خُطبتا صلاة الجُمُعة في 5 كانون أوّل 2014م

أُضيف بتاريخ الخميس, 12/11/2015 - 11:46
خُطبتا صلاة الجمعة في 5 كانون أول 2014م + (فيديو)

  مُلَخّص الخطبتين:
- من الواجب علينا حين نقرأُ في القرآن الكريم ما يُذكّرنا بالأمم التي مَضَت، أن نكون ممّن يعتبرُ إذا قرأ، وممّن يتصوّرُ إنّ حاله ستكون كحال من مَضى من الأمَم التي سبقت.
- الذي أضعف من كان قبلنا من الأُمم أنهم أساؤوا حين تشتّت أمرُهُم وحين تفرّقت كلمتُهُم، حين تباغضوا وتحاسدوا وتدابروا وتخاذلوا...
- الذي أوصلنا إلى ما نحنُ فيه لو أنّنا تذكّرنا من مَضى لعَرفنا أنّه بسوء الأفعال وبِذَميمِ الأعمال، حسب قول أمير المؤمنين عليه السلام. الذي أصابنا ما كان ليُصيبنا لولا أنَّ في الصّدور تحاسُداً، وأنّ في القلوب تضاغُناً، وأنّ بين النّفوس تدابراً.
- القُلوب التي كان فيها الحُب وكان فيها العَطف وكانت فيها المَوَدّة، صارت قُلوباً فيها الحِقد وفيها البَغضاء وفيها الكُره ظناً أنّنا بهذا نتقدّم ونرتقي ونحن بهذا نتأخّرُ ونتخلّف..
- لا يقولَنَّ أحدٌ نحن من أولياء الله وهؤلاء من أعدائه وقد سُلِّطوا علينا، سُلّطوا لأننا نحن نقضنا العُهُود التي عاهدنا بها رب العالمين. وهذا رسول الله ص وآله وسلم يقول (وإذا نَقَضُوا العُهُود سَلَّطَ الله عليهم عَدُوَّهُم).
- ما نتعلق من الإسلام إلّا باسمهِ، ومَكان أن نأمُر بالمعروف وأن نَنهى عن المُنكر، صِرنا كما جاء في حديث رسول الله ص وآله (إمّا قومٌ يأمرون بالمُنكَر ويَنهَوْنَ عن المَعروف، وإمّا قومٌ يَرَوْنَ المُنْكَرَ مَعروفاً والمَعروفَ مُنكَراً)
- كيف يَقوى أحدُنا على أن يأمُرَ بالمُنكَر مَكانَ أن يأمُرَ بالمَعروف ثُمّ يسألُ بعد هذا كيف سُلّطَ علينا هؤلاء؟! لا يستطيعُ أحدٌ أن يقول إنّنا ظُلمنا. نحن الذين ظلمنا أنفُسنا حين تشتّتَ أمرُنا، وحين تفرّقَت كلمتُنا...
- هذه الحالُ التي نحنُ فيها من التضاغُن ومن التحاسُد ومن التدابُر لن تكون وَسيلةً إلى النَّجاة، ولن تكون طريقاً إلى الخلاص، ما لم نرجِع عن هذا التضاغُنِ وعن هذا التَّدابُر وعن هذا التَّحاسُد وإلّا فإنّ الأمرَ سيأتي بما هو أشدُّ من هذا الذي نحنُ فيه.
-- لا يجوز لأحدٍ أن يَصِفَ أحداً بما ليس فيه لِئلا يظلِمَهُ. إنّ مَن يَمدحُ الناس بغير حق يهجوهم بغير ذنب...
-- إذا أراد أحدُنا أن يَصِفَ إنساناً بالعلم، أو أراد أن يَصِفَهُ بالجَهل، أو أن يَصِفَهُ بالتَّكَلُّف، فالواجبُ أن يكون ممّن يعرفوا علامَة العِلم وعلامة الجهل وعلامة التّكلّف وعلامة الشُكر... ما هي هذه العلامات؟..
-- البَلِيّةُ فيما نعملُ به اليوم أنّنا لا نقِفُ عند حَد، وأنّنا لا نسألُ الإنسان حينَ نسألُهُ أن يَجْعَلَ على كَلامِهِ دَليلاً من المَنقول أو دليلاً من المَعقول، ولكن إذا أرادَ أحدُنا أن يَنجُوَ بما يسألُ عنه فعليه أن يَعرِفَ الدليل عليه، وعليه قَبلَ هذا أن يتخيَّرَ مَن يسأل، وأن يعرِفَ كيفَ يسأل...
-- العاقِلُ إذا أرادَ أن يُحَدّث أتْبَعَ كَلامَهُ حِكمَةً وشاهِداً، والجاهلُ إذا أراد أن يُحَدّث أتبَعَ كلامَهُ أن يُقسِمَ أنَّ هذا الكَلامَ صحيح...
-- هذا الدّينُ الذي جعلهُ الله من أجل أن يَرتَقِيَ بِهِ الإنسان، لا يجوزُ أن يكونَ أداةً ولا وَسيلَةً لرَدّ الإنسان إلى الهَمَجِيَّة، يجبُ أن يكون وَسيلةً وأداةً وطريقاً ليَرتَقِيَ الإنسانُ به إلى إنسانيّتِهِ...
-- إذا أراد أن يَعرِفَ ما وَجَبَ عليه فإنَّ فِطرَتَهُ تقودُهُ لما أوجَبَ الله عز وجل عليه... مَن أرادَ أن يعرفَ ما وَجَبَ عليه، ومَن أرادَ أن يعرِف كيفَ يُطيعُ الله عز وجل فليعلَم أنّ العِلمَ في أربعة أشياء كما قال الإمام الصادق عليه السلام...


  الخُطبة الأولى:

  قال الله تعالى في كتابه الكريم : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (9) سورة الروم.

  إذا نظرنا في هذه الآية نَظَرَ المُتأمّل المُتبصّر، تبيّن أنّ من الواجب علينا حين نقرأُ ما يُذكّرنا بالأمم التي مَضَت، أن نكون ممّن يعتبرُ إذا قرأ، وممّن يتصوّرُ إنّ حاله ستكون كحال من مَضى من الأمَم التي سبقت.

  فلينظر كُلٌّ مِنّا في أحوال تلك الأُمم، ما الذي سبّبَ لها التقدّم والحَضارة، وما الذي سَبَّبَ لها التخلُّفَ، وما الذي جعلها قويّةً وما الذي أضعفها وضيّعها وشتّتها.

  ما الذي أضعف من كان قبلنا من الأُمم؟
ما أضعفهُم إلّا أنهم أساؤوا حين تشتّت أمرُهُم وحين تفرّقت كلمتُهُم، حين تباغضوا وتحاسدوا وتدابروا وتخاذلوا، فلم ينصُر الأخ أخاه، ولم يُشفق الجار على جاره، فوجدَ العدُوّ حينئذٍ سبيلاً إليهم، وطريقاً تمكّن بعدها من رِقابهم.

  قال مَولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام : (واحذروا ما نزل بالأمم قبلكُم مِنَ المَثُلات، بسوء الأفعال وذَميم الأعمال) الذي أوصلنا إلى ما نحنُ فيه لو أنّنا تذكّرنا من مَضى لعَرفنا أنّه بسوء الأفعال وبِذَميمِ الأعمال (فتذكّروا في الخير والشرّ أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكّرتُم في تَفاوتِ حالِهِم –بين القوّة وبين الضعف، بين النصر وبين الهزيمة- فالزموا كُلّ أمرٍ لَزِمَتِ العِزَّةُ به حالهُم، وزاحَتْ الأعداءُ لهُ عنهم، ومُدّت العافية به عليهم، وانقادت النعمَةُ له معهم، ووصلَت الكرامةُ عليه حَبلَهُم، من الإجتنابِ للفُرقَة، واللُّزومِ للأُلفَة، والتَّحاضِّ عليها، والتّواصي بها، واجتنبوا كُلَّ أمرٍ كسر فِقرَتَهُم ، وأوهن مُنَّتَهُم : من تضاغُنِ القلوب، وتشاحُنِ الصدور، وتدابُرِ النفوس، وتخاذُل الأيدي).

  الذي نحن فيه اليوم من القُلوب المُتباغضة، ومن الصدور المُتحاسدة، ومن النّفوس المُتدابرة، لا بُدّ أن تكون نتيجة ذلك أن تكون الأيدي مُتخاذلة لا ينصُرُ أحدٌ أحد، الذي أصابنا ما كان ليُصيبنا لولا أنَّ في الصّدور تحاسُداً، وأنّ في القلوب تضاغُناً، وأنّ بين النّفوس تدابراً.

  هَلّا رَجَعنا ونحنُ نتذكّرُ ونبكي على أيّامٍ سبقت، يوم كُنّا نسمَعُ أنّ أحدنا من الذين مَضَوا من الآباء والأجداد:
كان إذا نزلت به مُصيبةٌ رأى الناس حَولهُ، إذا أرادَ أن يبنِيَ بِناءً رأى الناس حوله.
إذا أصابهُ شيءٌ من الحاجة رأى الناس حوله، هذا يؤيّده بما استطاع وهذا يُساعدُهُ بما يَقوى عليه من جاهٍ أو من مالٍ أو من كلمةٍ طيّبة، أو من عملٍ بالأيدي.
كُنّا نسمعُ أنّ الحال بالزمن الذي مضى كانت خيراً من هذه الحال، ولكننا ما سألنا لما تغيّرت هذه الحال؟!

  تغيّرت هذه الحال مع أنَّ شيئاً لم يتغيّر، ما تزالُ الشمسُ تطلُعُ، وما يزالُ النهار يأتي وما يزال الليل يذهب، وما تغيّر شيءٌ في الأرض ولكن القُلوب التي كان فيها الحُب وكان فيها العَطف وكانت فيها المَوَدّة، صارت قُلوباً فيها الحِقد وفيها البَغضاء وفيها الكُره ظناً أنّنا بهذا نتقدّم ونرتقي ونحن بهذا نتأخّرُ ونتخلّف ونرجعُ إلى عُصور الإنسان الذي يُسمّى الإنسان المتوحّش الذي لم يكُن يعرف صلة رحِمِه ولا قَرابَة.

  القلوب إذا تضاغنت تتباعدُ الأيدي، وإذا قَسَت القُلوب فإنّ النُصرة تكاد تغيب بين الناس.
خلق اللهُ عزّ وجَلَّ الناس ليتعارفوا وليتعاضدوا وليتعاونوا، يسألُ بعضُنا ويتعجّب: ألسنا من المُسلمين؟! ألسنا من المؤمنين؟! ألسنا مِمّن يُوالي رسول الله وأهل بيته الطاهرين؟! بلى أنتَ تُوالي رسول الله ص وآله فلماذا تسألُ! نحنُ إذاً من المؤمنين وهؤلاء هم من أعداء الله جاؤوا وقتلوا وذبحوا وشرّدوا وفعلوا ما يحلوا لهم فكيف سُلّطَ هؤلاء علينا؟!

  لِما لا تذكُرُ قَولَ رسول الله ص وآله وسلم (وإذا نَقَضُوا العُهُود سَلَّطَ الله عليهم عَدُوَّهُم)
لا يقولَنَّ أحدٌ نحن من أولياء الله وهؤلاء من أعدائه وقد سُلِّطوا علينا، سُلّطوا لأننا نحن نقضنا العُهُود التي عاهدنا بها رب العالمين. العُهُود التي أُمِرنا بإيفائها نقضناها وهذا رسول الله ص وآله وسلم يقول (وإذا نَقَضُوا العُهُود سَلَّطَ الله عليهم عَدُوَّهُم).

  أضعفُ شيءٍ، أقلُّ شيءٍ في تلك العُهُود أن يذكُرَ الرّجُلُ الأمر الجيّد فيُذيعهُ بين الناس، ويُنبّهَ على الخطأ ولكن مَكان أن نأمُر بالمعروف وأن نَنهى عن المُنكر، صِرنا كما جاء في حديث رسول الله ص وآله (إمّا قومٌ يأمرون بالمُنكَر ويَنهَوْنَ عن المَعروف، وإمّا قومٌ يَرَوْنَ المُنْكَرَ مَعروفاً والمَعروفَ مُنكَراً) .

  كأنّنا من الذين قال فيهم أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام (واعلموا أنّكم صِرتُم بعد الهِجرةِ أعراباً، وبعدَ المُوالاةِ أحلاماً، مُتفرّقين ما تتعلّقون من الإسلام إلّا باسمِهِ، ولا تعرِفون من القُرآن إلّا رَسمَهُ) ما نتعلق من الإسلام إلّا باسمهِ، ونحن نعلمُ وبين أيدينا من بَأسِ الله وقوارعه وأيامِهِ ووَقائِعِهِ، ولكن إذا قَسَت القُلوب لم تنفَع المَواعِظ.

  واعلموا أنّ الله سُبحانه وتعالى لم يلعن القرون الماضية بين أيديكُم إلّا لتركِهُمُ الأمرَ بالمَعروف والنَهيَ عن المُنكر، فلعَنَ اللهُ عزّ وجَلّ السُفهاء لرُكوب المَعاصي والحُلماءَ لترك التّناهي.

  إن لم نستطِع أن نَمنَعَ أحداً فإنّنا لا نَعجَزُ أن ننطِقَ بكلمةٍ نُنَبِّهُ فيها على الخَطأ ونُثني بها على الصَّواب، هل يَعجزُ أحدُنا أن يُحَرّكَ لِسانَهُ بكلمة حق؟! كيف يستطيعُ أحدُنا أن يُحَدّثَ ليله ونهاره في مساوئ الناس ولا يستطيعُ أن يقول كلمةً يُرضي بها رَبَّهُ؟!

  كيف يَقوى أحدُنا على أن يأمُرَ بالمُنكَر مَكانَ أن يأمُرَ بالمَعروف ثُمّ يسألُ بعد هذا كيف سُلّطَ علينا هؤلاء؟!

  (إذا طُفّفَ المِكيالُ أخذ الله الناس بالسنين والنَقص، وإذا مَنعوا الزكاة منعت الأرضُ خيرها من الثِمار ومن المعادن) هذا حديثُ رسول الله ص وآله وسلّم.

  لا يستطيعُ أحدٌ أن يقول إنّنا ظُلمنا. نحن الذين ظلمنا أنفُسنا حين تشتّتَ أمرُنا، وحين تفرّقَت كلمتُنا:

نفسي ظلمتُ وما الدُّنيا بظالمةٍ   وكَم تَظَلَّمَ منها غيرُ مَظلومِ

  هذه الحالُ التي نحنُ فيها من التضاغُن ومن التحاسُد ومن التدابُر لن تكون وَسيلةً إلى النَّجاة، ولن تكون طريقاً إلى الخلاص، ما لم نرجِع عن هذا التضاغُنِ وعن هذا التَّدابُر وعن هذا التَّحاسُد وإلّا فإنّ الأمرَ سيأتي بما هو أشدُّ من هذا الذي نحنُ فيه.

  نسأل الله سبحانه وتعالى المُعافاة في الأبدان، كمت نسألُهُ المُعافاة في الأديان، ونسألُهُ بمُحمّد ص وآله وسلم أن يُرِيَنا الحَقَّ حقاً وأن يَرزُقَنا اتّباعَه، وأن يُرِيَنا الباطلَ باطلاً وأن يرزُقَنا اجتِنابَه....

  الخُطبة الثانية:

  كُلُّ شيءٍ في الدُّنيا له علامةٌ يُعرَفُ بها، وكُلّ شيء به حَدّ يفصِلُهُ عن غيره، إذا أراد أحدُنا أن يَصِفَ إنساناً بالعلم، أو أراد أن يَصِفَهُ بالجَهل، أو أن يَصِفَهُ بالتَّكَلُّف، فالواجبُ أن يكون ممّن يعرفوا علامَة العِلم وعلامة الجهل وعلامة التّكلّف وعلامة الشُكر، لا يجوز لأحدٍ أن يَصِفَ أحداً بما ليس فيه لِئلا يظلِمَهُ.

  إنّ مَن يَمدحُ الناس بغير حق يهجوهم بغير ذنب.
مَن مَدَحَكَ بغير حَقٍّ فقد هجاك بغير ذنب، الذي يبيعُ المَدح يبيعُ الهِجاء، الذي يجب أن ينظُرَ فيه مَن أراد أن يعرفَ كيف يَصِفُ النّاس أو بماذا يصِفُ النّاس، فعليه أن يعرِفَ أنَّ لِكُلّ شيءٍ عَلامةً، إذا عَرَفَ تلكَ العَلامَة يستطيعُ بعد هذا أن يَصِفَ ويكونُ حينئذٍ على بَصيرةٍ من وَصفِهِ.

  نحن ومن طبيعة الإنسان أنّهُ يُفرِطُ في كُلّ شيء، إذا أحَبَّ بالغَ، وإذا كَرِهَ بالَغَ، ولا يَذكُرُ حَسَنَةً للإنسانِ إذا كَرِهَهُ ولو كان بينَهُ وبينه من المُعاملات ما شاء اللهُ من الأعوامِ والسِّنين.
نحنُ لا نقِفُ عند حَدٍّ في تعامُلنا، إذا وثِقنا بإنسان وَثِقنا به تمام الثِّقَة وغايةَ الثِّقَة، فإذا أخطأ ذلكَ الرّجُل أو هَفا كانت البَلِيَّةُ والمُصيبة في أن يَجْعَلَ أحَدُنا ذلك الرّجُل الذي يَثِقُ بِهِ نِهايةَ العالم، فهوَ بعد ذلك يزهدُ في دينه ورُبّما يخرُجُ منه من أجلِ أنّهُ وَثِقَ بِفُلان فأساءَ فُلانٌ في تلك الثِقَة.

  عَلامةُ العِلم أن يكون الإنسان يعرِفُ الحُدود التي يجِبُ أن يقِفَ عندها في كُلّ شيء، العالِمُ في أكثر التّعاريف إيجازاً واختصاراً (مَنْ عَرَفَ حَدَّهُ فوَقَفَ عِنْدَه). لأنّه حين يعرفُ ذلك الحَدّ لا يتعَدّاه فإنّهُ لا يأخُذُ ما ليس له بحق، ولا يقولُ ما ليس له بحق.

  علامةُ العِلم إذا أرادَ أحدُنا أن يَعرِفَ حَدّ ذلك الأمر فعلامتُهُ في حديث رسول الله ص وآله وسلمّ (أمّا عَلامَةُ العِلمِ فأربعة: العِلمُ بالله، والعِلم بمُحِبّيه، والعِلمُ بفَرائضِه، والحِفظُ لها حتّى تُؤَدّى).

  حين نجدُ رجُلاً تجتمعُ فيه هذه الصِفات فإنّنا حين نصِفُهُ بالعم نكون قد أصَبنا، ولكن حين لا منجِدُ تلك الصّفات فإنّ من الظُلم أن نجعلها فيمن ليست فيه.

  (العِلمُ بالله، والعِلم بمُحِبّيه) العِلمُ بما أمر اللهُ عز وجل به وبما نَهَى عنه، والأمرُ بما أحَبَّ سُبحانه وتعالى وبما كَرِهَهُ، والأمرُ بفرائضِهِ كيف تُؤَدّى، وماذا يُرادُ منها، ولِما فرضها اللهُ عز وجل على خَلقِهِ، وكيف تُحفَظُ تلك الفَرائض حتّى تُؤَدّى.

  والمُتَكَلّفُ عَلامَتُهُ الجََدَلُ فيما لا يَعنيه (وأمّا علامَةُ المُتكَلّف فأربعة: الجِدالُ فيما لا يَعنيه، ويُنازِعُ مَن فَوقَهُ، ويتعاطى ما لا يَنال، ويَجعَلُ هَمَّهُ لِما لا يُجيد) .

  الذي يُجادِلُ فيما لا يَعنيه، والذي يَجْعَلُ هَمّه لِما ليس فيه نَجاةٌ له، فإنّه حينئذٍ مَن يَصِفُهُ بالمُتكَلّف يكونُ قد أصاب، ولا يكون ظالماً له.

  العِلمُ كما جاء في حَديث رسول الله ص وآله وسَلّم (لا يُقبَضُ العِلْمُ انتِزاعاً من النّاس، ولكِنّهُ يُقْبَضُ العُلَماء، حتّى إذا لَم يَبقى عالِمٌ اتَّخَذَ النّاسُ رُؤَساءَ جُهّالاً، اِستَفْتَوْهُم فَأَفْتَوا بِغير عِلم، فَضَلّوا وأَضَلّوا).

  البَلِيّةُ فيما نعملُ به اليوم أنّنا لا نقِفُ عند حَد، وأنّنا لا نسألُ الإنسان حينَ نسألُهُ أن يَجْعَلَ على كَلامِهِ دَليلاً من المَنقول أو دليلاً من المَعقول، ولكن إذا أرادَ أحدُنا أن يَنجُوَ بما يسألُ عنه فعليه أن يَعرِفَ الدليل عليه، وعليه قَبلَ هذا أن يتخيَّرَ مَن يسأل، وأن يعرِفَ كيفَ يسأل، وأنَّ مَن لم تكُن فيه صِفةُ العِلم بالله وصِفةُ العِلم بمُحِبّيه وصِفَةُ العِلمِ بفَرائِضِه وصِفَةُ الحِفظِ لتلك الفَرائض حتّى تُؤَدّى فإنّهُ لا يكونُ مَحَلاً للسُؤال، لأنّهُ إذا أجابَكَ أَجابَكَ برأيِهِ، وإذا أجَابَكَ برأيِهِ فأخَذتَ برأيهِ كان عَمَلُكَ يحتملُ الخَطَأ أكثرَ مِمّا يحتَمِلُ الصواب، لأنّ العاقِلَ إذا أرادَ أن يُحَدّث أتْبَعَ كَلامَهُ حِكمَةً وشاهِداً، والجاهل إذا أراد أن يُحَدّث أتبَعَ كلامَهُ أن يُقسِمَ أنَّ هذا الكَلامَ صحيح.

  إذا أراد أحَدُنا أن يَنجُوَ بدينِهِ، وأن يَنجُوَ بنفسهِ، وأَن يَسلَمَ لهُ يقينُهُ، فليسأل مَن ذكرهُمُ اللهُ تعالى في كِتابِهِ وهُم الذين سمّاهُم بـ (أَهْلَ الذِّكْرِ) { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

  هذا الدّينُ الذي جعلهُ الله من أجل أن يَرتَقِيَ بِهِ الإنسان، لا يجوزُ أن يكونَ أداةً ولا وَسيلَةً لرَدّ الإنسان إلى الهَمَجِيَّة، يجبُ أن يكون وَسيلةً وأداةً وطريقاً ليَرتَقِيَ الإنسانُ به إلى إنسانيّتِهِ، وليس أن يكون دليلاً ولا طريقاً ولا حُجّةً من أجلِ إرجاع الإنسان إلى ظُلُمات الجاهلية.

  إذا أراد أن يَعرِفَ ما وَجَبَ عليه فإنَّ فِطرَتَهُ تقودُهُ لما أوجَبَ الله عز وجل عليه، وإنّ اللهَ تعالى جعَلَ فيه ما يَحتَجُّ به وأوجَبَ عليه إذا سألَ أن يأخُذَ العِلم مِمّن أمرهُ الله عز وجل، وممّن بَيَّنَ سُبحانه وتعالى فيهم صِفات العِلم وصِفات العًلماء، ومَن رَغِبَ عَن هذا الطّريق فلا يَلومَنَّ في هذا إلّا نفسَهُ، مَن رَغِبَ عَن هذا الطّريق أو انصَرَفَ عَنه، فليسَ الذنبُ في هذا وليست الخطيئةُ في عُنُقِ غَيرِه، إنّما هيَ في عُنُقِه، ووإنّ اللهَ عزّ وجَلّ لا يظلم الناس شيئاً.

  مَن أرادَ أن يعرفَ ما وَجَبَ عليه، ومَن أرادَ أن يعرِف كيفَ يُطيعُ الله عز وجل فليعلَم أنّ العِلمَ في أربعة أشياء كما قال الإمام الصادق عليه السلام (وجدتُ عِلمَ الناس كُلّهِم في أربَع: الأُولى أن تعرِفَ رَبَّكَ، والثانيةُ أن تعرِفَ ماذا أرادَ مِنك، والثالثةُ أن تعرفَ ماذا صَنَعَ بِكَ، والرّابعةُ أن تعرفَ ما الذي يُخرِجُكَ مِن دينك)، وكيف لرجُلٍ أن يعرف ربّهُ، وأن يعرف ما صنع به، وأن يعرفَ ما أرادَ مِنه، وأن يعرِفَ ما يُخرِجُهُ مِن دينه، إنّهُ إن لَم يَعرِف ما يُخرجُهُ من دينه، ولم يَعرف الطريق الصحيح فإنّه لا يأمَنُ أن يكون عمَلُهُ مِن غَيرِ ثَواب.

  نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإيّاكُم ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسَنَه، ومِمّن يأخذون في هذا في هَديِ نبيّه ص وآله وسلّم، ويسلُكُونَ فيه على الطّريق القَويم، ويَقتَفونَ فيه أثَرَ الحَق، وأن يجعلنا مِمّن يُؤثِرُ الحقّ على الباطِل، ومِمّن يُفَضِّلُ الصِدقَ على الكّذِب وإن كان فيه هَلاكُهُ وضَرَرُه...