ هذه الأيام وهذه الأحداث والوقائع التي كان لها أثرٌ كبير في الإسلام وفي حياة المسلمين، من جُملتها يوم الغدير.

البيعةُ التي أخذها رسول الله  لأمير المؤمنين الإمام عليّ بنِ أبي طالب ، وجعل له فضلًا ليس لغيره من الصحابة، وجعل له مكانةً ليست لغيره، بأن دلَّ الناس على أنه هو الوَصِيُّ من بعده، وأنّه هو الخليفة من بعده.

وكما يكون لكل شيءٍ عِلّةٌ توجب وُقوعه كذلك يكون له أو فيه حِكمةٌ، وكذلك في كُلِّ عَصرٍ ينبغي أن يُنظر إليه من هذه النظرة.

ما الحِكمة من هذه البيعة أو من ذلك الحَدَث؟! وكيف ينظُر إليه الإنسان في يومه هذا!

البيعَةُ تعني المُعاهَدَة، إذا بايعتَ أحدًا فيعني أنك عاهدته، يعني أنك وعدته أن تُطيع أمرَهُ وأن تَلزَمَ قَولَهُ، فمُبايعةُ اللهِ  لمن كان بايَعَ نبيّهُ  يعني أن يلتزِمَ بسُنَّتِهِ وباقتِفاءِ أثرهِ،.

ومُبايعةُ النبيّ تعني؛ أن يُحافظ الإنسان على ما أمره به من شريعته، على ما حضّه عليه، وعلى ما نهاه عنه، أن يُسرِعَ إلى ما رَغَّبَهُ فيه، وأن يجتنب ما نهاه عنه، وأمرَهُ بالابتعاد عنه.

بيعةُ يومِ الغدير حَدَثٌ في تاريخ الإسلام يدُلُّ على أن الوَلايَةَ امتدادٌ للنّبُوَّة، وأنَّ الخليفة هو الذي يقومُ مَقامَ النبيّ بعد أن قَبَضَهُ الله  إليه.

اليوم وقد وصلنا إلى عهدٍ بعيدٍ أو زمنٍ بينه وبين هذه الواقعة ما يزيد على أربعمئة وألف عام، كيف يُنظَرُ إلى هذه الواقعة، وكيف يُنظر إلى هذا الحَدَث؟!

ينبغي أن يُنظَرَ فيه بمعانيه المُتجدّدَة في كُلّ عَصر.

البحث عنه في التاريخ يدُلُّكَ على زمن وُقوعِه، وعلى مكان وُقوعِهِ، وعلى الاختلاف في تفسيره وفي تأويله، وماذا تعني كلمة النبيّ  (اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه)، هذه الكلمة المشهورة التي بعد أن قَدَّرَ فيهَا وِلايتهُ على جميع الناس وأنّه أولى بهم من أنفسهم، قال :

(من كُنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصُر من نَصَرَه، واخذُل مَن خَذَلَه).

كيف يُنظَرُ إلى هذه الوَلايَةِ اليوم؟!

ينبغي أن يُنظرَ إليها بعد غِيابِ مقامِ النبوّة ومقام الوَلاية، بالمواعِظِ والوَصايا التي قالها كُلٌّ منهما، أنّهُ إذا كانت الوَلايةُ امتدادًا للنبوّة، وكانت النبوّة امتدادًا لطاعتها لطاعة الخالق، فإننا في هذه الأيام إذا اردنا أن نُجدّدَ البيعَةَ في يوم الغدير، أن نُجَدِّدَ البيعَة التي أمر بها رسول الله  فينبغي أن ننظُرَ في معانيها، وينبغي أن ننظُرَ في السُّنَنِ التي تركها أمير المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب  وأن تكون البَيعة بيعةً بالقلوب قبل أن تكون بيعةً بالأيدي، فإنَّ كثيرًا من الناس قد يُبايعُ بيده ولا يُبايعُ بقلبه، لا ينتفع من بيعته بشيء. لهذا قال أمير المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب  يصِفُ حال أحدهِم:

(يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ، وَلَمْ يُبَايعْ بِقَلْبِهِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالبَيْعَةِ، وَادَّعَى الوَلِيجَةَ، فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ يُعْرَفُ، وَإِلَّا فَلْيَدخُلْ فِيَما خَرَجَ مِنْهُ).

الذي يُبايعُ بيدِهِ ثم لا يكون قد عَزَمَ في قلبه على الطاعة فليست بيعتُهُ ببيعةٍ تامّة، إنّ في بيعتِهِ نقصًا لا يستدركُهُ ولا يُتِمُّهُ ولا يُكمِلُهُ إلا أن يكون ممّن بايعَ بقلبه، وألزَمَ نفسَهُ عَقدَ الطاعة، وعَهْدَ الاكتفاء، والاتباع، والالتزام.

 (تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها) من وصيّة أمير المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب ، فالمبايعون لأمير المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب هم الذين نظروا في وفاء ما أمرهم به، وفي التزام العَهد الذي أُخِذَ عليهم.

(تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها)، هذه كانت من وصاياه، فإنَّ الذين بايعوا أمير المؤمنين هم الذين وَقفوا عند هذه الكلمات وقوف المتأمِّلِ والمُتَدَبِّر، والذين عَمِلوا بها عَمَلَ المُطيع، عملَ الخاشِعِ، عملَ الخاضِع.

البيعةُ ليست بيعةً بالألسنة فقط، إنّما هي بيعةٌ في القلوب.

إذا لم نكُن في زمن النبوّةِ اليوم، ولم نَشهَد بيعَةً تُؤخَذُ بالأيدي، فإنّ البيعةَ يجب أن تكون بيعَةً بالقلوب، تُجَدَّدُ في هذا الزمن، وفي كُلِّ عامٍ يمُرُّ به ذِكرُ هذا اليوم تجديدَ من يُبايعُ بقلبه، إذا تذكّرَ اليوم، أو العَهدَ الذي أخذهُ رسول الله  على الناس، أخذ العَهدَ لأمير المؤمنين  أن يكون خليفةً من بعده، وأن يكون وصيًّا من بعده، هذا يعني أنّه أخذ العَهدَ على الناس بأن يُطيعوه، وأن يتّبعوا أوامرَه.

فإذا نظَرَ أحدُنا اليوم في صِحَّةِ بيعَتِهِ يجب أن ينظُرَ في مِقدار اتباعه لأمير المؤمنين ولأهل بيت رسول الله  لتكون البيعةُ بيعةً مُتجدّدَةً في كُلِّ عصرٍ وفي كُلِّ زمان، أن ينظُرَ في أخلاقِ الأئمة، وأن ينظُرَ في آدابهم، وأن ينظُرَ في سِيَرِهِم، وفي سلوكهم، وفي أعمالهم، ثم بعد هذا إذا وجدَ نفسَهُ مُقتديًا بهم، مُتأسِّيًا بأعمالهم، سالكًا سبيلهم، مُقتديًا، مُهتديًا، يكون بذلك ممّن جَدَّدَ بيعَتَهُ لأمير المؤمنين  في هذا اليوم.

البيعةُ لا تكون تامَّةً حتّى تكون بيعةً بالأيدي وبالألسنةِ وبالقلوب، وأجَلُّها وأعظَمُها بيعةُ القُلوب.

من بايعَ بيدِه ولم يُبايع بقلبه يكون ممّن أقرَّ بالبيعة، ولكنّه يبقى عليه أن يأتيَ بشاهدٍ على صِحَّةِ بيعَتِه.

من أرادَ أن يُجَدِّدَ بيعَةَ أمير المؤمنين  في كُلِّ عامٍ فلينظُر في أخلاقِهِ وفي مَناقِبِه، وليُجْهِد نَفسهُ على أن يتحَلَّى منها بما استطاع، يكون ممّن بايع أمير المؤمنين .

طافت كُتُبُ التاريخ بالجدال في هذه المسألة، وبالخلاف في تفسيرها، أتعني إيجاب الخِلافة، أم تعني المحبّة والاتباع والنُصرَةَ فقط.

اليوم بعد أن مضى عليها من الزمن ما مضى، بقيَ معنى البيعة الذي يجب أن يكون في الأعناق وفي القلوب، وهو الأخلاق والقيم التي كان عليها أمير المؤمنين . من تَحَلَّى بها فهو ممّن بايعَه، ومَن قَصَّرَ عنها فهو ممّن تخلّى عن بيعَتِهِ.

بماذا كان مشهورًا أمير المؤمنين ؟! كان مشهورًا بالزُهد، كان مشهورًا بالعطاء، كان مشهورًا بالعدل، كان مشهورًا بالعبادة، هذه الصفات لمن أراد أن يُبايع أمير المؤمنين، يكون بذلك ممّن جَدَّدَ بيعَةَ الغدير.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم مِمَّن تُصَدِّقُ أقوالُهُم أفعَالهُم.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّدٍ 

عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿النحل 90﴾ 

اللهم اجعلنا ممّن ذكّرته فتذكّر، وزجرته فانزجر، وأسمعته فسمع وبصّرته فأبصر.

أقول قوليَ هذا وأستغفر الله لي ولكم.