الغضب.. الفضل.. خُطبتا صلاة الجمعة 11 أيلول 2015م.

أُضيف بتاريخ الخميس, 10/11/2016 - 13:01
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 11 أيلول 2015.
الخُطْبَةُ الأُوْلَى: الغضب.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: الفضل.

  الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
  ...أمّا بعدُ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه...

  من أشدِّ الأشياءِ التي تُؤذي صاحبها، وقد تكونُ عاقبةُ فِعلِهِ بما يُصيبُهُ منَ الأذى مُرهقةً إلى حَدٍّ لا يستطيعُ معهُ أن يحتَمِلَها.

  منَ الأشياءِ التي يفقِدُ بها الإنسان ما فَضَّلَهُ اللهُ سبحانه وتعالى بهِ على غيره مِمَّا خَلَقَ فَجعَلَهُ مُدْرِكًا مُمَيِّزًا وبِهِ يُحاسِبُهُ، وبهِ يُؤاخِذُهُ، على قَدْرِ ما أعطاه يُثيبُهُ.

  إِذا غَضِبَ الإنسان فإنَّه لا يُبصِرُ ما الذي يكونُ أمامَه، وحينَ يَرضَى لا يبقى مِن عقلِهِ ما يستطيعُ أن يُمَيِّزَ به أو أن يُدرِكَ به أو أن يتفكَّرَ به عاقِبَةِ فِعلِه!

  ولذلك مَدَحَ اللهُ سبحانه وتعالى الكاظمِينَ الغَيْظ وذكرهُم فيمن جَعَلَ لهُم الجَنَّة. {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الـمُحْسِنِينَ} سورة آل عمران\134.

  فإنَّما مَثَلُ الـمَرَضِ كَمَثَلِ النَّار، في حديثِ أميرِ المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب عليه السلام (الغضبُ نارٌ موقَدَة، مَن كظمَهُ أطفأها ، ومن أطلقه كان أول محترق بها.).

  (الغضبُ نارٌ موقَدَة) من كَظَمَ غَيْظَهُ وأَخْفَى غَضَبَهُ فقد أطفأ تلك النَّار، ومَن أطلَقها فسوف يكونُ أوَّل مَن يحترِقُ بها، لأنَّها الفِعلُ الذي أَوَّلُهُ جُنُونٌ وآخِرُهُ نَدَم، وما أصلَحَ خَلَلًا في يومٍ ما، ولا عالَجَ داءً في يومٍ ما، لأنَّهُ هُوَ الدَّاء الذي قَلَّما مَن يَسلـمُ مِنه، وقَلَّ مَن يستطيعُ أن يَبْرَأ مِنه، أو أن يتجاوَزَهُ إلى غيرهِ تجاوُزًا لا يترُكُ خَلْفَهُ أَذًى.

  إذا مَسَّ الإنسانَ شيءٌ، فإنَّ أعظَمَ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ هُوَ أن يَجْبَهَ ذلكَ الشيء، فإذا جَبَهَهُ وتَمَكَّنَ مِنه، في المعنى الصحيح لكلمة الـمُلك، هي أن يكونَ الإنسان قادرًا على أن يملِكَ نفسَهُ قبلَ أن يملِكَ غيرَهُ؛ ومتى يُعرَفُ إن كان مالكًا أمرَهُ!
إنهُ لا يعرِفُ ذلك إلّا حينَ يغضبُ لأمرٍ ما، فإذا غَضِبَ لأمرٍ ما ثمَّ استطاعَ أن يملِكَ نفسَهُ عندَ الغَضَب، فهذه أعظمُ درجةٍ يستطيعُ بها أن يدُلَّ على أنَّهُ قد مَلَكَ نَفْسَهُ في هذه الحال التي يكونُ فيها كَمَن فَقَدَ عَقْلَه.

  ثمَّ إنَّهُ إذا نَظَرَ أَحَدُنا في الدُّنيا وفي أحوالها، وآلـمَهُ شيء، وغاظَهُ شيء، ثم فَكَّرَ في أمرٍ يُريدُ أن يَشفِيَ به غَيْظَه، فإنَّهُ لا يخرُجُ عن يَومَيْنِ يستدِلُّ بهما على أنَّهُ لن يشفِيَ غَيْظَهُ ما دامَ في هذه الدُّنيا!

  إمَّا أن يكونَ في يومٍ يكونُ فيه قادرًا على أن يَشْفِيَ ذلك الغَيْظ، أو على أن يُصيبَ مَن آذاهُ أو أزعَجَهُ بشيء، وإمَّا أن يكونَ عاجزًا! فما الذي يُستَحَبُّ فِعْلُهُ إذا كانَ قادِرًا على كِفاءِ ذلك الغَيظ، أو إذا كان عاجزًا وَجَبَ عليه أمرٌ آخر.

  إنَّهُ إذا كان قادرًا فإنَّ زكاةَ ظَفَرِهِ بشيء هُوَ أن يَعْفُوَ عنه، لأنَّ زكاةَ ظَفَرِكَ هُوَ أن تَعْفُوَ عَنْه، هُوَ أن تجعَلَ العَفْوَ عنهُ شُكرًا لله تعالى.

  لذلك جاء في كلامِ مَولانا أمير المؤمنين عليّ بنِ أبي طالب عليه السلام: (مَتَى أَشْفِي غَيْظِي! أَيَوْمَ أَقْدِرُ فَيُقالُ لي: لَوْ عَفَوْت، أم يومَ أعجَزُ فيُقالُ لي: لو أَنَّكَ صَبَرت). مَتَى أَشْفِي غَيْظِي! أَيَوْمَ أَقْدِرُ على ذلك! والذي يكونُ قادرًا على عُقُوبَةِ أحَدٍ فإنَّهُ يُذَكَّر بقُدرَةِ اللهِ سبحانه وتعالى عليه؛ (إذا دعتكَ قُدرَتُكَ على ظُلـمِ النَّاس فتذَكَّر قُدرَةَ اللهِ سُبحانه وتعالى عليك).

  فالـمُستَحَبُّ لهُ أن يعفُوَ إذا كانَ قادِرًا، وإذا جاءَهُ يوم كانَ فيهِ عاجزًا فعليهِ أن يَصبِر، فيخرُجُ مِن هذين، أنّهُ لا يستطيعُ في الدُّنيا أن يَشُفِيَ غَيْظَه، إمّا أن يكونَ قادرًا فيُستَحَبُّ أن يَعْفُوَ، وإمَّا أن يكونَ عاجزًا فلا يستطيعُ أن يفعَلَ شيئًا غَيْرَ الصَّبر.

  فإذا نَظَرَ أَحَدُنا في هذا الحَديث (مَتَى أَشْفِي غَيْظِي!) لَعَلـمَ أنَّهُ لو كان بالغَضَب شيءٌ مِنَ الدَّواء، لكانَ اللهُ سبحانه وتعالى أَمَرَ بهِ، أو رَخَّصَ فيه، أو أَباحَهُ أو أَجازَهُ بوجهٍ مِنَ الوُجوه، ولكنَّهُ هُوَ الدَّاء الذي يَجِبُ أن يجتَهِدَ مَن أصابَهُ في أن يُعالِجَ نَفْسَهُ مِنه، وليسَ هُوَ العِلاجُ الذي نستطيعُ أن نُعالِجَ به الأمور.

  الذي يَغضَبُ عليه أن يُداوِيَ نَفْسَهُ بالتَّحَلُّم؛ إن لم يكُن قادِرًا على الحِلم أو مطبوعًا عليه، فليجتَهِد في أن يَتَحَلَّم، لو تَكَلَّف الحِلـمَ قليلًا؛ لو كانَ واقِفًا فَجَلَس، أو كان جالسًا قاعدًا فاضطَجَعَ، إنَّهُ رُبَّما إذا غَيَّرَ شيئًا مِن ذلك استطاعَ أن يُخَفِّفَ مِن غَضَبِهِ شيئًا، أو هُوَ لا يستطيع أن يَدْفَعَ بغَضَبِهِ شيئًا مِنَ الحال التي وَقَعَت، ولن يكون بفعلِهِ قد أصلَحَ شيئًا إنَّما يكونُ في غضبِهِ ربَّما وصَلَ الحَدُّ أن أتلَفَ أو قَتَلَ نَفسًا أو دَمَّرَ أو ما شاكَلَ ذلك؛ يكونُ بهذه الحال قد أرادَ أن يُصلِحَ أمرًا فوقَعَ فيما هو أشَدُّ منه وأَدْهَى وأَمَرّ!

  لذلك كَظْمُ الغَيْظ كان مِن صِفات الذين وعدهُم الله سبحانه وتعالى الجَنَّة {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الـمُحْسِنِينَ} سورة آل عمران\134. لأنَّ مَن غَضِبَ فعليه أن يَقِفَ أو أن يتأَمَّلَ قليلًا: إذا كان غَضَبُهُ لأمرٍ في الدُّنيا جَعَلَهُ ربّما يُؤذي غَيْرَهُ أو يُعاقِبُهُ عُقوبَةً مُؤلـمَةً، فليَذكُر أنَّ لهُ أخطاءً لو أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى آخَذَهُ عليها بِظُلـمِهِ لَكانَت عُقوبَتُهُ أَشَدَّ مِنَ العُقوبَةِ التي يُعاقِبُ بها غَيْرَه؛ ومَن ذا الذي لا يُخطِئُ في الأنام! ومن ذا الذي ليس لهُ خَطَأٌ أو ليسَ لهُ ذَنْب! إنَّهُ في الحَديثِ الشَّريف (كُلُّ ابنِ آدَمٍ خَطَّاء، وَخَيْرُ الخَطَّائينَ: التَّوَّابُون).

  إنَّهُ ما مِن أَحَدٍ يستطيعُ أن يَدَّعِيَ أنَّهُ مَعصومٌ مِنَ الخَطَأ، فمَنِ ادَّعى ذلكَ فهذا أعظَمُ خَطَإٍ يفعَلُهُ، وأكبَرُ خَطيئَةٍ في ادِّعائِهِ، فإذا غَضِبَ أَحَدُنا مِن أمر فليَذكُر أنَّهُ مَهما عَظُمَ غَضَبُهُ لأمرٍ مِن أُمورِ الدُّنيا فإنَّ عذاب اللهِ سبحانه وتعالى أَشَدّ، وإنَّهُ حينَ يعفو، وحينَ يُكرِمُ غَيْرَهُ بالصَّفحِ عَنه، فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يُكرِمُهُ بالصَّفْحِ عنه؛ وما مِن أَحَدٍ يزرعُ مَعروفًا مِن هذه الدُّنيا سواءٌ أَزَرَعَهُ في مَوضِعِهِ، أم في غَيرِ مَوضِعِهِ إلّا وَوَجَدَ أَثَرَهُ ووَجَدَ ثِمَارَه.

  نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيَّاكُم مِنَ الذينَ إذا غَضِبُوا استغفروا، وإذا سَوَّلَت لهُم أنفُسُهُم ظُلـمَ أَحَدٍ تَذَكَّروا قُدرةَ الله سُبحانه وتعالى عليهم.

  اللهم صلِّ على محمد وآل محمد..

  الخُطْبَةُ الآخِرَة:

  ...أمّا بعدُ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه.

  يسعَى الإنسانُ إلى أن يبلُغَ شيئًا مِنَ الفَضْل، سواءٌ كانَ يعلـمُ كيفَ يسلُكُ الطريقَ إلى الفَضْلِ والفَضيلَة أم لم يكُن يعلَم، هو بطَبعِهِ يميلُ إلى أن يكسِبَ الأشياءَ التي لا تزول لا تفنى، ورُبَّما ظَنَّ أنَّ في شيءٍ مِن مُلكِ الدُّنيا ما لا يَفْنى وما لا يَزول! ورُبَّما ادَّخَرَ ذَهَبًا، أو رُبَّما ادَّخَرَ مالًا، أو رُبَّما ادَّخَرَ شيئًا آخَر، لأنَّهُ بطبعِهِ يميلُ إلى أن يملِكَ شيئًا يكونُ لهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فيه متى أَحَبّ وكيفَما أَحَبّ؛ ولكن لما رأى مِنَ الدُّنيا عَلـمَ أَنَّهُ لا يستطيعُ أن يَدَّخِرَ فيها شيئًا! ولا أن يحمِلَ مِنها شيئًا، سَوَاءٌ ادَّخَرَ فيها ذَهَبَها وفِضَّتَهَا أَم لم يَدَّخِر شيئًا! فإنَّهُ حينَ يُحْمَلُ على نَعشِهِ يتساوَى مَعِ الفقيرِ الذي لَم يكُن يملِكُ شيئًا، فإنَّ الـمَوْت يُسَوِّي بين الجميع، ولو كُشِفَ التُّرابُ في الـمَقابِر لـمَا عُرِفَ الغَنِيُّ مِنَ الفقير!

  فما ذلك الشيءُ الذي إذا بَلَغَهُ، أو اقتناه، أو ادَّخَرَهُ ،كانَ باقيًا مَعَهُ، لا يَفنى ولا يزول ولا تنقَطِعُ فائِدَتُهُ.

  الفَضائل والـمَنَاقِب التي تُطلَقُ على كُلِّ مَن يعمَلُ عَمَلًا صالحًا: هِيَ الشيءُ الذي لا يَضيع، وهِيَ الشَّيءُ الذي لا يُفقَد؛ وإنَّهُ إذا ضاعَ أو ضَيَّعَهُ أَحَدٌ مِن قَبيلِ حَسَدٍ، أو إنكارِ حَقٍّ، أو جُحودِ شيءٍ مِنَ الفَضْل، فإنَّهُ لا يَضيعُ عِندَ اللهِ سبحانه وتعالى.

  الإنسانُ بطبعِهِ مَطبوعٌ على الرَّزائل، لذلك فعليه مِن أجلِ أن يَبْلُغَ الفَضائِلَ أن يُكرِهَ نفسَهُ على أشياء، فإنَّ الجَنَّة على ما جاءَ في كثيرٍ مِنَ الأحاديث مَحْفوفَةٌ بالـمَكارِه، ولكنَّ النَّار محفوفَةٌ بالشَّهَوات، وليسَ فيها شيءٌ يتعَبُ مِن أجلِهِ، أو يُجاهِدُ مِن أجلِهِ، أو يجتَهِدُ في بُلوغِهِ، أو يَسعى إليه؛ وتلك التي أصبحَت محفوفَةً بالـمَكارِه، ينبَغِي إذا طَلَبَها أحَدُنا أن ينظُرَ في أيِّ شيء يجِبُ أن يرحَلَ إلى ذلكَ الـمَوضِعِ الذي يَطلُبُهُ ويَرْغَبُ فيه، ويشتاقُ أن يكونَ مِن أهلِهِ، إنَّهُ يطلُبُ أمرًا عَظيمًا، وذلك الأمرُ الذي يطلُبُهُ لا بُدَّ لهُ مِن ثَمَن، فمَا مِن أَحَدٍ يملِكُ شيئًا أو يقتني شيئًا أو يستطيعُ أن يَحمِلَ في يَدِهِ شيئًا بِلا ثَمَن.

  مَن يستطيعُ أو يجِدُ في نفسِهِ أنَّهُ يُمكِنُ أن يأخُذَ شيئًا بِلا ثَمَن! إذا وَقَعَ في الدُّنيا شيءٌ مِن هذا فإنَّهُ لا يَقَعُ في ميزانِ أحكَمِ الحاكِمِين، إنَّكَ لا تأخُذُ بلا عَمَل ولا تُظْلَم، لا يُعطى عَمَلُكَ إِلّا لَك، فإذا زَرَعتَ خيرًا حَصَدْتَ خيرًا، وإذا زرعتَ شَرًّا حَصَدتَ شَرًّا.

  الإنسانُ مطبوعٌ على الرّزائِل، طبْعُهُ ذلك فيِما جعلَ اللهُ سبحانه وتعالى فيه مِن شَهْوَةِ الطَّعام، مِن شَهْوَةِ الـمُلك، مِن شَهوَةِ المال، من شهوَةِ أشياءٍ كثيرة؛ فما الذي يجعَلُهُ نقِيًّا أو محفوظًا مِن تِلكَ الأشياء؟! هو أن يجتَهِدَ في أن يُكرِهَ نَفسَهُ على الفَضَائِل.

  يقول أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام: (أَكْرِه نَفْسَكَ على الفَضَائِل وإِنَّ الرَّزائِلَ أَنْتَ مَفْطُورٌ عليها). أي لستَ مُحتاجًا إلى أن تُحييَها لأنَّها كامِنَةٌ فيك ولكنَّكَ أَحْوَجُ ما تكون إلى أن تُحيِيَ الفَضيلَةَ التي غَمَرْتَها، والتي غَيَّبتَها بالكَسَل، وبالفُتُورِ عَن العَمَل، وبالـمَيْلِ إلى الدُّنيا.

  والذي يعرِفُ الفَضْل وهُوَ المنزلةُ التي أرادَ اللهُ سبحانه وتعالى لعِبادِهِ أن يكونوا عليها، فإنَّ أوَّل شيءٍ يُدخِلُهُ في عِدادِ هؤلاء هُوَ أن يعرِفَ الفَضلَ لغيره، أن يعتَرِفَ بفضلِ غيرهِ عليه وبحَقِّ غيره؛ يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: (لا يعرِفُ الفَضْلَ لأهْلِ الفَضْلِ إِلّا أهلُ الفَضل).

  معرِفَتُكَ فَضْلَ غيْرِكَ عليك هُوَ الذي يُدخِلُكَ في عِدادِ أهلِ الفَضْل، ثُمَّ يكونُ أعْظَمُ ما تَبْلُغُهُ مِنَ الفَضْل هُوَ أن تعتَرِفَ بتقصيرِك وأن تشعُرَ بهِ.

  لَكَفَى بالـمَرْءِ فَضْلًا أن ينتَقِصَ نَفْسَهُ؛ كَفَى بهِ فَضْلًا أن ينظُرَ في عَمَلِهِ فَيَراهُ ناقِصًا، فإذا وَقَفَ عِندَ هذا لَمْ يَتَجَرَّأ على لَوْمِ غَيْرِهِ فيما هُوَ أَحَقُّ باللومِ بِهِ، بل لم يَجِد مَطَعْنًا على غيرِهِ قَبْلَ أن يُصْلِحَ نَفْسَهُ، يكونُ بهذا أَمْسَكَ واستمسَكَ بزِمَامِ الفَضْل؛ إِنَّهُ إذا انتَقَصَ نَفْسَهُ فقد وَقَفَ على عُيوبِها وهُوَ حينئِذٍ من الذين يُؤمَلُ أن يبرَؤوا مِمَّا أَصابَهُم.

  ولو نَظَرَ وتَأمَّل ما كان بِما وَصَفَ الله سبحانه وتعالى في كِتابِهِ صِفَةَ الـمُتَّقين، وصِفَةَ الـمُؤمنين، وجَعَلَ لهُم ذلك التَّواضُع بالإقرارِ والإعترافِ بالذَّنب، ثم لو نَظَر فيما جاء مِن حديثِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيما جاء مِن كلامِ العًلماءِ والـمُجتهدين والأولياءِ والصَّالِحين، لعَلـمَ أَنَّهُ ينتَقِصُ نفسَهُ توبيخًا وتَعريفًا لتقصيرِهَا فإنَّهُ بذلك يُخَلِّصُها ويُنقِذُها ويُنَجِّيها ويرفَعُها إلى درجَةٍ هيَ خيرٌ وأعظَمُ منَ الدَّرجَةِ التي كان فيها؛ حينَ ينطِقُ بالذي يراهُ حَقًّا مِن هَضْمِ نفسِهِ، بالتَّواضُعِ الذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يستغنِيَ عنه، لأنَّهُ حين يستغني عنه يُدخِلُهُ استِغناؤُهُ في الجهل.

  فما مِن أَحَدٍ إذا رَضِيَ بأن يُقال فيه ما ليس فيه، أو أن يُمدَحَ بما ليس فيه ليَجْعَلَ ذلكَ مَطِيَّةً إلى الفُتورِ وإلى الخُمول وإلى التَّخاذُل إلّا كانت عاقِبَةُ أمرِهِ أن يخسَرَ ما بَلَغَهُ مِنَ الـمَكانَةِ ومِنَ الـمَنْزِلَة.

  يقول العَلّامَةُ الشيخ سُليمان الأحمد رحمةُ اللهِ تعالى ورِضوانُهُ عليه:

أمَّا والـمَعالي إنَّني لَيَسُوؤُني بِأن   يَنْحَلوني الزُّهدَ مَع حُبِّيَ الدُّنيا
وأن يَصِفوني مَع قُصوري أنني   بَلَغتُ مِن العَلياءِ إلى الرُّتبَةَ العُليا

  بمثلِ هذا يُصيبُ الإنسانُ الفَضْل، حينَ ينتَقِصُ نَفْسَهُ ويَتَّهِمُها بالتَّقصير ولا يُفاخِرُ بشيءٍ إن أحسَنَ في شيء، وعليهِ مِنَ السَّيِّئات، وفيهِ مِنَ التَّقصيرِ أضعاف مِمَّا قد أحسَنَ به! وإنَّهُ إذا نَظَرَ في نفسِهِ عَلـمَ أنَّ التَّعريفَ خيرٌ لها، وأنَّ إقرارَهُ بالخَطَإِ خيرٌ لهُ مِن أن يستَمِرَّ في الباطِل.

  نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيَّاكُم مِمَّن يَعْرِفُ الفَضْلَ لأهلِ الفَضْل.

  اللهم صلِّ على محمد وآل محمد ووفِّقنا لما تُحِبُّ وتَرضَى، وارزُقنا في كُلِّ صَبَاحٍ عَمَلًا يُقَرِّبُنا إليك، وفي كُلِّ مَساءٍ عَمَلًا يُقَرِّبُنا إليك، وفي كُلِّ نَهارٍ تَوبَةً نجْتَنِبُ بها سَخَطَكَ وغَضَبَك، وفي كُلِّ ليلٍ عَمَلًا صالِحًا يُنيلُنا دَرَجَةً نُصيبُ بها مِن عَفْوِكَ ما تُكْرِمُنا بِهِ.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد صلاةً تقبَلُ بها صلاتَنا، وَصلِّ على محمد وآل محمد صلاةً تَقْبَلُ بها رُكُوعَنا وسُجُودَنا، وصلاةً تجعَلُ لنا فيها مِن محمدٍ وآل محمد الطَّيبين الطَّاهرين شافعينَ يومَ الدين يا ربَّ العالمين.