خُطبتا صلاة الجُمُعَة في 19 أيلول 2014م

أُضيف بتاريخ الخميس, 17/09/2015 - 13:50
(فيديو + مُلَخّص عن خطبتيّ صلاة الجُمُعَة في 19 أيلول 2014م)

  موضوع الخطبتين: (الصبر والإيمان والقضاء والإبتلاء - عزاء لأمير المؤمنين للأشعب بن قيس - أصول الكفر: الحرص والإستكبار والحَسَد - العِبادة من حيث أراد الله لا من حيث أراد فلان وفلان- أن تطلُب شيئاً ليس لك بحق – لا تكذب - شعر للشيخ عبد اللطيف ابراهيم)


  الخُطبة الأولى:

  ممّا جاء من الوَصايا التي أوصى الله عز وجل بها عباده وفيما وصف به المُحسنين من عِباده الذين وُعدوا بالحُسنى حين قال سبحانه وتعالى ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ وحين قال ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
(الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) كما جاء في حديث الأئمة عليهم السلام، إذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان.

  وفي حديثٍ آخر (من لا صبر له لا إيمان له) لأن الله سبحانه وتعالى إذا ابتلى عبده فصبر على ما ابتُليَ به كان ممّن أدّى حق الله سبحانه وتعالى عليه، وإن جَزِعَ مُستنكراً وليس حزناً على ما أصابهُ ولكن استنكاراً وإنكاراً وأنفةً من قَبول القضاء الذي أراده الله عز وجل فحينئذٍ يدخُلُ في عِدادِ من خالفه أو أنكر قضاءه.

  والمُصيبة عند أهل البيت عليهم السلام لا تُعَدُّ مُصيبةً إذا أُعطِيَ الرجلُ الأجرَ عليها، المُصيبةُ هي الشيء الذي تُحرمُ أجرَه، أمّا ما يكون لك منه الأجر والثواب فلا يُعَدُّ مُصيبةً. (لا تَعُدَّنَّ شيئاً أُعطيت عليه الأجر بمُصيبة إنمّا المصيبةُ هي الشيء الذي لا يكون لك منه ثوابٌ).
والقضاءُ لا بُدّ أن يقع لا يستطيع إنسانٌ ردّه ولا يستطيع دفعهُ، فإذا صبر على أمر الله عز وجل كان عند الله محموداً، وإذا لم يصبر كان عند الله مذموماً، والقضاءُ لا بُدّ واقعٌ لا يُدفعُ ولا يُرَدّ.

  كان فيما عَزّ به مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فيما جاء في كثيرٍ من الروايات أنّه عزّ الأشعب بن قيس فقال له: (إن جَزِعتَ فحَقَّ عبد الرحمن وَفَّيت) أخوه الذي كان الإمام يُعَزّيه بموته (إن جزعت فحقه وفّيت) حق ذلك الرجل الذي اختاره الله سبحانه وتعالى فتوفّاه إلى رحمته (إن جَزِعتَ فحَقَّ عبد الرحمن وَفَّيت، وإن صَبَرتَ فحَقَّ الله أدَّيت، على أنّك إن جزِعتَ جرى عليك القضاءُ وأنت مذموم، وإن صَبَرتَ جرى عليك القضاءُ وأنت محمود). فالقضاءُ لا بُدّ أن يجريَ لا يستطيعُ أحدٌ دفعهُ ولا ردّه ولا أن يجد منه سبيلاً يستطيعُ أن يفِّرّ منه، فإذا صبر عليه فإنّه بهذا يكون قد أدّى حق الله، وحقُّ الله سبحانه وتعالى أن تعبُدَهُ ولا تُشرك به شيئاً، فإذا كنتَ تعبُدُهُ ولا تُشركُ به شيئاً فإنّ الصبر على أمره وعلى قضائه وعلى ما تُبتلى به هو الدليل على عبادتك له عبادة المُخلصين من عباده الموقنين المُسلّمين لأمره وراضينَ بقضائه سبحانه وتعالى.

  الصبرُ من الإيمان كما تقدّم هو بمنزلة الرأس من الجسد ومن يستطيع أن يتصرّف بشيء إن لم يكن له تدبيرٌ من عقله، هو كذلك إذا كان مؤمناً لم يصبر على ما ابتُليَ به فإنه حينئذٍ يدُلُّ عدمُ صبره على ضَعفِ إيمانه، فإنّ الإمام الصادق عليه السلام يقول (إنّما المؤمن بمنزلةِ كِفَّةِ الميزان كُلّما زيد في إيمانه زيد في بَلائه)
من حسُنَ عملهُ ومن صحّ إيمانه زيد في بَلائه، والزيادة في البلاء من الله سبحانه وتعالى هي علامةُ قَبوله لذلك المُبتلى إذا كان ممّن يصبِرُ على قضاء الله عز وجل، وإذا كان ممّن يَحمَدُهُ على ما يُصيبُه في النِعمة وفي النَقمَة، في الشِدّةِ وفي الرَّخاء.

  فقد جاء في كثيرٍ من الروايات (أنكم لن تكونوا مؤمنين حتى تعُدّوا البلاء نِعمةً والرخاء مُصيبةً)، إنّ الإيمان أعلى من الإسلام بدرجة ولكنّ اليقين أعلى من الإيمان بدرجة، كلما ازداد العبد تسليماً لأمر الله سبحانه وتعالى ارتقى في يقينه، وسَمَا في تسليمه، حتى يصِلَ إلى درجة الصابرين، وما هو بالأمر اليَسير إذا أراد الإنسان أن يتصوّره أو أن ينظُرَ فيما تعنيه كلمة الصبر. لو كان سهلاً لما ذُكِر مرّاتٍ في كتاب الله عز وجل ونُبّهَ على صِفات أولئك الذين امتحن الله قلوبهم بالتقوى، الذين تَواصَو بالحق وتَواصَو بالصبر، والذين يُفضّلون الصبر على قضاء الله كيف ما كانت حالُهُم، ومهما كان بلاؤهم، لا يخرجون عن حمده تعالى، لأنهم بلغوا من طريق التسليم لله عز وجل، الذي هو طريق السلامة، أنه سبحانه وتعالى لا يفعل بعبده إلا ما هو خيرٌ لعبده، وإن لم يبلُغ ذلك العبد من العلم ما يعرف به ذلك الخير في البلاء الذي يُبتلى به .

  (أما أنّ المؤمن لو عَلِم ما له من البَلاء لتمنّى يموت قرضاً بالمقاريض) وفي هذا أحاديث كثيرة تدلّ على (أنّ الله سبحانه وتعالى إذا أحبَّ عبداً ابتلاه)، وأنّه سبحانه وتعالى (يتعهّدُ عبدهُ بالبَلاء كما يتعهّد الغائب أهلهُ بالهدية)، وأنّه (إذا ازداد ذلك العبد من طاعته ومن رِضاه ومن تسليمه، ازداد عند الله سبحانه وتعالى بذلك البَلاء حتى يَلقى ربّه وليس عليه شيءٌ من ذنوبه، وإنّ من كان على غير هذه الحال فله ما شاء من دُنياه، حتى يخرُجَ من هذه الدنيا وليس له من حسناته شيء).

  نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممّن إذا ابتُليَ صَبَرَ، وإذا أُنعِمَ عليه شَكَر، وإذا أصابَهُ شيءٌ من البلاء تذكّر مُصيبته برسول الله ص وآله وسلّم وما أصاب من سَبَقه من الأنبياء ومن الأوصياء ومن أولياء الله ...

  الخُطبة الثانية:
  أعظم الأشياء التي تكون سبباً لمعصية الله عز وجل، أعظم الأشياء التي منها تتفرّع المعاصي، كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام (أصول الكفر ثلاثةٌ: هي الحرص والإستكبار والحَسَد).
الحرص والإستكبار والحسد هذه ثلاثة أشياء التي هي أصول الكُفر بالله تعالى، والكُفرُ إنّما هو تغطيةُ الحَق وإنكار ما ثَبَتَ من أمر الله سبحانه وتعالى، فمن كان حريصاً على شيءٍ ليس من حقّهِ، أو استكبر عن قَبول الحق، أو حَسَدَ فكان ممّن يُنكر فضل الله عز وجل على غيره، فلا تتمَنّوا ما فَضَّلَ الله به بعضكُم على بَعض.هذه هي أصول الكُفرِ بالله تعالى ما من شيءٍ إلّا وهو راجعٌ إلى هذه الأمور ولقد قلنا هذا الحديث غير مرّة حديث الإمام الصادق عليه السلام الذي بيّن فيه الحِرص .
آدم حمله حِرصُهُ على الأكل من الشجرة فأكل، فكان بذلك عاصياً لله عز وجل.
الإستكبار منَعَ إبليس أن يسجد، منعه أن يسجد لمن أمره الله تعالى بالسجود له فكانت معصيته في استكباره، وفي عدم طاعته لأمر الله سبحانه وتعالى في السجود لمن أمره أن يسجد له، ولم تكُن معصيتهُ لأنه أنكر السجود، أو أبى السجود مُطلقاً، بدليل ما جاء في تتمّة الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام حين تكلم (أنّ طاعة الله سبحانه وتعالى تكون من حيث يُريد الله وليس من حيث يُريد فُلان أو فُلان)، العبادة تكون من الوجوه التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، من الباب الذي أمرك أن تدخله، من الطريق الذي أمرك أن تسلُكَهُ، وليس لك أن تختار ذلك بهَواك أو برأيك، فإنّ إبليس قال: (يا رب أعفِني من السجود لآدم، وأنا أعبُدُكَ عبادةً لم يعبُدها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نبيّ مُرسل، فقال الله سبحانه وتعالى: إنّ العبادة من حيث أُريد لا من حيث تُريد).

  كان إباؤه أن يسجد حسداً وكُرهاً وبُغضاً مُستكبراً عن أمر الله تعالى في طاعة من أُمر بطاعته، وليس مُستكبراً عن السجود لله عز وجل، بدليل ما قاله الإمام الصادق عليه السلام، حين خاطب الله وقال (أعفني من السجود لآدم ، وأنا أعبُدُكَ عبادةً لم يعبُدها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نبيّ مُرسل) فما رضيَ الله منه تعالى تلك العبادة التي لم يعبُده بها ملكٌ مُقرّب ولا نبيٌّ مُرسل، لماذا؟ لأنّ العِبادة من حيث أراد الله وكيف أمر الله سُبحانه وتعالى وليس من حيث نريد ونشتهي أو نبتغي.

  إذا ظننّا أن الله عز وجل إذا كلّفنا صلاة الظهر، أو كلّفنا صيام شهر رمضان، فليس لنا أن نتجاوز ذلك إلى الوقت الذي نُريد، أو الأمر الذي نُريد، إذا كلّفنا أن نُصَلّيَ على مَن توفّاه الله تعالى، فليس لنا أن نتجاوز ما أُمِرنا به في الصلاة، وليس لنا أن نتجاوز ما أمرنا به فيما فرضه الله سبحانه وتعالى ممّا هو منصوصٌ عليه، ما كان من غير هذا من باب التطوّع والنوافل فللإنسان أن يفعل ما يُريد ممّا يتقرّب به، وليس لأحدٍ أن يُخطّئه في شيءٍ من العِبادات التي هو فيها مُخيّرٌ إن شاء زاد وإن شاء أنقَصَ على قدرِ وُسعِهِ ومَبلَغِ طاقتِهِ من العمل.

  الذي يجمع هذه الأشياء التي ذُكِرت من الحِرص والإستكبار والحسد, الحسد أيضاً الذي قال فيه الإمام الصادق عليه السلام (فابنا آدم حين حسد أحدهما أخاه فقتله) لو بحثت عن شيءٍ عن سببٍ عن طريقٍ يصِلُ إلى معصيةٍ ، أو أردت أن تعرف سبب جميع المَعاصي ما وجدتها خارجةً عن هذه الأُصول، إمّا الإستكبار وإما الحِرص وإمّا الحسد.

  ما الذي يجمعُ هذه الأمور؟
يجمعها أن يُخالف الإنسان ما يراه بعينه، وأن يتوهّم أنَّ الصواب هو بخلاف ما يراه، فيجعل لنفسه نظراً أو يجعل لنفسه رأياً يقوم على غير الحقيقة وعلى غير الواقع، إنّما يتأوّلُ بخياله وبرأيه ما شاء.
كيف يكون هذا التوهّم وهذا التخيّل؟
إنّه يكون بمُغايرة الحقائق وبوصفها بخلاف ما هي عليه.
أمرٌ واحدٌ جُمِعَت فيه هذه الخِصالُ جميعاً، ما هو ذلك الأمر الذي يجمع الحسد والحرص والإستكبار؟
أن تطلُب شيئاً ليس لك بحق فأنت بهذا حاولتَ أن تصف الواقع بما ليس فيه، أو أن تدّعِيَ حقيقةً ليست بحقيقة وليست موجودةً. وكذلك إذا استكبرت عن طاعة الله، وكذلك إذا حسدت، جُملة هذه الأشياء تدل على أنّك تطلبُ شيئاً ليس لك بحق، حَرَصتَ على شيءٍ طلبتَ شيئاً ليس بحقّك، استكبرت عن أن تخضع لمن أُمِرت بالخضوع له، فطلبتَ شيئاً ليس من حقّك لأنك أردتَ أن يكون هذا الأمر لك، الثالث حسدتَ تمنّياً أن تزول النِّعمَةُ عن الذي أنعَمَ الله سبحانه وتعالى عليه بشيء من العلم أو من الجاه أو من المال أو من الدُنيا، فأردت أن تكون لك فقد طلبتَ أمراً ليس لك بحق لأنه لو كان حقاً لجعله الله سبحانه وتعالى لك.

  مجموع هذه الأمور مُجتمعةً في كلمتين، قال أحدهم يسأل الإمام الصادق عليه السلام أن يوصِيَهُ بشيءٍ يُنالُ به خيرُ الدنيا والآخرة ولا يَطول عليه. لا تكون موعظتُهُ طويلةً ولا لنصيحةُ له فيه كثيرة الكلام. فماذا قال له الإمام الصادق عليه السلام؟ قال له عليه السلام (لا تكذب).
كلمتان (لا تكذب) هاتان الكلمتان أوصى بهما الإمام الصادق من سأله عن شيء ينال به خير الدنيا والآخرة ولا يَطول عليه.
(لا تكذب) تنل خير الدنيا والآخرة، إذا تمنّيت ما ليس لك فقد كذبت، وإذا تمنّيت ما ليس لك فقد فرّعتَ من هذا ما يتفرّعُ منه من السَعيِّ ومن الغِيبَة ومن النَميمَة وممّا يتّصلُ به لإزالة ذلك الذي حسدته على تلك النِعمَة من المَوضع الذي جعله الله سبحانه وتعالى له.
وكذلك إذا كُنتَ حريصاً على ما ليس لك بحق.
(لا تكذب) إنّك إذا كذبتَ فأنتَ تريد أن تتوهّمَ شيئاً يُخالف الحقيقة والواقع الذي أنت فيه. فرحم الله شيخنا الشيخ عبد اللطيف ابراهيم إذ قال:

من كَذَّبَ الواقعَ فاكتب على   جبينـه أو ذقنِـه أحمـق
وقِسْهُ بالخُفّاشِ رأدَ الضُحى   يقول إنّ الشمس لم تُشرق
لأنّـه يلمَحُـهـا ظُلـمـةً   وهي شُعاعٌ باهـرٌ مُغـدِق
فهو على تحقيقـه صـادقٌ   كذّبـه الواقـع والمنطـق

  نسأل الله سُبحانه وتعالى أن يُرِيَنا الحَقَّ حَقّاً ويرزُقنا اتّباعَه، وأن يُرِيَنا الباطِلَ بلطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يأخُذَ بأيماننا إلى مَنهَج الحَق، وأن يُثَبِّتَ أقدامَنا على الصِراطِ المُستقيم الذي يرضاهُ لنا، اللهم صلّ على مًحمّد وآل محمد واشغل قلوبنا بذِكؤرِهِ عن كُلّ ذِكرٍ وألسنتنا بشُكرِهِ عن كُلّ شُكرٍ، وجوارحنا بطاعته عن كُلّ طاعة، اللهم تجاوز عن آبائنا وأُمّهاتِنا وأهل ديننا جميعا من سَلَفَ منهم ومَن غَبَر إلى يوم القيام ....