خُطبتا صلاة الجُمُعة في 12 أيلول 2014م

أُضيف بتاريخ الخميس, 10/09/2015 - 13:40
(فيديو + مُلَخّص عن خطبتيّ صلاة الجُمُعَة في 12 أيلول 2014م)

  موضوع الخطبتين: (زمن الخصومات والمُشاحنات والبغضاء - من هم الذين يُعيّرون الناس بأعمالهم - كيف ترد على جنود إبليس - كيف يكون الخير كله في النظر والكلام والسكوت - تمثّل كيف ستُترك في حفرتك وحيدا وماذا سينفعك وقتها)

- نحن في زمنٍ كثُرت فيه الخُصومات، في زمنٍ كثُرت فيه المُشاحَنَات، وكثُرت فيه البَغضاء...
- من وصيَة رسول الله ص وآله وسلم لرجُلٍ اسمه شِمْعَون بن لاوي..
- الذين يُعَيّرون الناس بأعمالهم ولا يُعيّرون أنفسهم، ولا يُحاذرون أعمالهم، يبحثون عن عُيوب الناس، وعن ذنوب الناس، ويَنسَونَ ذنوبهم، ويتركون ما أُمروا به من إصلاح أنفسهم، ومن تفقّد عيوبهم، فهؤلاء من الذين قد مُكِرَ بهم من حيث لا يعلمون.
- ولِكُلٍّ جُندٌ كما تعلمون، إمّا من جنود الله عز وجل وهو كُلّ ناطقٍ بالحق أو عاملٍ من أجل الحق أو ساعٍ إلى الحق، وكُلُّ عاملٍ بالهوى أو سائرٍ إلى الباطل أو ساعٍ إليه فهو من جنود إبليس.
- بماذا تُجيب جنود إبليس إذا فإذا أتاك وقال لك: قد مات وَلَدُك.. قد ذهبَ مالُكَ.. الناس يظلمونك وأنت لا تظلم.. ما أكثر إحسانك.. ما أكثر ما تُعطي الناس.. كم تعمَل.. كم تُطلم.. اشرب الشراب.. وإذا أتاك وقال لك: ألا تُحِبُّ الدنيا....
- ومِمّا يجب على كُلِّ عاقِلٍ حين يُخاصَمُ، فيتكبّرُ الخصمُ مُعاندةً للحق، فيستصغرَهُ ويقول له: من أنت؟ أو ما أنت؟ أن يذكُر حديث الصَحابِيّ الجليل سَلمان الفارسيّ رضي الله عنه أو سَلمان المُحَمَّدِيّ يومَ خاصمهُ رجُلٌ فقال له: من أنت وما أنت يا سَلمان؟

- - عن قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : (فكُلُّ نَظَرٍ ليس فيه اعتبار فهو سَهوٌ، وكُلّ كلامٍ ليس فيه ذِكرٌ فهُوَ لَغوٌ، وكُلُّ سكوتٍ ليس فيه فكرةٌ فهو غَفلَة)
- - لينظُر كُلٌّ منا وليتصوّر وليتمثّل أنّه سيجيئ عليه يوم يُحمل فيه على أكتاف الرجال كما حُمِلَ اليوم فلان وكما حُمِل في الأمس فُلان وكما سيُحملُ غداً فُلان فماذا يجب عليه أن يستعدّ لها اليوم، وأن يحمل لهذا اليوم. ليذكر وليتصوّر كيف سيُترك في حُفرتِهِ وحيداً.
- - وإن مشى خلفك ولدُك وإن مَشَت خلفك زوجتك وإن مشى خلفَكَ أصدقاؤك فإنّهم سيُسلمونك إلى ربّك ويرجعون وحينئذٍ تنظُرُ فلا ترى مالاً ولا ترى أهلاً ولا وَلداً ولا ترى إلّا العمل الذي عمِلتَهُ، فإذا كان خيراً فهو مَعَك وإن كان شرّاً فهو معك، فليحمل كُلٌّ منّا ما يُخفّف عنه العذاب في ذلك اليوم


  الخُطبة الأولى:

  نحن في زمنٍ كثُرت فيه الخُصومات، في زمنٍ كثُرت فيه المُشاحَنَة، وكثُرت فيه البَغضاء، وما من أحدٍ يُنكِرُ ما نقوله لأنّه يراه بعينيه.
كثُرت الخُصومات وكثُرت المُشاحنات واتّخذ كُلٌّ من رأيه وممّا يهواه سنداً وحُجّةً فيما يفعلُ، وما بقيَ لكتاب الله عز وجل ولا لسُنّة نبيّهِ في أيدينا غيرَ أسمائها، كالقوم الذين لم يبق معهم من القُرآن غير اسمهِ.

  زمنٌ كثُرت فيه الخُصومات.. إذا رَجَعنا إلى ما جاء في حديث رسول الله ص وآله وهو ممّا نقله صاحب كتاب تُحَف العُقول رحمه الله من وصيَة رسول الله ص وآله وسلم لرجُلٍ اسمه شِمْعَون بن لاوي، أوصاه بوصيةٍ طويلة ، كان من تلك الوصية التي أوصاهُ بها:
(يا شِمْعَون إنَّ لكَ أعداءً يطلبونك ويُقاتلونك ليَسلُبوا دينك من الجِنِّ والإنس، فأمّا الذين هم من الإنسِ فقومٌ لا خَلاقَ لهُم في الآخِرة، ولا لهم رَغبةٌ فيما عند الله عز وجل، إنّما همُّهُم تعيير الناس بأعمالهم، لا يُعَيّرون أنفُسَهم، ولا يُحاذرون أعمالهم، إذ رَأَوْكَ صالحاً حَسدوك وقالوا مُرَاءٍ، وإن رَأَوْكَ فاسداً قالوا لا خيرَ فيه)
  هؤلاء وما أكثرهم في هذا الزمان هم الأعداء الذين يجب أن نحذرهم بحسب ما أوصى به رسول الله ص وآله وسلّم، الذين يُعَيّرون الناس بأعمالهم ولا يُعيّرون أنفسهم، ولا يُحاذرون أعمالهم، يبحثون عن عُيوب الناس، وعن ذنوب الناس، ويَنسَونَ ذنوبهم، ويتركون ما أُمروا به من إصلاح أنفسهم، ومن تفقّد عيوبهم، فهؤلاء من الذين قد مُكِرَ بهم من حيث لا يعلمون.

  (وأما أعداؤك من الجن فإبليس وجنوده) ولِكُلٍّ جُندٌ كما تعلمون، إمّا من جنود الله عز وجل وهو كُلّ ناطقٍ بالحق أو عاملٍ من أجل الحق أو ساعٍ إلى الحق، وكُلُّ عاملٍ بالهوى أو سائرٍ إلى الباطل أو ساعٍ إليه فهو من جنود إبليس.

  (فإذا أتاك وقال لك) وهذا ممّا لا يَسلَمُ منه أحدٌ من الوَساوِس التي قد تتحرّك في صدرك.
(فإذا أتاك وقال لك: قد مات وَلَدُك فقُل: إنّما خُلَقَ الأحياءُ ليموتوا وتدخل بضعَةٌ مِنِّيَ الجنة إنّه لَيَسُرُّنِي) إذا جاء أحدنا قائلٌ بهذا أو وسوس إليه الشيطان بهذا ليصرفه عن الحق الذي هو عليه من التسليم لله عز وجل فقال له : مات ولدُك أو ماتَ أخوك أو مات أبوك فقُل (إنّما خُلَقَ الأحياءُ ليموتوا) وهل خُلِقنا لنكون من الخالدين (إنّما خُلَقَ الأحياءُ ليموتوا وتدخل بضعَةٌ مِنِّيَ الجنة إنّه لَيَسُرُّنِي) .

  (فإذا أتاك وقال: قد ذهبَ مالُكَ فقل الحمد لله الذي أعطى وأخذ وأذهب عني الزكاة فلا زكاة علي) وهل من أحدٍ يملك شيئاً إلّا من فَضل الله، ما من أحدٍ يملكُ شيئاً إلّا من فَضلِ الله عز وجل، فهل نُخاصمُ الله على ما أنعَمَ مِن فَضلِهِ؟! من منا إذا أَودَعَ أمانةً عند أحدٍ من الناس يجوز له أن يُخاصمهُ في تلك الأمانة وتلك الوَديعة التي هي من حَقّه، لا يستطيع أن يُخاصِمَه. كذلك ما أنعَمَ به الله سُبحانه وتعالى فإنّما هو لله إن أخذَ وإنّما هو لله إن أعطى وليس لنا من الأمر شيء.

  (وإذا أتاك وقال لك: الناس يظلمونك وأنت لا تظلم فقل: إنما السبيل يوم القيامة على الذين يظلمون الناس وما على المُحسنين من سبيل) ومن مِنّا يكرهُ أن يكون له في يوم القِيامَة من الأمان ما لا يكون لغيره، ما من أحدٍ يكرهُ هذا.

  (وإذا أتاك وقال لك: ما أكثر إحسانك يريد أن يَدْخٌلَك العٌجْبُ) والعُجْبُ كما تعلمون إعجابُ المرء بنفسه الذي يجعله مُتكبّراً على غيره الذي قال فيه أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام : (إعجابُ المَرءِ بنفسِه، دليلٌ على ضَعفِ عَقلِه) إذا أتاك وعَظَّمَ إحسانَك (ما أكثرَ إحسانَك) ليَدخُلَكُ العُجبُ بهذا فإنّ عملكَ يصيرُ إلى فَساد فقُل (فقل إساءتي أكثر من إحساني) إذا رأيتني مُحسناً في أمرٍ ما فإنَّ إساءتي أكثرُ من إحساني .

  (وإذا قال لك: ما أكثرَ ما تُعطي الناس فقل: ما آخذه أكثر مما أعطي) لئلّا يُجبُ أحدٌ بعَطائه.
(وإذا أتاك وقال لك: كم تعمل فقل: طالما عصيت) لا يَظُنَّنَّ أحدنا أنّه حين يعملُ من الخير شيئاً أنّه بهذا ينسى ما سَلَفَ منه من المَعصِيَة، من قال لك كم تعمل وعَظَّمَ عَمَلَكَ (فقُل: طالما عَصَيْت) إن لم تكُن رأيتني وأنا أَعصي فإنَّ الله عز وجل قد رآني طالما عصيت ولم أُرِكَ ولم أُظهِر لك غير هذا العَمَل الذي رأيتَهُ ولكني طالما عَصَيتُ الله عز وجل.

  (وإذا أتاكَ وقال لك: كم تُظلَم! فقُل: من ظلمتُهُ أكثر) الذين ظلمتهم أكثرُ من الذين ظلموني، من هنا من هذه المعاني أخذ العلّامة الشيخ سُليمان أحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه قوله:

الذنبُ ذنبي ومِنّي ما مُنِيتُ به   تشنيعُ جاري أو العِصيانُ من وَلَدي
إذا امرؤٌ ساء بي ظَنّاً ففِعْلتُهُ   كانت لسيّءِ ظَنٍّ دارتْ في خَلَدي

  (وإذا أتاك وقال لك: اشرب الشراب. فقل: لا أرتكب المعصية.)
(وإذا أتاك وقال لك: ألا تُحِبُّ الدنيا. فقل: ما أحبها وقد اغتر بها غيري)
مالي أُحبُّها وأنا أراها تُبلي وأنا أراها تُفني فكيف أُحِبّها وقد رأيت مَصيرَ من سَبَق فأحَبَّها!

  ومِمّا يجب على كُلِّ عاقِلٍ حين يُخاصَمُ، فيتكبّرُ الخصمُ مُعاندةً للحق، فيستصغرَهُ ويقول له: من أنت؟ أو ما أنت؟ أن يذكُر حديث الصَحابِيّ الجليل سَلمان الفارسيّ رضي الله عنه أو سَلمان المُحَمَّدِيّ يومَ خاصمهُ رجُلٌ فقال له: من أنت وما أنت يا سَلمان؟
فقال له: أمّا أوّلي وأوّلُك فنُطفَةٌ قذِرَة، وأمّا آخِري وآخِرُكَ فجيفَةٌ مُنتِنَة. فإذا كان يوم القيامة ونُصِبَت المَوازين فمن ثقُلَت مَوازينُهُ فهوَ الكريم ومَن خَفَّت موازينُهُ فهو اللئيم.

  فكيف يجول في بالِ أحدٍ بعدما نُبّهَ وبعدما ذُكِّرَ، وبعدما أرسلَ الله إليه الأنبياء والرُسُل، وبعدما سَمِعَ مِن كلام الأئمّة، ومن مِنّا لم يسمع (عجبتُ لمن يتكبّرُ وقد خرج من مَخرجِ البَولِ مَرَّتَين) وهل تُريدُ وَصفاً أشَدَّ من هذا؟! في استصغار الحال التي أنتَ عليها حتى تستطيلَ وتَفخَر وتتكبّر وتتجبّر!.

  هذا ما يجب أن يكون حاضراً في أذهاننا حين نرى من أمثال ما نراه من هذه المُخاصمات التي لا قيمة لها، ومن التعيير، ولنعلم أنَّ كُلّ من عَيَّرَ إنسانا بعمله وأنّ من نسيَ ذنوبَهُ وتفقّد ذنوب الناس فهو ممّنَ مَكَرَ الله عز وجل به. وإذا –كما قال الإمام الصادقُ عليه السلام- (إن كان الله تكفّل بالرزق فاهتمامُكَ لماذا؟ وإن كان الرّزقُ مقسوماً فالحِرصُ لماذا؟) إذا كان الله تكفّل فلماذا مع ما أنت مُدَّعيه من التصديق لحكمة الله عز وجل.

  نسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخُذَ بأيماننا إلى مَنهَج الحق، وأن يوفّقنا لقَبول أمرِهِ وللعمل بما يُرضيه، وأن يجعل من صَلاتِنا على نبيّه صلّى الله عليه وآله وسَلَّمَ وسيلةً إلى العمل الصالح يرضى بها عنّا، وأن يُحَبّب إلينا الحق وأن يُكرّهَ إلينا الباطل.......

  الخُطبة الثانية:
  جاء في حديث مَولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (جُمِعَ الخَير كُلُّهُ في ثلاثِ خِصال: النظَر والسكوت والكلام)
في النظر وفي الكلام وفي السكوت اجتمعت خَصال الخير، اجتمع الخير كُلّهُ في هذا، (فكُلُّ نَظَرٍ ليس فيه اعتبار فهو سَهوٌ، وكُلّ كلامٍ ليس فيه ذِكرٌ فهُوَ لَغوٌ، وكُلُّ سكوتٍ ليس فيه فكرةٌ فهو غَفلَة)

  (كُلُّ نَظَرٍ ليس فيه اعتبار فهو سَهوٌ) إذا نظرنا فرأينا إنساناً يتأمَّل، لم يكُن في تأمُّلِهِ يعتبر، ينظُرُ إلى العِبَر ويستحضرُها ويتذكّرُها فإنّ تأمُّله ونظره الذي هو فيه إنما هو سهوٌ لا فائدةَ فيه.

  (وكُلّ كلامٍ ليس فيه ذِكرٌ فهُوَ لَغوٌ) كل كلامٍ لا يكون في ذِكر الله عز وجل فهو لَغوٌ لا فائدة فيه ولا قيمة له، هذا إذا لم يكُن في المَعصية، إذا كان في أشياء لا تنفع ولا تضُرُّ عُدَّ لغواً، أمّا إذا نُقِل من هذا إلى معصية الله من غِيبَةٍ أو نَميمةٍ أو ما شاكَلَ ذلك خرج من اللغو إلى المعصية.

  (وكُلُّ سكوتٍ ليس فيه فكرةٌ فهو غَفلَة) كل سُكوتٍ إن لم يكن فيه تفكُّرٌ فهو غفلة وإن كان صامتاً فهو غافلٌ عمّا يجب عليه أن يعلمَهُ وعمّا يجب عليه أن يَعمََله.

  (فطوبى لمن كان نظرُهُ عَبَراً، وكلامُهُ ذِكراً، وسُكوتُهُ فِكرةً، وبكى على خطيئتهِ وأمِنَ الناسُ شرّهُ) طوبى لمن كان بهذه الحال وعلى هذه الصِفات، وما أوّل شيءٍ إذا تأمّلتَ أم نظرت وأردتَ الإعتبار، أوّلُهُ المَصيرُ الذي ستؤول إليه، والقبرُ الذي ستُلقى فيه والتُراب الذي سترجع إليه.

  عاد بعضنا اليوم من دَفن رجُلٍ توفّاه الله إلى رحمته، من مِنّا تمثّل أنّه مكان هذا الرجل، من منّا تصوّر أنّه محمولٌ مكان هذا الرجل سيُلقى في حُفرته ويَرجع الناس عنه وماذا سيئكُرُ حينئذٍ، وماذا سيحمل معه حينئذٍ؟ أتُرى ينفعُهُ ما كان يملك من الدنيا؟ أتُرى ينفعُهُ ما كان يغتابُ به؟ أتُرى ينفعُهُ ما كان يُؤذي به الناس؟ أتُرى ينفعُهُ ما كان يكذِبُ به على ربّه؟ ما الذي ينفعُهُ؟ إنّه لا ينفعُهُ إلّا التقوى ، إنّه لا ينفعه في هذا اليوم وفي هذا الموقف إلّا العمل الصالح ومن لم يحمل معه عملاً صالحاً فقد خرج من الدنيا خاسراً.

  لينظُر كُلٌّ منا وليتصوّر وليتمثّل أنّه سيجيئ عليه يوم يُحمل فيه على أكتاف الرجال كما حُمِلَ اليوم فلان وكما حُمِل في الأمس فُلان وكما سيُحملُ غداً فُلان فماذا يجب عليه أن يستعدّ لها اليوم، وأن يحمل لهذا اليوم. ليذكر وليتصوّر كيف سيُترك في حُفرتِهِ وحيداً.

  أما قال أمير المؤمنين عليه السلام (بعد رجوع الناس حتى إذا انصرف المُشَيّع ورَجَعَ المُتَفَجّع، أُقعِدَ في حُفرتِهِ نَجِيّاً لبَهتة السؤال وعَثرة الإمتحان، وأعظم ما هنالك بليّةً نزول الحميم وتصلية الجحيم وفورات السعير وثورات الزفير إنّا بالله عائذون)

  كم قال أمير المؤمنين علي بن أبي طال عليه السلام (ألا فاذكُروا هازم اللذّات) من مِنّا يأمنُ أن يُكمل الكلمة وهو يتكلّم؟ من مِنّا يضمن إذا نام أن يستفيق من نومه؟ (ألا فاذكُروا هازم اللذّات، ومُنَغّصَ الشهوات، وقاطع الأُمنيات، عند المُساورةِ للأعمال القبيحَة) لا يذكُرَنَّ أحدُنا الدنيا وما فيها فإنّها تغُرُّهُ ولكن ليذكُر مَصيرهُ يوم يُحمل ليُلقى في قبرِهِ وَحيداً، ليذكُر هناك أنّ الدود حين يَعلو على جسده لا يستطيع دفعهُ، هو أعجز من أن يقتُل دودةً صغيرة تأكُلُ عينيه وتأكُلُ لسانه وتأكُل قلبه، هو أعجز من أن يدفعَ ذُباباً عن جسدِهِ بعدما كان إذا نام يُحضِر الكِلَلَ والأسرار من أجل أن لا يُؤذيَهُ البَعوض، صار اليوم لا يستطيع أن يدفع بعوضةً عن جسده. فليذكُر كُلٌّ منّا هذه الحال وما قيل في وصفها كثير.

أين الملوك وأبناءُ الملوك ومن
قادوا الجيوشَ ألا يا بئسَ ما عمِلوا
باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرُسُهم
غُلْـُب الرجال فلم تنفعُهُم القُلَل
وأُنزلوا بعد عِزّ عن معاقِلِهم
وأُسكِنوا حُفرةً ا بئس ما نزوا
ناداهُمُ صارخٌ من بعد ما دفنوا
أين الأَسِرَّةُ والتيجانُ والكِلَلُ
أين الوجوه التي كانت مُنَعَّمَةً
من دونهـا تضرب الأستار والكِلَلُ
فأفصحَ القبرُ عنهم حين ساءَلَهُم
تلك الوجوه عليها الدود ينتقل
يا طالما أكلوا دهراً وما شربوا
فأصبحـوا بعد طيبِ الأكل قد أُكِلوا
سالَت عُيونُهُمُ فوق الخُدُودِ ولو
رأيتهُم ما هناك العَيشُ يا رجلُ

لمن أقول لمن أسعى لمن لِمَني
سَفْري بعيدٌ وزادي ما يُبَلّغُني
أنا الذي أغلق الأبواب مُجتهدا
على المعاصي وعين الله تنظرني
أنا الذي العينُ مِنّي كُلّما نَظَرَت
ترى الذنوب التي قد أكثرت شَجَني
أنا الذي صِرت بين
مُطّرحاً على الفِراش وأيديهم تُقلّبُني
ثُمَّ المُغَسّلُ حالاً جاء جَرَّدَني
من الثيابِ على رَغمي ومَدَّدَني
وأَنزلوني سريراً كان من خَشَبٍ
وصَبَّ ماءً على جِسمي وغَسَلَني
سَعَوا إلى كَفَنٍ قد حيكَ من قُطُنٍ
قاسوه وخاطوه والأيدي تُغَمّضُني
وحَمَّلوني على أكتافِ أربعةٍ
نحو المُصَلّى وخَلفي من يُوَدّعُني
صَلّوا عليَّ صلاةً لا سجودَ لها
وقَدَّموني إلى قَبري ليَلحَدَني
رَدّوا عليَّ تُراب القَبر وانصرفوا
كأنَّ ما فيهُمُ من كان يعرِفُني
يا ليتَ شِعري إلى أن نِمتُ مُنفرِداً
لمن أتاني ومَن في القبر يسألُني
مِن مُنكَرٍ ونَكيرٍ ما أرى لهُما
فقد أرى منهما هَولاً يُفَزِّعُني
خُذ القَناعَةَ مِن دُنياكَ وارضَ بها
واجعلْ نَصيبك منها راحةَ البَدَنِ
وانظر إلى مَن حوى الدُنيا بِرُمّتها
هل راح منها بغير القُطن والكَفَنِ

  إذا رُدَّ عليك تُراب القبر فإنّ الذي يعرفُكَ لا يعرفُك، وإنّ صديقك ليس بصديقٍ، وإنّ الحَميم ليس بحَميم، وما من أحدٍ لو كان من أصدقائك يملكُ الدنيا يستطيع أن يُخفف عنك ذرّةً من العَذاب، لا يستطيع أن يدفعها عنك (رَدّوا عليَّ تُراب القَبر وانصرفوا كأنَّ ما فيهُمُ من كان يعرِفُني)

  وإن مشى خلفك ولدُك وإن مَشَت خلفك زوجتك وإن مشى خلفَكَ أصدقاؤك فإنّهم سيُسلمونك إلى ربّك ويرجعون وحينئذٍ تنظُرُ فلا ترى مالاً ولا ترى أهلاً ولا وَلداً ولا ترى إلّا العمل الذي عمِلتَهُ، فإذا كان خيراً فهو مَعَك وإن كان شرّاً فهو معك، فليحمل كُلٌّ منّا ما يُخفّف عنه العذاب في ذلك اليوم، ليحمل ما يكون به مسروراً في ذلك اليوم وليذكر ما وصف به هذا القائلُ رحمه الله كيف جُرّدَ من ثيابه ومُدّدَ على المُغتسل وغُسّل، وكيف حُمِلَ على الأكتاف، ثم دُفِعَ إلى قبره، ليُلحَدَ ثم رَجَعَ عنه الناس فما خرج من الدنيا بغير القُطن والكَفَن..

  نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممّن يُكثِرُ ذِكرَ الموت ليكون له بذلك ما يُقلّلُ من معصيته وأخطائه، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا إذا ذكرَ هذا اعتبر، وممّن إذا اعتبرَ تدبَّر، وممّن إذا تدبّرَ أمسَكَ ما استطاع عن المَعصية، وبادر إلى طاعة الله عز وجل، أن يكون له في ذلك الموقف وفي ذلك اليوم يوم يخرج من البيت الذي عاش فيه وبذل دمه وعرقه وماله في ذلك البيت الذي يدفع حياته إذا هجم عليه أحد سيخرج منه على رَغم أنفه صاغراً ليُلقى في بيتٍ مُظلمٍ لا نور فيه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد وافعل بنا ما أنتَ أهلُهُ في الدين والدُنيا والآخرة يا رب العالمين، عباد الله إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى، ويَنهَى عن الفَحشاءِ والمُنكَرِ والبَغي، يعِظُكُم لعلّكُم تَذَكَّرون، اللهم اجعلنا ممّن ذكّرتهُ فتذكّر، وزجرته فانزجر، وأسمعتهُ فسمعَ، وبصّرتَهُ فأبصَر، أقول قوليَ هذا وأستغفرُ الله لي ولكم.