القارئ الكريم، هذه مُقدّمة كتاب عين اليقين في آداب الدنيا والدين (ج1) لمؤلفه فضيلة الشيخ يونس حمدان آل عبّاس سلمان بيصين .
وتجد فِهرس هذا الكتاب على يمينك.
(إدارة موقع المكتبة الإسلامية العلوية)
إنّي كلما نظرت أو تصوّرت، ذلك الشيخ المؤمن الصابر، الذي جاوز التسعين عامًا من عمره، وهو بين المحابر والأقلام، وسميره فيها أهل الفكر والعلم في العصور الإسلامية، يتحدّث إليهم، ويتجاوب معهم، وينسجم مع تراثهم الفكري.
إني كلما نظرت إليه، وهو في شيخوخته المهيبة الواعية، يترائى لي أولئك الأعلام في قادة الفكر في هذه الأمة، الذين عاشوا علمهم وأفكارهم، وقضوا فرصة حياتهم بالعطاء، فأغنوا المكتبة العربية والفكر العربي بثمرات تلك الروح العلوية، التي انجذبوا فيها وحيوا بها، فنقلوا صورة ماعرفوا على حقائق الوجود والحياة إلى أذهان من بعدهم، فكانت غذاءً وحياةً ونماءً.
ست وتسعون عامًا، أمضاها متنقلاً في رياض الحكمة وجنات المعرفة، يرتوي من معينها ويعبّ من غديرها بدون كلل ولا سأم، إلى أن جاوز دور التأليف، فكتب ماشاء الله له أن يكتب، ببيان الأديب وعمق الفيلسوف وأسلوب الحكيم، يريد بكل ذلك إحياء الكلمة وإعطاءها نورانيتها الحيّة، فتستبق إلى القلوب البريئة التي لم تسلك إليها الشبهات ولم تملك عليها أمرها الأباطيل التي خلفتها أزمنة الظلام، والتي مادانت عليها بهارج العصر الحديث وزيفه، فتمد بيدها الناعمة الرؤوم إلى القلب الكسير فتنعشه وتعزيه وتمنحه الشفاء والأمل والرجاء.
قلت له مرّة: لو أعطيت نفسك بعض الراحة لأنك بسن يوهيه التعب, فأجاب: "أنّ ما تراه مني، هو حاجة من حاجات نفسي، لا غِنى لي عنها، ولو تركتها، لعِشت نكدًا".
لأنّ الدين ريٌّ وغذاء ونور وضياء للنفس الهائمة المتعطشة إلى معرفة الوجود واكتناه سرّه، وهو ظاهرة عميقة الجذور في النفس البشرية، وهو الذي يُحقق لها معناها ويُقوّم معوجّها ويُعطيها هُداها، وبه حياة الضمير وقوام الوجدان، وهو منزل الرحمة في القلوب، ومناط آمالها ورجائها.
لقد حاول الإنسان منذ وُجِدَ على هذه الأرض أن يفهم سرّ الكون ويفسّره، وأن يصل إلى معرفة حقيقته، فتكلم بالأزلية والأبدية والزمان والمكان والمحسوس والمعقول، وتحدث عن الطبيعة وما وراءها، واكتشف كثيرًا من القوى المودعة فيها وسَخّرها لصالحه في معاشه، ولكن كل ذلك لم يكشف الغموض! ولم يقف به إلا على الحيرة! وهو لا يزال يفسّره ويفرض الحلول اللامتناهية! ولكن الغموض لا يزال يزداد ويزداد! فهل يصل إلى اكتشاف السر بعقله الذي يجهل ذاته!. ذلك سؤال لم يحظ بجواب.
- لقد قالوا بالجاذبية، وأثبتوا وجودها بما رأوا من آثارها، ولكن هل عرفوا حقيقتها ومصدرها؟
- وتحدثوا عن الحياة، وأطالوا وفتشوا عنها، فلم يعرفوا ولم يدركوا من أمرها شيئًا وهم فيها؟
- ثم ذكروا الفكر والعقل، وما من تلعة إلا وأصعداهم فيها ولا واديًا إلا وهبطا بهم فيه. فما هو الفكر؟ ومن هو العقل؟ وما سر ارتباط هذا اللطيف بالجسم الكثيف؟ فقالوا: تلكم تفاعلات في الدماغ! كما قالوا أنّ الحياة وثبة حيوية من عمق الوجود!
- لقد فتشوا الدماغ ليعلموا، وجميع الأجسام الحية، فوجدوا الأعضاء الحية، ولكنهم لم يجدوا الحياة! ثم وجدوا المراكز التي قالوا أنّ الفكر فيها، ولكن ماذا وجدوا؟! لم يجدوا إلا اللحم والدم، أما ساكنهما فما وقفوا له على عين ولا أثر.
أما الدين، فقد أشار إلى الجواب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فقد علم المبدأ والمعاد هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، والأزلية والأبدية، والزمان والمكان، والطبيعة وما وراءها، وعرف الحياة الدنيا وما بعدها من الدار الآخرة، وأهاب بالإنسان لكي يتوجه إلى العُلى، إلى الله الذي أعطى كل شيء خلقه، ثم هدى بالحكمة الإلهية والعناية الربانية، فألقى بذلك في النفوس عزاءً ورجاءً ونورًا وضياءً، فكان لها هاديًا وسرًّا في القلوب ساريًا.
قال سيدنا العلامة :
الدين، له سر في بَريّته، سار فلا سوقة يغدوا ولا ملكًا، الدين والدنيا ضِرثان تتنازعان البقاء في هذ العالم، وكل منهما تَعرضُ نفسها أمام هذا الإنسان السائر في الظلمات.
فالدين يُعطيه الهداية، ويدله على الحق، ويسكب في نفسه ما يرفعه عن ماديته الكثيفة، فهو يُحَقّق ذاته ويرفعها نحو كمالها اللائق بكرامة الإنسان، إنّه السبيل إلى كل خير، والراعية إلى كل فضيلة، والرافع راية الإيمان بالله العلي الأحد الحي القيوم، وهو الذي يُنير آفاق النفس، ويوجهها نحو ذلك الجو المنغوم المأنوس، إلى أن تصل إلى كمالها في الإنسانية، وتصفو من أدران ماديتها، وتلك هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
والدنيا، تغري المرء فيها، وتتزين له في جلباب الشهوات وملاذ البَدن، فتُثير أطماعه، وتشب غرائزه ونزواته، فينطلق في مساقها، ويركض وراءها، فهو منها: في تعب وعناء، ولذة وألم، إلى أن يُصبح عبدًا للجسد، مُسخَّرًا لأهوائه وأحلامه في الحياة، فكلما وصل إلى شيء طلب غيره ولاح له ما هو أكثر إغراءً، إلى أن يصل إلى النهاية المحتومة، فيخرج منها بلا شيء، فهو في حياته: كشارب ماء الملح، كلما شرب منه ازداد ظمأً، مُسَخِّرًا أثمن ما فيه، وهو الحياة، لسد حاجات هذا الجسد البالي، التي لا تنقضي، وليس لها حد، ولو عاش للأبد.وفي بسطها عند الممات إشارة ألا فانظروا إني خرجت بلا شيّ
وهو مع علمه بما يؤول إليه أمره، متشبث بالحياة، ويعمل للخلود، ولو بآثاره، أو أولاده! ولكن من أين، وأنّى يكون، والله يرث الأرض ومن عليها، وكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.
وبعد، فقد ذهب بنا القول إلى أبعد مما كنا نبتغي، ولكن لم يكن ذلك ليخرج عن موضوع ماتحدّث به، سيدنا الفيلسوف الشيخ يونس حمدان في كتابه الأخير.
إني يا سيدي، أعجب بالمُؤََثِّر أكثر من إعجابي بالأثر، وإعجابي بشيخنا الفيلسوف أكثر من إعجابي بالكتاب الذي أخرجه للناس، ذلك لأنه لم يكن إلا وَمضة من وَمضات الفكر الواعي، وشعة من نور عقله المشرق، والأصل أولى من الفرع، وقد قيل ما مات عالم إلا ومات معه ثلثا علمه ولو حرص الناس، فشيخنا رضي الله عنه هو الكتاب الحقيقي الذي نقرأ فيه آثار نعمة الله عليه، وهو عميق الغور، بعيد الأفق، غني بالمعنى، إنه يُناجي الروح العلوية، وينسجم معها، وتنفسح رؤاه في أسرارها ومعانيها، وما أخرجه للناس من كتب كثيرة، ماهي إلا بارقة يسيرة من أسرار تلك النفس الزكية ومعنىً من معانيها، وإني كما قلت لَجِدُّ مُعجبٌ بحركة تلك النفس الكبيرة، التي مابخلت بإعطاء هذه الوَمضات الحَيّة التي رُسِمت بالحروف والكلمات وسَمّيناها كتبًا، فإنها تُخاطب النفوس، وتدل التائهين إلى التي هي أقوم، والله يُعطي ما يشاء ويمنع.
وكان يجب أن أتحدثَ في تحليل هذه الشخصية الكريمة عليّ، العزيزة على نفسي، وأُعطي العلامات الدالة على عظمتها، وقد تحولت إلى روح تخاطبك من جسد جليل، وتناجيك وترفعك عن مستواك العادي، لتُسَلمك الطريق لما هو أسمى وأرفع وأعلى، ولكني أعلم أنه لا يَرضى المديح، ولا يُحب التطويل، فآثرت رضاه على رضايَ، واقتصرتُ على هذه الكلمة الموجزة، مُلتمسًا العُذرَ وطالبًا الصفحَ، ولعلّ في مقدمة الكتاب الآتي نتمكن من القيام ببعض واجبه علينا، مد الله بعمره الكريم، وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يُبعث حيًّا.
- 5033 views