العدل

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 03/11/2010 - 11:33

العدل: اسمٌ من أسماء الله الحسنى، وهو مصدر اُقيم مقام اسم الفاعل(عادل)، وهو من صفات الكمال، ولله جميع صفات الكمال لقول أمير المؤمنين عليه السلام:صفاته أن تصفه بصفات الكمال وتنفي عنه صفات النقص والاضمحلال. فالظلم هو من صفات النقص والباري سبحانه منزه عن كل القبائح ومن جملتها الظلم لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ الكهف/49.

وللعدل في اللغة عدة معاني أبرزها:
الاستقامة في الفعل بوضع الشيء في موضعه فلا ظلمٌ ولا جور لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ النساء/58.

ويأتي بمعنى الإنصاف الذي يأتي وسطاً بين الظلم والتفضل، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾ النحل/90.

والعادل في اصطلاح الفقهاء من اجتنب الكبائر ولم يصر على الصغائر وغَلّبَ صوابه واجتنب الأفعال الخسيسة.

وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن صفة العدل من الرجل؟
فقال: إذا غض طرفه عن المحارم، ولسانه عن المآثم، وكفه عن المظالم .

والعدالة في الشريعـــة عبارة عن الاستقامة على الطريق الحق بالاجتناب عما هو محظور ديناً.

والعدل بالنسبة إلى الله إعطاء كل موجود ما يستحقه، والظلم بخلافه والله منزه عن ذلك.

والعدل عند الحكماء :هو تقدير الباري سبحانه الأشياء على الصورة التي هي خاصة للشيء مرتبة في أماكنها، منظمة انتظام الحكمة على صحة التأليف ونظام الترتيب، لا يسبق بعضها بعضاً، فالأول لا يكون متأخراً، والمتأخر لا يكون أولاً.

وبالنتيجة فالعدل من صفات الفعل وهو من الصفات الثبوتية لأنه وصفٌ وجوديٌّ ومما يتطلبه الكمال المُطلق للذات الإلهية، وتلخيصه بأنه:

  • عدم فعل القبيح.
  • عدم الإخلال بالواجب.
  • عدم التكليف بما لا مصلحة فيه.

ففعل القبيح والإخلال بالواجب والتكليف بما لا مصلحة فيه نقصٌ وجهلٌ وظلمٌ، والباري أجَلُّ وأعظمُ من أن يُوصف بصفات النقص فهو مُنفرد بالكمال مُنزّه عن صِفات المُحدثين بَريٌ من طبائع المخلوقين وطِباع المُتخلقين.

وكنت قد أوضحت فيما مضى بأنّ العلماء أفردوا للعدل فصلاً مُستقلاً وصنّفـوه الأصل الثاني من أصول الدين مع أنّه من مباحث التوحيد وتحديداً فهو يندرج في الصفات الثبوتية للذات الإلهية.
والسبب في إفراده هو الخلاف الذي دار بين الإمامية والمُعتزلة من جهة، والأشاعرة من جهة ثانية.
والخلاف دار حول مسألة التحسين والتقبيح ، ومحل النزاع في هذه المسألة هو أنّ:

  1. هل للعقل البشري أن يحكم باستقلاله بحُسْنِ الأفعال وقُبحها؟
  2. أو أنّ الأمر في ذلك إلى الشارع المقدس فما حَسّنَهُ فهو الحَسن، وما قَبَّحَهُ فهو القبيح؟

فقال بالأول الامامية والمعتزلة، وقالت الأشاعرة بالثاني، وصَنَّفَ الطرفان بهذا الخصوص كُتباً كثيرة ولهذا اُفْرِدَ العدلُ في مَبحثٍ مُستقلٍ عند الشيعة والعلويين.
أما عند الآخرين فلم يظفر بعنوان مستقل ، وانبثق عن هذه المسألة مسألة أخرى لا تقل أهمية وهي مسألة
(الجبر والتفويض) وسنأتي على بيانها في فصلٍ مستقل.

وبالعودة إلى المسألة الأولى فقد قالت الأشاعرة :

القبيـــحُ: ما نُهِيَ عنه شرعاً.
والحَسَنُ: بخلافه، ولا حُكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها وليس ذلك عائداً إلى أمرٍ حقيقي في الفِعل يَكشف عنه الشرع بل الشرع هو المُثْبِتُ له والمُبَيّن.
ولو عكس القضية فحَسنَ ما قبحه، وقبَحَ ما حسنه، لم يكن ممتنعاً، وانقلب الأمر. (المواقف للأيجي)
وقالوا أن العبد مجبور في أفعاله... وإذا كان كذلك لم يحكـم العقل فيها بحسن ولا قبحٍ، اتفاقا.
وعللوا ذلك بقولهم:
إنّ العبد إن لم يتمكن من الترك فذاك هو الجبر وان تمكن ولم يتوقف على مرجح، بل صدر عنه تارة ولم يصدر عنه أخرى من غير سبب كان ذلك اتفاقياً وإن وقف على مرجح لم يكن ذلك من العبد وإلا تسلسل ووجب الفعل عنده وإلا جاز معه الفِعل والتّرك فاحتاج إلى مرجح آخر وتسلسل، فيكون اضطراريا، وعلى التقادير فلا اختيار للعبد فيكون مجبوراً.

فهذا رأي الأشاعرة في المسألة وهي منقولة عن أحد علمائهم وهو القاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الايجي صاحب كتاب المواقف.

وأما رأي الشيعة فقد أورده نصير الدين الطوسي في كتابه (قوائد العقائد) فقال :

الأفعال تنقسم إلى حَسَن وقبيح، وللحسن والقبح معانٍ مختلفة منها:
أن يُوصف الفِعل الملائم أو الشيء الملائم بالحسن ، وغير الملائم بالقبح.
ومنها أن يوصف الفعل أو الشيء الكامل بالحسن، والناقص بالقبح، وليس المراد ها هنا هذين المعنيين، بل المراد بالحسن في الأفعال ما لا يستحق فاعله ذماً أو عقاباً، وبالقبح ما يستحقها بسببه
وقال:
والحسن العقلي: ما لا يستحق فاعل الفعل الموصوف به الذم.
والقبح العقلي: ما يستحق به الذم.
والحسن الشرعي: ما لا يستحق به العقاب.
والقبح الشرعي: ما يستحق به العقاب.
وبازاء القبح الوجوب وهو ما يستحق تارك الفعل الموصوف به الذم أو العقاب.
وإنّ الله لا يُخِلّ بالواجب العقلي، ولا يَفعل القُبح العقلي البتة، وإنّ من يُخلّ بالواجب ويَرتكب القبح بالإختيار جاهلٌ أو مُحتاج.
وبالنتيجة فإن العدل عند العدلية : هو أن الله لا يفعل إلا ما هو حسنٌ عقلاً.
أما عند الأشاعرة فإن العـدل هو ما يفعلـه الله تعالى لأن ما يفعلـه هو الحسن.

وفي كتاب عقائد الإمامية للشيخ المظفر قوله:

فلو كان يفعل الظلم والقبح تعالى عن ذلك فإن الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صُوَرٍ:

  • أن يكون جاهلاً بالأمر فلا يدري أنه قبيحٌ.
  • أن يكون عالماً به ولكنه مجبورٌ على فعله وعاجز عن تركه.
  • أن يكون عالماً به وغير مجبور عليه ولكنه محتاج إلى فعله.
  • أن يكون عالماً به وغير مجبور عليه ولا يحتاج إليه فينحصر في أن يكون فعله له تشهياً وعبثاً ولهواً.

وكل هذه الصور محالٌ على الله تعالى، وتستلزم النقص فيه وهو محض كمال ، فيجب أن نحكم أنه مُنَزّه عن الظُلم وفِعل ما هو قبيح.

وبعد هذا البيان فأقول

بأنّ العدل هو أساس المُلك وكان أوّل ما عنى به الإسلام وهو أن لا يُكلف الله خلقه إلا ما يَجعله في وِسْعِهِم وطاقتهم من قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ البقرة/286.
وقال: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ المائدة/8.
وقال : ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ البقرة/188.

ومن العدل ما جاء في الشريعة الإسلامية من مصادر الدستور لوفرة أبحاثها وغنى أفكارها، ومن العدل أيضاً العناية وحسن الترتيب في الاختراع من الله عز وجل في مخلوقاته كقوله تعالى: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ لقمان/10.
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ البقرة/164.

وفي مضمون هذه الآيات الكريمة ترتيبٌ بديعٌ بما يدل على عدل الله سبحانه إذ ارتبطت فيه الكائنات جميعها علويها وسفليها حسب ما هي مرتبطة في الواقع ونفس الأمر، بدأ في السموات والأرض لانهما أصل الخلق ولها دخلٌ في اختلاف الليل والنهار يدعو إلى اختلاف درجات الحرارة والبرودة، وذلك يدعوا إلى هبوب الرياح وإلى تكوين السحاب، والرياح تسيرُ السحاب فيتساقط المطر تبعاً لناموس الحرارة والبرودة والله يحي الأرض بعد موتها بالماء النازل من السماء فيتكون النبات المختلف الألوان ، وفي نماء النبات بقاء الحيوان وهذا هو العدل والإحسان.

والعدل أيضاً هو الوزن أو الميزان الذي أخبر الله عنه في كتابه بقوله: ﴿ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾ الرحمن/9. وهو أمرٌ بمراعاة العدل في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال.

والإحسان فوق العـدل إذ العـدل أن يُعطي المرء ما عليه ويأخذ ما له ، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ البقرة/195.
وقد حثّ سبحانه على الإحسان فقال وهو أصدق القائلين: ﴿ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ القصص/77.

ومن المعلوم بأن الله جلّ وعلا بعث الأنبياء والرسل وأنزل الشرائع السماوية بهدف قيام العدل والقسط في المجتمع الإنساني لقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ الحديد/25.
وهذا اللطف الإلهي دالٌّ على كمال عدله وإحسانه على عباده.

فالعدل من الأصول الأصيلة في العقيدة العلوية وهذا الأصل الثابت تقرر في كتاب الله في مواضع كثيرة نذكر منها قوله تعالى: ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ﴾ آل عمران/108.
وقوله تعالى : ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ﴾غافر/31.
﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ البقرة/205.

وآيات كثيرة تدل بمجموعها على عدله تعالى وبأنه لا يظلم أحداً، وقد أمر العباد بالعدل والإحسان ونهاهم عن الظلم وذمه فكيف يمكن أن ينهي عن خصلة سيئة ثم يتصف بها أو يأمر بخصلة حسنة ولا يتصف بها تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال تعالى: ﴿ ما مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ النساء/79.
وهذه الآية تدل بوضوح على أن الخير من الله وبتوفيقه والشر من أنفسنا لضعفها وجنوحها عن القسطاس المبين.

وختاماً أقول بأنّ من له الكمال المطلق وكماله من ذاته ولذاته فإن كل نقص بمخلوقاته يُلصق لأن ذلك أليق وان نسبة النقص والظلم إلى الله نفيٌ لربوبيته وتشبيهٌ له بالممكنات ، وهو تعالى واجب الوجود لذاته.