6- في القول على الطبيعة

Submitted on Fri, 14/10/2011 - 10:34

  إعلم إنّ الطبيعة في اللغة السجية جُبل عليها الإنسان والطباع ككتابٍ ما ركّبه الله فينا من المطعم والمشرب وغير ذلك من الأخلاق التي تزائلنا كالطابع، وطبعتُ السيف: أظهرتُه من هيولاه.

  والطبيعة في عرف الفلاسفة هي قوة من قوى النفس الكُلّية مُنبثة عنها في جميع الأجسام التي دون فلك القمر سارية في جميع أجزائها كلها، وإنما سُمّيَت طبيعة لأنها تطبع الصور باتفاقٍ من العناصر الأربع، والعناصر في الإستقرار لا تخلو من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة ولا يوجد عنصرٌ لا يوجد فيه واحدةٌ من هذه الكيفيات أو اثنتان منها في جسمٍ واحدٍ منها لتضاد الحرارة والبرودة وتضاد الرطوبة و اليبوسة.
فتعين أن يكون في كل جسم بسيط عنصري واحدة من الكيفيتين الفعليتين، أعني الحرارة والبرودة، وواحدة من الكيفيتين الإنفعاليتين، أعني الرطوبة واليبوسة. فالحار اليابس هو النار، والحار الرطب هو الهواء، والبارد الرطب هو الماء، والبارد اليابس هي الأرض.
فهذه العناصر الأربعة هي التي تتولد منها المركبات، وهي من حيث أنها تتركب منها المركبات تسمى استقصات، ومن حيث أنها تنحل إليها المركبات تسمى عناصر، ومن حيث أنها يحصل بتنضيدها عالم الكون والفساد تسمى أركاناً، ومن حيث أنها ينقلب كل منها إلى الآخر تسمى أصول الكون والفساد.
وفي التفصيل تسمى الطبائع 1 ، وفي الإجمال تسمى الطبيعة. فالطبيعة منبثة من لدن كرة الأثير إلى منتهى كرة الارض، محصلة جميع الأجسام الكائنات تحت عالم الأفلاك سارية فيها كلها ومحركة لها ومدبرة ومتممة ومبلغة لكل واحدة منها إلى مدى أقصى غاياتها بحسب ما يليق بكل واحد منها كما شاء فاطرها المُبدع الاول سبحانه.

  وقد قيل في الطبيعة: كَوَّنَت الأشياء بإرادة الرب تعالى.

  وقد عَرّفها بعض الفلاسفة: بكتاب الله الغير المرسل لأنبيائه، كما يجتلي المستبصر بها واللبيب المطالع في صحفها من الأسرار الغزيرة المادة الجَمَّة الفوائد.
فمن ذلك أنه لو فرضنا أنها تخرم النبات والحيوان من عالم الوجود ومحيت العلماء من قائمتها فإنها لا تلبث الطبيعة أن تُعيد مافُقد، فهي دائبة على بث الأجسام وقانونها ثابتٌ يُحِبُّ وضع الأشياء في مواضعها.

  وقال بعض الحكماء: إن كتاب الطبيعة هو الكتاب المشرق المنير الذي لا يقبل تأويلاً ولا يحتاج إلى تفسير، والذي يرى فيه قارئه الحياة كما خلقها الله فلا حاجة به إلى من يدل عليه أو يُرشده إليه .

  وقال بعضهم: الطبيعة كتاب الله متى ما تكلّمت وجب الإصغاء إليها والإذعان لها، وما شقيَ الناس هذا الشقاء الذي نراهم يُعالجونه كل يوم إلا لأنهم تمرّدوا على الطبيعة وخلعوا طاعتها وسولت لهم نفوسهم في غير طريقها، ومن هذا قيل: لا يتجلى سر الطبيعة إلا وللنور المقدس فيها تجلّيات.

  وقيل: إنّ في الطبيعة قوّة يستحيل على العقل البشري إدراكها.

  وقد بالغ بعض الفلاسفة في تعريفها حيث قال: إنّ الله والطبيعة شيىء واحد.

ومن هذا التعريف ومثاله توهّم الماديون إذ وقعوا بالحيرة العمياء حيث قالوا: إنّ جميع ما في الكون مرجوعه إلى الطبيعة، وإنّ لا شيء فوقها، فجحدوا وجود الخالق عز وجل فقالوا : إنّ جميع ما في هذا الكون من فعل الطبيعة، وغاب عنهم معرفة الطبائع الأربعة التي سَمّتها الفلاسفة (القوى الطبيعية) وسمّاها الناموس الملائكة وجنود الله الموكلون بتربية المولدات، وبعضهم سمّاها النفوس الجزئية، (والعبارات مختلفة والمعنى واحد).

  قال أحدهم: إنّ جميع ما تحت فلك القمر مَصنوع مُرَكّب لأنّها أجسامٌ إذ تظهر بإرادة استطاعية كل جسم إلى أن ترجع إلى الطبيعة التي هي من أفعال الباري سبحانه بلا كيفية ولا كمية ولا عنصرية ولا جوهرية، بل استدللنا بها عليه تعالى لأن لا يُقال أنه يُدرك بحاسة ومحدثها هو أقدم القدم وهو ما لا بدء له.
وقال: الطبيعة مُحدِثة لهذه المُرَكبات، ونهاية لها، وقديمتها، وإنها مُحدثة عند المُرَكّبات، لأنّ المركبات تتحلّل إليها وتتركب منها. هكذا أبداً لا يدخل عليها فساد ولا على الأجرام العُلوية لأنها من فعل الحكيم.
وقال: إن جميع ما فوق فلك القمر من الأجرام العُلوية فليست من فعل الطبيعة لأنها ليست مُرَكّبة بل بسيطة أحدثها مُحدِث الطبيعة.

  وخلاصة القول عن الفلاسفة والحكماء:
إن جميع الكائنات التي تحت ذلك القمر ثلاثة أجناس: وهي الحيوان والنبات والمعادن، وهي الأصول المحفوظة في الهيولي صورتها، وإنّ الانواع فهي أقسامها المتفرقة منها، وأما الأشخاص فهي أعيانها التي هي دائمة في الكون والفساد والسيلان.
وأما هيولاها فهي: الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والتراب، وأما الصانع الفاعل لها فهي النفس الكلية الفلكية السارية في محيط الافلاك بإذن خالقها وبارئها ومُصَوّرها، وأما الكواكب والطبيعة فهي لها كالأدوات للصانع الأول سبحانه حيث يفعل بها ما يشاء من قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام: إن مع كل قطرة ينزل من السماء ملك موكل بها حتى يَحُطّها إلى الأرض ويَحفظها من الآفات العارضة لها.
وكذلك حكم الحيوانات أجمع ومنه قوله تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ .
وقال صلى الله عليه وآله: ما من عشبة على وجه الأرض نابتة إلا وفيها لله حكمة ثابتة.

  وتلخيص القول في الطبيعة:
إنّ علم الطبيعة هو مختص بالكُرَة الأرضية وما يتعلق بها من مُتفرّعات هذا العلم كالجيولوجيا، وتاريخ الطبيعيات المُتضمّن علم المعادن وعلم النبات وعلم الحيوان، ويُقال له: علم المواليد الثلاثة، وعلم الكيمياء.
وأما الطبيعة بخصوصها فهي علمٌ تتصرّف منه الخواص العامة للأجسام باعتبار كونها كُتلاً، كما اتضح ذلك فيما أسلفنا.

  • 1قال أرسطوطاليس: إنّ وراء عدد الطبائع الأربعة طبيعة خامسة لاتقبل الكون والفساد، ولا يطرأ عليها الإستحالة والتغيّر، وهي طبيعة السماء.
    وليس يعني بالخامسة طبيعة من جنس هذه الطبائع بل معنى ذلك إنّ طبائعها خارجة عن هذه ثم هي على تركيبات يختص كل تركيب خاص بطبيعة خاصة ويتحرك بحركة خاصة، ولكل مُتحرك مُحَرّك مزاول ومحرك مفارق، والمتحركات أحياء ناطقون والحيوانية الناطقة لها بمعنى آخر وإنما يحمل ذلك عليها وعلى الإنسان الإشتراك بترتب العالم كله عُلويّه وسُفليه على نظامٍ واحدٍ وصار النظام في الكل محفوظاً بعناية المبدىء الأول على أحسن ترتيب.