رسالة الشيخ عبد الهادي حيدر (ق)

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 10/11/2010 - 18:02

رسالة موجّهة إلى الشيخ: عبد القادر حلواني أستاذ التجهيز في حماه إثر مناقشة دارت بيننا حول إثبات النص على خلافة مولانا أمير المؤمنين عليه وآله السلام ، ولما كان الشيخ رحمه الله ، لطيف المحاورة ، طيّب القلب ، غير مُسرفٍ في العَصبية ، وكان على جانبٍ كبيرٍ من الفقه في الدين ، مُتمكناً من الأدب العربي وخاصّة فيما يتعلق بقواعد اللغة والمفردات ، فلا تكاد ترى له قريعاً في هذا الباب من زملائه المعاصرين ، وكان ناسكاً ورعاً ، عفيفَ النفس في مَطعمه ، حتى كان لا يأكل اللحم إلا نادراً لا لعلّةٍ ، ولكنّه على وَرعه وحِرصه على تحرّي الحقائق لا يرى ثبوت النص على خلافة الإمام ، غير أنّه كان يَجنح إلى السلم أحياناً في أفضليته على بقية الخلفاء ، ولذلك وجّهت له هذه الرسالة ، كمُقدمة للنقاش على رأيين متناقضين بين شيعيٍّ وسني ، وتلطّفت له الخطاب ، وسَهّلت عليه الأسباب ، آملاً أن يُبدي صَفحته للمُناظرة كتابةً فأعطِف عليه بفصلِ الخطاب ، وأنشرُ له ما كنتُ أعرِّض به من وراء الحجاب ، ولكنه لم ينشط للجواب ، غير أنه عرض الكتاب على جمعية العلماء في (حماه) وتدارسوه بينهم ، ثم اتفقوا على عدم الإجابة لشيءٍ يعلمونه ويعلمه كل منصف . وهذه صورة الكتاب :

بسم الله الرحمن الرحيم

كتابي للأستاذ الكريم نفحةٌ من نفحاتِ الولاء والإخلاصِ مُنبعِثةٌ عن قلبٍ مشغولٍ بذكره ، مأخوذٍ بروعة بيانه وسحرهِ ، مُعجبٍ بما أودع الله فيه من طيب عِشرةٍ ، وكَرم سَجيةٍ ، وسَجاحةِ أخلاقٍ ، ونزاهة ضمير ، وعفة مقولٍ ، وصدقِ ورعٍ وتقوى ، ذلك فضلٌ من الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، فهنيئاً لك أيها الأخ الكريم القِسطَ الوافر من الفيض الإلهي الذي غمَرَ قلبك السليم فانبجست منه ينابيع العلم والحكمة ، والله يُؤتي حكمته من يشاء ، ومن يُؤتى الحكمة فقد أوتيَ خيراً كثيرا.

* * *

أبت عليَّ النفس إلا أن نتحدّث إليكم بما لا رغبة بكم عنه ، مما يَطمئنُ به الخاطر ، ويرتاح إليه الضمير ، من فضل سيدنا الإمام وركن الإسلام ، حامل لوائه ، وسيّد شهدائه ، حجّة الله في أرضه ، ومعجزة رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله ، حِبرُ الأمة ، وربّانيّها الأعظم ، سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وذلك في البيعة التي عقدها له رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الغدير خُم ونصَّبَه للناس عَلماً في حجة الوداع ، وأخذ بيده بعد أن قال :
ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟... قالوا بلى يا رسول الله .
قال : ( اللهم من كنت مولاه فهذا مولاه ، يعني ، من كنت أولى به فهذا أولى به ، اللهم والِ من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصُر من نصره ، واخذل من خذله ) .

وإني مُبيّنٌ بعضَ طُرقها مِمّا وَصَلَ إليه عِلمي وهوَ ، بَرضٌ من عِدّ ، وغيضٌ من فيض ، على أنها غنيّة بشُهرتها عن البيان متبلّجَة الحجة والبُرهان ، فمن ذلك :

  ما أخرجه أبو اسحق الثعلبي في تفسير سورة المعارج من تفسيره الكبير . قال :
إنّ سفيان بن عُيينه رحمه الله ، سُئل عن قوله تعالى : ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾ فيمن نزلت ؟
فقال للسائل : لقد سألتني عن مسألةٍ لم يسألني عنها أحدٌ قبلك ، حدثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه رضي الله عنهم ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله ، لمّا كان بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فأخذ بيد عليّ رضي الله عنه ، وقال : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) .
فشاع ذلك فطار في البلاد ، وبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله على ناقة له فأناخ راحلته ونزل عنها وقال :
يا محمد أمَرتنا عن الله عز وجل أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصلي خمساً ، فقبلنا منك ، وأمرتنا بالزكاة ، فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم رمضان ، فقبلنا ، وأمرتنا بالحج ، فقبلنا ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمّك تُفضله علينا. فقلتَ من كنت مولاه فعليٌ مولاه ، فهذااشيءٌ منك أم من الله عز وجل ؟..
فقال النبي صلى الله عليه وآله : ( والذي لا إله إلا هو إنّ هذا من الله عز وجل ) .
فولّى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو أتِنا بعذابٍ أليم ، فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله عز وجل بحجر سقط على هامته فخرج من دُبره فقتله ، فأنزل الله عز وجل : ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ . مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴾ المعارج\1\2\3.

»   وأخرجه الإمام أحمد في مسنده صفحة 419 عن رباح بن الحدث من طريقين إليه .
ونقل السيّوطي الحديث في أحوال علي عليه السلام من كتابه تاريخ الهلفاء عن الترمذي ثم قال وأخرجه ، أحمد بن علي ، وأبي أيوب الأنصاري ، وزيد بن أرقم .
وصرّح صاحب الفتاوي الحامدية بتواتر هذا الحديث في رسالته الصلوات الفاخرة في الأحاديث المتواترة .
ومحمد بن جرير الطبري أخرجه في كتابه من خمسةٍ وسبعين طريقاً.
وأخرجه ابن عقدة في كتابه من مائة وخمس طُرُق .
وفي كتاب اسعاف الراغبين للصبّان رواه عن النبي ثلاثون صحابياً .

»   وعن عبد الله بن العباس ، وجابر بن عبد الله قالا : أمر الله محمداً صلى الله عليه وآله أن يُنَصِّبَ علياً عليه السلام للناس فيخبرهم بولايته ، فتخوّف رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقولوا ، حابى ابن عَمّه وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله تعالى إليه
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ فأعلن ولايته يوم حجة الوداع في مكان يُدعى "غدير خم" حين خطب في المسلمين فقال :
( من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ) ، إلى آخر الخطبة ، فأنزل الله سبحانه :
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ ﴾

»   وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله ، لما نزلت هذه الآية قال :
( الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي ) .

  وممّا يَشُدّ إزر هذا القول ويقضي بثبوت النص على ولاية أمير المؤمنين ووصايته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ما أخرجه الترمذي والحاكم عن عمران بن حُصَين ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال :
( ما تريدون من عليّ (ثلاثاً) ، إنّ علياً مني وأنا منه ، وهو وليّ كل مؤمن ومؤمنة بعدي ) .

  وما يزيده إيضاحاً إجماع المفسّرين على أنّ الآية الكريمة ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ نزلت في عليّ عليه السلام حين تصدّق بخاتمه على سائلٍ وهو راكعٌ في الصلاة .
»   أورده الإمام أبو إسحق أحمد بن محمّد بن ابراهيم النيسابوري الثعلبي في تفسيره الكبير بالإسناد إلى أبي ذر الغفاري.
وأخرج النيسابوري نزولها في عليّ عن عبد الله بن سلام .
وأخرج نزولها فيه أيضاً صاحبُ الجمع بين الصحّاح الستة في تفسير صورة المائدة .
وفي كتاب أسباب النزول للإمام الواحدي .
واعترف القوشجي وهو من أئمة الأشاعرة في مَبحث الإمامية من شرح التجريد ، على أن هذه الآية نزلت في علي .

  والذي يعضد هذا القول ويشد بنيانه ، ويشيّد أركانه ما أجمع عليه كتاب السيرة النبوية من خاصٍ وعام بأنه صلى الله عليه وآله ، عند نزول الآية الكريمة ، ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ دعا بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا وفيهم أعمامه ، أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فخطب فيهم صلوات الله عليه ، فقال :
( يا بني عبد المطلب إن الله تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وأنتم عشيرتي ورهطي، وإنّ الله لم يَبعث نبياً إلا جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووارثاً ووصياً وخليفة في أهله فأيّكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ووصيِّ ويكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا إنه لا نبي بعدي ) .
فيسكت القوم ويقول عليّ أنا ويرددها الرسول صلى الله عليه وآله ثلاثاً ولا يجيبه غير عليّ عليه السلام فبايعه وأجابه.
وتفرّق القوم يقول بعضهم لأبي طالب : أطِع ابنك فقد أمّره عليك .
»   والذي نذكره منهم وهم كُثرٌ :
(ابن اسحق وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي في سننه ودلائله والثعلبي و الطبري، في تفسير سورة الشعراء من تفسيرهما الكبيرين ، وأخرجه الطبري في الجزء الثاني من كتابه "تاريخ الأمم والملوك" ، وأرسله ابن الأثير إرسال المسلمات في الجزء الثاني من كامله ، وأبو الفداء في الجزء الأول من تاريخه ، وأحمد بن حنبل في الصفحة 111 و 159 و 331 من الجزء الأول من مسنده ، وأخرجه النسائي و الذهبي ) .
»   وأورده من المتأخرين : (محمد حسين هيكل باشا) في كتابه "حياة محمد" ينقله عن كل من:
(مسلم) في صحيحه و (أحمد بن حنبل) في مسنده و (عبد الله بن أحمد) في زيادات المسند و (ابن حجر الهيثمي) في جمع الفوائد و (ابن قتيبة) في عيون الأخبار و (ابن عبد ربه) في العقد الفريد و (الجاحظ) في رسالة عن بني هاشم و (الثعلبي) في تفسيره.
»   وقال فيه الشيخ (سليم البشري) شيخ الأزهر رحمه الله :
راجعتُ الحديث في الصفحة 111 من الجزء الأول من مسند أحمد ونقّبت عن رجال مَسنده فإذا هم ثُقات أثبات وحجج ، ثم بَحثت عن سائر طرقه فإذا هي مُتضافرة مُتناصرة يُؤيّد بعضها بعضاً ، وبذلك آمنت بثبوته. صفحة 13 من المراجعات للسيد (عبد الحسين شرف الدين) .

♦ ♦ ♦   فهل يَسع المرء المسلم في دينه بعد هذا أن يعتصم برأيه على إبطال النص عن هذا الإمام العظيم بعد تبلّجه ووضوحه وصِحّة أسانيده المستخرجة عن أمناء الحديث ، وثقاة الرواية ، وعدول الأمة من السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.

هذا ما أردنا إيراده في هذه التذكرة من النصوص المُعتبرة والأدلّة الصريحة على فضل هذا الإمام العظيم المَرويّة عن الثُقاة الأثبات من أقطاب الحديث ، وأساطين الرواية القاضية بأحقيّته بالخلافة ، وأولويته بالوصية و الإمامة ، على أن هناك من الأحاديث الصحيحة ، والأسانيد الصريحة المُنَوّهة بسَبقه وعَظيم حَقه ما يضيق عنها البيان ، ولا يُحيط بها الجنان .

والذي أريد أن أسأل الأستاذ الفاضل عنه

كيف صَرَفَ أكابِرُ الصَحابة وأعيانُ المسلمين النَظر عن هذه الأدلة الواضحة والحقائق الراهنة وما أبهوا لها ، ولا حفِلوا بها ، أمرٌ يُذهبُ الألباب والأفهام ، ويُطيش العقول والأحلام .
ولعل ما رواه العلامة ابن أبي الحديد المُعتزلي في شرح "النهج" يشتمل على ما فيه مقتع للمُتبصر ، ولقد عَلّل هذه القضية تعليلاً حسناً راعى فيه عدالة الصحابة الكرام وحَفِظ فيه حق الإمام. فمن ذلك:

»   ما رواه عن أبي بكر الإنباري في أماليه ، أنّ علياً عليه السلام جلس إلى عمر رضي الله عنه في المسجد وعنده ناس ، فلما قام عرّض واحدٌ بذكره ونسَبهُ إلى التيه والعُجب ، فقال عمر : حُقّ لمثله أن يتيه ، والله لولا سيفه لما قام عمود الإسلام ، وهو بعدُ أقضى الأمّة وذو سابقتها .
فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه .
قال : كرهناه على حداثة السن ، وحبه بني عبد المطلب.

قال ابن أبي الحديد : سألت النقيب أبا جعفر يحي بن محمد بن أبي زيد وقد قرأت عليه هذه الأخبار فقلت له :
ما أراها ألا تكاد تكون دالّة على النص ، ولكني أستبعد أن يجتمع الصحابة على دفع نصّ رسول الله صلى الله عليه وآله ، على شخصٍ بعينه ، كما استبعدنا من الصحابة على رد نصّه على الكعبة وشهر رمضان وغيرهما من معالم الدين ، فقال لي رحمه الله : أبيتَ إلا ميلاً إلى المعتزلة .
ثم قال : إنّ القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة إلى أنها من معالم الدين ، وأنها جاريةٌ مجرى العادات الشرعية كالصلاة والصوم ، ولكنهم كانوا يُجرونها مَجرى الأمور الدنيوية ويَذهبون لهذا مثلَ تأمير الأمراء ، وتدبير الحروب وسياسة الرعيّة ، وما كانوا يُبالون في أمثال هذا من مخالفة نُصوصه صلى الله عليه وآله إذ رأوا المَصلحة في غيرها.
» ألا تراه كيف نصّ على إخراج أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في جيش أسامة ولم يخرجا لما رأيا في مقامهما مصلحةً لله وله وللأمّة ، وحفظاً للبيضة ، ودفعاً للفتنة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يُخالَفُ وهو حيٌّ في أمثال ذلك ، فلا يُنكره ولا يَرى به بأساً .
» ألست تعلم أنّه نزل في غزاة بدر مَنزلاً على أن يُحارب قريشاً فيه فخالفه الأنصار وقالت له : ليس الرأيُ في نزولك هذا المنزل ، فاتركه وانزل في منزل كذا. فرجع إلى رأيهم.
» وهو الذي قال للأنصار عام قَدِمَ المدينة : لا تُؤَبِروا النخل ، فعملوا على قوله ، فحالت نخلهم في تلك السنة ولم تثمر حتى قال لهم : أنتم أعْرَفُ بأمر دنياكم، وأنا أعْرَفُ بأمر دينكم .
» وهو الذي أخذ الفِداء من أسارى بدر ، فخالفه عمر فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن فات الأمر وخلّصَ الأسرى ورجعوا إلى مكة .
» وهو الذي أراد أن يُصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه ، فأتى سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة فخالفاه ، فرجع إلى قولهما ، وقد كان قال لأبي هريرة اخرج فنادِ في الناس : من قال لا إله إلا الله مخلصاً بها قلبه دخل الجنة ، فخرج أبو هريرة فأخبر عمر رضي الله عنه بذلك ، فدفعه في صدره حتى وقع على الأرض ، فقال :
لا تقلها فإنك إن تقلها يتكلوا عليها ويتركوا العمل ، فأخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك ، فقال : لا تقلها ، وخلّهم يعملون ، فرجع إلى قول عمر.

♦ ولقد أطبقت الصحابة إطباقاً واحداً على ترك كثيرٍ من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك ، كإسقاطهم سهم ذوي القربى ، وسهم المؤلفة قلوبهم ، وهذان الأمران أَدْخَلُ في باب الدين منهما في باب الدنيا .
وقد عملوا بآرائهم أموراً لم يكن لها ذكراً في الكتاب و السنّة كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهاداً ، ولم يَحِدّ رسول الله صلى الله عليه وآله شاربي الخمر ، وقد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم .
ولقد كان أوصاهم في مرضه أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يُخرجوهم حتى مضى صدرٌ من خلافة عمر ، وعملوا في أيام أبي بكر برأيهم في ذلك باستصلاحهم ، وهم الذين هدموا المسجد بالمدينة وحوّلوا المقام بمكة ، وعملوا بمقتضى ما بغلب في ظنونهم من المصلحة .

♦ قال النقيب: وكان أكثر ما يعملون بآرائهم فيما يجري مجرى الولايات والتأمير والتدبير وتقرير قواعد الدولة وما كانوا يقفون مع نصوص الرسول صلى الله عليه وآله وتدبيراته إذا رأوا المصلحة في خلافها ، كانوا يُقيّدون نصوصه المُطلقة بقيدٍ غير مذكور لفظاً وكأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله وتقدير ذلك القيد (افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحة).

♦ قال : و أما من مخالفتهم فيما هو محض الشرع و الدين وليس متعلقٌ بأمور الدنيا وتدبيراتها فإنه يقل جداً ، والقوم غلب على ظنونهم أن العرب لا تطيع علياً عليه السلام ، فبعضهم للحسد وبعضهم للوتر والثأر ، وبعضهم لاستحداثهم سنّه ، وقالوا: (لو نصّبناه ارتدّ الناسُ عن الإسلام وعادت الجاهلية كما كانت ) ، فأيما أصلح في الدين الوقوف مع النص المُفضي إلى ارتداد الخلق ورجوعهم إلى الأصنام والجاهلية ، أم العمل بمقتضى الأصلح واستبقاء الإسلام واستدامة العمل بالدين وإن كان فيه مخالفة النص .

♦ قال رحمه الله : وسَكَتَ الناس عن الإنكار فإنهم كانوا مُتفرقين.
فمنهم من هو مبغض شانئ لعلي عليه السلام ، فالذي تمّ من صرف الأمر عنه هو قُرّة عينه وبَردُ فؤاده .
ومنهم ذو الدين وصحة اليقين ، إلا أنه لما رأى كُبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الأمر عنه ظنّ أنهم إنما فعلوا ذلك لنصٍ سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله ، ينسخ ما قد كان سمعه من النص في حقه عليه السلام ، لاسيما ما رواه أبو بكر رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وآله : (الأئمة من قريش). توهّموا أنه ناسخٌ للنص الخاص ، وإنّ معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمامٍ من قريش من أي بطون قريش كان ، فإنّه يكون إماماً .
» وأكّد أيضاً في نفوسهم رفض النص الخاص ما سمعوه من قول رسول الله صلى الله عليه وآله ، ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسنٌ ، وقوله صلى الله عليه وآله : (سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلال فأعطانيها) ، فأحسنوا الظن بعاقدي البيعة وقالوا: هؤلاء أعرف بأغراض رسول الله صلى الله عليه وآله من كل أحد. فأمسَكوا وكَفّوا عن الإنكار .
ومنهم فرقة أخرى وهم الأكثرون أعرابٌ وجُفاةٌ وطغامٌ أتباع كل ناعق يَميلون مع كل ريح ، فهؤلاء مُقلّدون لا يَسألون ولا يُنكرون ولا يَبحثون وهم مع أمرائهم ، ووُلاتِهِم لو أسقطوا عنهم الصَلوات الواجبة لتركوها، فلذلك انْمَحَق النَص وخَفِيَ ودُرِسَ وقويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر رضي الله عنه وقوّاها زيادة على ذلك اشتغال عليٍّ وبني هاشم برسول الله صلى الله عليه وآله ، وإغلاق بابهم عليهم وتخليَتهم الناس يَعملون ما شاؤوا وأحبّوا من غير مشاركةٍ لهم فيما هم فيه ، لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعدما فات ، وهيهات الفائت لا رجعة له ، و أراد عليٌّ عليه السلام بعد ذلك نقضَ البيعة فلم يتم له ذلك ، وكانت العرب لا ترى الغدر ولا تنقض البيعة صواباً كانت أو خطأً ، وقد قالت له الأنصار وغيرها : ( أيها الرجل ، لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك أحداً ، ولكنا قد بايعنا فكيف السبيل إلى نقض البيعة بعد وقوعها ؟ )

♦ قال النقيب رحمه الله : ومما جرّأ عمر رضي الله عنه على بيعة أبي بكر رضي الله عنه والعُدُول عن عليٍّ عليه السلام مع ما كان معه من الرسول صلى الله عليه وآله في أمره أنه أنكر مِراراً على الرسول صلى الله عليه وآله أموراً اعتمدها، فلم يُنكر عليه رسول الله صلى الله عليه وآله إنكاره بل رجع في كثيرٍ منها إليه وأشارَ عليه بأمورٍ كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته فأطمَعَهُ ذلك في الإقدام على اعتمادِ كثيرٍ من الأمور التي كان يرى فيها المصلحة ممّا هي خِلاف النص ، وذلك نحو:
إنكاره قضيّة الحديبيّة ، وإنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب ، وإنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة ، وإنكاره أمره بالنداء من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، وإنكاره أمره بذبح النواضح، إلى غير ذلك من أمورٍ كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث ولو لم يكن إلا إنكاره قول رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه : ( إئتوني بدَواة وكتِف أكتب لكم ما لا تضلون بعدي ) ، وقوله ما قال ، وسكوت رسول الله صلى الله عليه وآله عنه.
فمن بلغت قوّته وهمّته إلى هذا كيف يُنكر من أنه يُبايع أبا بكر رضي الله عنه لمصلحة رآها.
ومن الذي كان يُنكر عليه ذلك وهو في القول الذي قاله للرسول صلى الله عليه وآله ، في وجهه غير خائف من الأنصار ولا ينكر عليه أحدٌ لا رسول الله صلى الله عليه وآله ولا غيره إلى آخر الحديث وهو كله في هذا الموضع لم يخرج عنه ، وإنما اختصرناه خوفاً من الإطالة.

♦ قال ابن أبي الحديد ، وقد ذكرتُ في هذا الفصل خلاصة ما حفظته عن النقيب أبي جعفر ولم يكن إماميّ المذهب ، ولا كان يتبرّأ من السلف ولا يرتضي قول المُسرفين من الشيعة ، ولكنه كلامٌ أجراه على لسانه البَحث و الجَدلُ بيني وبينه ...

♦ ♦ ♦   فما يرى الأستاذ الفاضل أطال الله بقاءه في هذا الفصل المُمتع ، وما تضمّنه من التعليل و التحليل ، أليس هو أولى بجماعة المسلمين من تكلّف الأعذار وتحمّل الحجج لصرف هذه النصوص عن وجهها من بعض القوم وتحامُل البعض الآخر على عليّة الصحابة الكرام وجِلَّة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، هذا هو الداء العياءُ الذي فتّ في عضد هذه الأمة وشتَّت كلمتها ، وبدّد جماعتها ، وأدال منها.

نسأل الله سبحانه أن يجمع جماعة الإسلام على الوفاق والوئام.

والسلام.

رجب الفرد / 28 / 1372
المواق نيسان 1957
الفقير لله تعالى
عبد الهادي حيدر


* * *

(ويُتابع الشيخ المظلوم فيقول)
ولو تأمّل مُنصفٌ بعين البصيرة إلى ما قاله النقيب أبو جعفر لابن أبي الحديد المعتزلي، لوجد أنّ هناك خلافات عديدة، كانت تقوم بحضرة الرسول ص وآله، وهذا ما يُؤيّد ما قلناه سابقاً، ويَدحض قول الدكتور الحفني بأنّ الخلافات بدأت بعد وفاة الرسول ص وآله.

بالإضافة إلى أنّ هذا البيان يوضح لمن أراد الإستيضاح عن معرفة الخليفة الشرعي بغض النظر عن التعليل والتحليل الذي قدّمه النقيب أبو جعفر حول تبرير المخالفات ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ الحشر\7، والتي لسنا بصدد التعقيب عليها، وإنّ العلامة الشيخ عبد الهادي بعث بهذه الرسالة كمُقدمة للبحث، وليست خاتمة، ولا يَخفى على القارئ الفطين سبب إيره لنص ابن أبي الحديد والغاية منه.

ونعود لنتابع مع الدكتور الحفني لنقول :
» لهذه الأسباب انفرقت الأهداف، وتباينت الآراء، حيث راح كا واحد يؤيّد صاحبه...
» وأما عودة الجاهلية ورجوع الإسلام غريباً فقد كان في عصر معاوية بن أبي سفيان حينما أمر أن يُنادى على رأس سبعين ألف منبر يومياً بسبّ أمير المؤمنين والبراءة منه.

وختاماً أقول

لهذه الأسباب، ولغيرها اختلفت الأمّة، وتباينت الآراء، وظهرت الأطماع، وانفرقت الأهداف، وعادت الجاهلية، واشرأبّت الشعوبية، وقامت المذاهب وكثرت الفِرق وتعدّدت الجَماعات ولكن ليس كما ذهبَ وذَكر وعلّل من أنّ الإنحطاط الفكري لبعض الفرق كان سببه التدني الثقافي والإقتصادي للشعوب الإسلامية، واعتبر أنّ بعضَ الفِرق استغلّت الدين لمَصلحة الدُعاة وضَرَبَ مثلاً على ذلك حينما قال أنّ الشيعة قالت بالغيبة أيّ غيبة الأئمة، وبالرجعة، وبالعصمة، وادّعوا الإلهية للأئمة، ليُبرّروا استمرارية تسلط أفراد وأتباع لهم على جماعات المعتقدين فيهم.

» أقول أنّ القول بعصمة الأئمة ليس تدنيّاً إلا عند الذين لا يفقهون هذه القضايا المُثبتة في كتب الفريقين وسنأتي على ذكر طرف منها.

» وأمّا تأليه الأئمة فهي تهمة ألصقت بالشيعة والعلويين، وقد نقلها هذا الكاتب عن أستاذه ابن تيمية وهذا الأخير لا يُلتفت إليه لكثرة تعصُّبه، وبُغضه لأتباع أهل البيت عليهم السلام، وإنّ إبن تيمية وأمثاله لم يستطيعوا أو يَجرُؤوا على تكفير مُحبّي أهل البيت ع لمَحبتهم فلذلك وَصَمُوهم بالغلوّ ليجعلوها حجّة على تكفيرهم، وهذه حقيقة يجب أن يفهمها الجميع.