خُطبتا صلاة الجُمُعة في 26 كانون أوّل 2014م

أُضيف بتاريخ الخميس, 03/12/2015 - 12:11
خُطبتا صلاة الجمعة في 26 كانون أول 2014م + (فيديو)

  مُلَخّص الخُطبتين:
- إذا عَمِيَت بَصيِرَةُ الإنسان وعَمِيَ قَلبُه، وكان له عَينان لا ينتفعُ بهما فمن يُعينُهُ؟! إن كان له من يستطيعُ أن يدُلَّهُ إذا فَقَدَ بَصَرَهُ، فمن يستطيعُ أن يُرشِدَهُ وأن يُنقِذَهُ إذا عَمِيَت بَصيرَتُه؟! وإنّه لَمِنَ العَجَب أن يَرْضَى الرَّجُلُ أن يُعَدَّ أعمى بينَ قومٍ مُبصرين!
- ما أشَدَّ العَمى حينَ يكونُ الإنسانُ بَصيراً، ما أشدَّ العَمى لمن كانت له عينٌ لا يُبصِرُ بها. ولمن كانت له أُذُنٌ لا يسمعُ بها، ولمن كان له قلبٌ لا يَعقِلُ به!.
- ماذا يفعلُ الإنسانُ بعينيه إذا كان النّور والظَلامُ عِندَهُ شيئاً واحدا؟! وما هي الأسبابُ التي تجعلُ الإنسانَ أعمى في بَصيرتِه؟
- إنَّ ما يجعلُ الإنسانَ أعمى في بَصيرتِه هو أن يَنسى خَطيئَتَه، وأن يَذكُرَ عُيوبَ غيرِهِ ويَنسى عَيْبَ نفسِه.
- أيُّها الهائمُ في البحثِ عن عُيوب الناس اجعَل البَحثَ عن عَيبِ نفسِكَ أوَّلَ شيءٍ تتوبُ به إلى الله، وأوّلَ شيءٍ ترجِعُ به إلى طاعةِ الله، وأوّلَ شيءٍ تُقَدّمُهُ بين يَدَيّ الله. إنَّ مَن كَفَّ عَن عَيب الناس سَتَرَهُ الله، ومَن هَتَكَ سِترَ النّاس هَتَكَ اللهُ سِترَه.
- إنّ أحَدَنا إذا تَوَفَّاهُ اللهُ عزّ وجَلّ لن يسألَهُ ما فَعَلَ فُلان؟ ولا ماذا أخذَ فُلان؟ ولا ماذا قال فُلان؟ إنّما سيسألُهُ: ماذا عَمِلتْ؟ ماذا قُلتْ؟ ستشهدُ عليه جَوارِحُه، فإذا كان بَصيراً بأمرِ نفسِهِ فإنّهُ حينئذٍ من الفائزين.
- لا يقولَنَّ أحدٌ سنُرجِئُ هذا اليوم عَمَلَ هذا الأمر إلى غَدٍ! فرُبّما جاء غدٌ وليس قائلُ هذا بين الأحياء. قول الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُصوانُهُ عليه في هذا.
-- إنَّ أَحَدَنا إذا أصابَ ثَوبَهُ شيئٌ مِنَ الأذى خَلَعَهُ وألقاهُ من أجلِ أن يُغسَلَ ذلكَ الثَّوب، ولكنّهُ إذا فقدَ الثوبَ الذي أَمَرَ اللهُ تعالى به، والثوبَ الذي أرادهُ اللهُ لعبادِه لن يَجِد بَديلاً.
-- يقول مولانا أمير المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب عليه السلام (مَن تَعَرَّى مِن لِباسِ التَّقوى لَم يَستَتِر بشيءٍ مِنَ اللباس). ما قيمةُ أن تكونَ ثوبُكَ نَظيفاً، وأن يكونَ صدرُكَ غيرَ نظيف؟! ما قيمةُ أن يكون ثوبُكَ أبيَضَ نظيفاَ، وأن يكون قلبُكَ أسوَد؟! ما قيمةُ أن يكون لِباسُكَ على أحسَنِ ما تَملِك بينَ النّاس، ولكن أن يكون لِباسُكَ عِندَ الله على أسوأ ما تَكرَهُ؟!
-- يقول كثيرٌ من الناس لقد سئمنا من طول هذا البَلاء، ومِن طول هذه الفِتنَة، ومن كَثرَةِ القَتل، ومِن كَثرَةِ الذين فُقِدوا، ومِن كَثرَةِ البيوت التي دُمِّرَت، والأموال التي نُهِبَت، والأعضاء التي قُطِعَت. سئمَ كثيرٌ من الناس!؟ ولكن مَن بَحَث عن الدواء لهذا الدّاء الذي أصابهم؟ من بَحَث عنه؟
-- يقول رسول الله ص وآله وسَلَم (إذا غَضِبَ اللهُ على أُمّةٍ ولَم يُنزِل العَذابَ عليهم، غَلَتْ أسعارُها، وقَصُرَت أعمارُها، ولَم تَربَح تُجّارُها، ولم تَزْكو ثِمارُها، ولَم تَغْزُر أنهارُها، وحُبِسَ عنها أمطارُها، وسُلِّطَ عليها أشرارُها). من مِنّا يستطيعُ أن يَصِفَ حالَهُ اليوم بوصفٍ يكون أَبلَغَ مِن هذا الوَصف. لماذا سُلّطَ عليها شِرارُها؟!
-- إذا مَنَعَ النّاس الزّكاة مَنَعَتِ الأرضُ الخَير، ومَنَعَت الثِمار، وحَبَسَت السّماءُ القَطْرَ والمَطَر. لكُل شيءٍ سبب، ما مِن شيءٍ كان عَبَثاً، ولا مِن شيءٍ جاءَ عَبَثا. فمن أرادَ أن يَخرُجَ مِن هذا البَلاء الذي وُضِعَ فيه، فليَجتَهِد في أن يَلبَسَ لِباسَ التّقوى.
-- هذا الذي أصابنا إنّما كان بأعمالنا، وإنّما كان بما أسلفناه، فلا يقولَنَّ أحدٌ : ما لِهؤلاء القَوم قد جاؤوا من أقصى الأرض، وجاؤوا من شرق الأرض، وجاؤوا من غَرب الأرض. هؤلاء نحنُ الذينَ أحضرناهُم، ونحنُ الذين مَكَّنّاهُم، ونحن الذين سلَّطناهُم على نُفوسِنا، وعلى أموالِنا، وعلى رِقابِنا.
-- مَن أرادَ أن يُنقِذَهُ الله عزّ وجَلّ مِن هذا البلاء، فليَجتَنِب ما نُهِيَ عنه، وليعمَل بِما أُمِرَ بِهِ....


  الخُطبة الأولى:

  قال الله تعالى في كتابه الكريم {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج (46).

 

  العَمَى إذا فَقَدَ الإنسانُ بَصَرَهُ قد يُعينُهُ شخصٌ من أقربائهِ أو مِن أصدقائه، إذا أراد أن ينتقل من مكانٍ إلى مكان، قد يُمسِكُ أحدُنا بيده ليَدُلَّهُ على المَكان الذي يُريد أن يذهب إليه، وقد يَجِدُ مَن يُعينُهُ ومَن يُساعِدُه، ولكن إذا عَمِيَت بَصيرَتُه، فمن يُعينُهُ ومَن يُساعِدُه إذا عَمِيَت بَصيِرَتُه وعَمِيَ قَلبُه، وكان له عَينان لا ينتفعُ بهما؟!
إن كان له من يستطيعُ أن يدُلَّهُ إذا فَقَدَ بَصَرَهُ، فمن يستطيعُ أن يُرشِدَهُ وأن يُنقِذَهُ إذا عَمِيَت بَصيرَتُه؟!

  إذا كان للإنسانِ عَينان لا ينتفِعُ بهما فلا وَزنَ لهاتَين، ولا نَفعَ منهُما:

ومَا انتفاعُ أخِ الدُنيا بناظِرِهِ   إذا استَوَتْ عِندَهُ الأنوارُ والظُلَمُ

  ماذا يفعلُ الإنسانُ بعينيه إذا كان النّور والظَلامُ عِندَهُ شيئاً واحدا؟!

  ما هي الأسبابُ التي تجعلُ الإنسانَ أعمى في بَصيرتِه؟

  إنَّ ما يجعلُ الإنسانَ أعمى في بَصيرتِه هو أن يَنسى خَطيئَتَه، وأن يَذكُرَ عُيوبَ غيرِهِ ويَنسى عَيْبَ نفسِه.

  يقول الإمام الكاظِمُ عليه السلام (كفى بالمرءِ غِشّاً لنفسِه أن يُبصِرَ مِن النّاس ما يَعْمَى عليهِ مِن أَمرِ نَفسِه، أو يَعِيبَ غَيْرَهُ بِما لا يستطيعُ تَركَه، أو يُؤذِيَ جَليسَهُ بِما لا يَعنيه).

  الذي يُبصِرُ عُيوبَ نفسِه فإنَّ إبصارَهُ لذلك العَيب سوف يمنَعَهُ من النَّظَرِ في عُيوبِ النّاس، إذا أرادَ أن يكونَ بَصيراً مُنتَفِعاً بعينَيه، ومُنتفِعاً بالقلب الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى في صَدرِه، فعليه أن يُبصِرَ عَيبَ نفسِهِ قبلَ أن يُبصِرَ عُيُوبَ النَاس، فإذا أبصَرَ عَيْبَ نفسه شَغَلَهُ ذلك البَصَر عن البَحثِ في عُيوبِ النّاس، وإذا أبصرَ عَيبَ نفسِهِ لم يَعِبْ أًحًداً.

  إذا ذَكَرَ خَطيئَتَهُ لم يستعظِم خَطيئَةَ غيره، يقول مولانا أمير المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب عليه السلام (مَن نَسِيَ خَطيئَتَهُ استعظَمَ خَطيئَةَ غَيرِه، ومَنْ هَتَكَ سِتْرَ غيرِهِ انكَشَفَتْ عَوْرَةُ بَيتِه) مَن أبصَرَ عَيبَ النّاس ورَضِيَ لنفسِهِ به فذلك الأحمقُ بعينه (ومَن تَفَكَّرَ اعتَبَر، ومَن اعتَبَر اعتَزَل، ومَن اعتَزَلَ سَلِم، ومَن تَرَكَ الشَّهَواتِ كانَ حُرّا).

  الذي يُريدُ أن ينتَفِعَ بما آتاهُ اللهُ عزّ وجَلّ وبِما هو مسؤولٌ عنه من سَمعٍ ومِن بَصَر، فليُبصِر عَيْبَ نفسه، إنّهُ إذا أبصَرَ عَيبَ نفسه كفتهُ ومَنَعَهُ أن ينظُرَ في عُيوبِ النّاس، وإنّه لَمِنَ العَجَب أن يرضى الرَّجُلُ أن يُعَدَّ أعمى بينَ قومٍ مُبصرين!

  كيفَ يكونُ اجتهادُهُ في أن يتفقّدَ عَثَراتِ النّاس وعُيوبِهِم، ولا يكون اجتهادُهُ في أن يتفقّدَ عَيبَ نفسِه؟!

  كيفَ يكونُ اجتهادُهُ في تفقُّدِ عُيوب الناس وهو أعمى عن نفسِهِ، لا يعرِفُ ما فيها من العَيب!؟
هو بهذا بين أمرَين: إمّا أن يكون ممّن يَخافُ اللهَ عَزَّ وجَلّ وإمّا أن يكون ممّن يَخافُ النّاس.
فإذا كان ممّن يخافُ اللهَ عز وجل فعليه أن يمنَعَهُ خَوفُ اللهِ مِن خَوفِ النّاس. (طوبى لمن شَغَلَهُ خَوفُ اللهِ عن خَوفِ النّاس).

  إنّ أحَدَنا إذا تَوَفَّاهُ اللهُ عزّ وجَلّ لن يسألَهُ ما فَعَلَ فُلان؟ ولا ماذا أخذَ فُلان؟ ولا ماذا قال فُلان؟ إنّما سيسألُهُ: ماذا عَمِلتْ؟ ماذا قُلتْ؟ ستشهدُ عليه جَوارِحُه، فإذا كان بَصيراً بأمرِ نفسِهِ فإنّهُ حينئذٍ من الفائزين. ولا يقولَنَّ أحدٌ سنُرجِئُ هذا اليوم عَمَلَ هذا الأمر إلى غَدٍ! فرُبّما جاء غدٌ وليس قائلُ هذا بين الأحياء.
يقول الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُصوانُهُ عليه:

لا تَرْجُوَنً غداً إذا ما   كُنتَ يومَكَ غيرَ فائز
فمِنَ الجَوائزِ أن تَروحَ   غداً على ظهرِ الجَنائز

  الذي يُريد فالْيَبْدَأ من الوقت الذي يأتيه فيه التنبيه ويأتيه فيه التحذير، ومن الوقت الذي يُذَكَّرُ فيه، فرُبّما كان غداً من الأموات، ربما كان بعد ساعةٍ من الأموات، فإنَّ هذا التَسويف هو الذي أهلَكَ الأُمَمَ مِن قَبل.

  الذي يُسَوِّفُ التَّوبَة ويُؤَخِّرُها تكون عاقِبتُهُ أن يَلقى اللهَ عزّ وجَلّ وهو غاضبٌ عليه. مَن أحَبَّ أن يشفَعَ له رسولُ الله ص وآله وسلَم فليذكُر أنّهُ قال (إنَّ أحَبَّكُم إلَيَّ مَن لَقِيَني على مِثْلِ الحالِ التي فارقني عليها) مَن أَحَبَّ أن يَلقى رسولَ الله وهو راضٍ عنه، وهوَ شافعٌ له بإذن الله، فلْيَلقى سُنّةَ رسول الله بما أمر، بما ترك، ولا يظُنَّنَّ أحدٌ أنّهُ حين يبحثُ عن عُيوبِ الناس يكونُ بهذا من المُقَرّبين، أو يكون بهذا من المُخلصين! إنّه لو سَمِعَ ما يوصفُ به الذين يتعقّبون عَثَراتِ النّاس (إنّهم كالذُّباب لا يقعُ إلّا على المَواضِعِ الفاسِدَة) .

  الذي يُريد أن يَرحَمَهُ الله عز وجل فليَرحَم نفسه، والذي يُريد أن يُنقِذَهُ اللهُ عزّ وجَلّ من البلاء الذي هَو فيه فليُنقِذ نفسه من هذا الجَهلِ الذي هو فيه، وليَكفُف لِسانَه فإنّهُ إذا أمسَكَ لِسانَهُ عن فُضول القول لقيَ الله عز وجل وهو نَقِيُّ الراحةِ مِن دِماء المُسلمين ومِن أعراضِهِم.

  ما أشَدَّ العَمى حينَ يكونُ الإنسانُ بَصيراً، ما أشدَّ العَمى لمن كانت له عينٌ لا يُبصِرُ بها. ولمن كانت له أُذُنٌ لا يسمعُ بها، ولمن كان له قلبٌ لا يَعقِلُ به!.

  أيُّها الهائمُ في البحثِ عن عُيوب الناس اجعَل البَحثَ عن عَيبِ نفسِكَ أوَّلَ شيءٍ تتوبُ به إلى الله، وأوّلَ شيءٍ ترجِعُ به إلى طاعةِ الله، وأوّلَ شيءٍ تُقَدّمُهُ بين يَدَيّ الله.

  إنَّ مَن كَفَّ عَن عَيب الناس سَتَرَهُ الله، ومَن هَتَكَ سِترَ النّاس هَتَكَ اللهُ سِترَه.

  نسأل الله سُبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكُم من الذين يطلبون عَفوَ الله تعالى بتفقُّدِ ذُنُوبِهِم، وبتذَكُّرِ خَطيئاتِهِم، وبالرّجوع عنها. مِمَّن إذا أذنَبَ أحدَثَ لكُلِّ ذَنبٍ توبَةً واستغفر الله ممّا جَنى استغفار التائِبِ إليه، استغفار الرّاجِعِ إليه، استغفار الذي لا يُضمِرُ أن يعودَ في ذَنبٍ أبدا....

  الخُطبة الثانية:

  ليس فينا أيها الناس، أيّها الأخوة مَن يُحِبُّ أن يخرُجَ مِن بيتِهِ بثوبٍ لا يراهُ يَليقُ بِه! ما مِن أحدٍ إلّا ويُحِبُّ أن يَخرُجَ مِن بيتِهِ على أحسَنِ حال وعلى أحسَنِ زِيّ، وعلى أجمَلِ هَيئَة، وعلى أنظَفِ ثوب، وعلى أحلَى لِباسِ يَملِكُه.

  مَن يكرَهُ أن يكونَ أنيقاً بين الناس؟ ما مِن أحَدٍ يَكرَهُ هذا.

  ولكنَّ الثَّوبَ الذي يلبَسُهُ والرِّداء الذي يرتديه، الذي إذا فَقَدَهُ أو خَرَقَهُ أَو باعَهُ أو ألقاهُ أو خَلَعَهُ لا يستطيعُ أن يجِدَ بديلاً ليَلبَسَهُ، هو اللباسُ الذي أمَر اللهُ تعالى عِبادَهُ أن يَلبَسوه.

  إنَّ أَحَدَنا إذا أصابَ ثَوبَهُ شيئٌ مِنَ الأذى خَلَعَهُ وألقاهُ من أجلِ أن يُغسَلَ ذلكَ الثَّوب، ولكنّهُ إذا فقدَ الثوبَ الذي أَمَرَ اللهُ تعالى به، والثوبَ الذي أرادهُ اللهُ لعبادِه لن يَجِد بَديلاً.

  إذا كان أحَدُنا حينَ يَتّسِخُ ثوبَهُ يُلقي به من أجل أن يُغسَل ثُمَّ يَلبَسُ ثوباً جديداً، فإنّهُ إذا تَعَرَّى مِن لِباسِ التَّقوى لَم يَسْتَتِر بِشَيء. يقول مولانا أمير المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب عليه السلام (مَن تَعَرَّى مِن لِباسِ التَّقوى لَم يَستَتِر بشيءٍ مِنَ اللباس).
ما قيمةُ أن تكونَ ثوبُكَ نَظيفاً، وأن يكونَ صدرُكَ غيرَ نظيف؟!
ما قيمةُ أن يكون ثوبُكَ أبيَضَ نظيفاَ، وأن يكون قلبُكَ أسوَد؟!
ما قيمةُ أن يكون لِباسُكَ على أحسَنِ ما تَملِك بينَ النّاس، ولكن أن يكون لِباسُكَ عِندَ الله على أسوأ ما تَكرَهُ؟!
ما قيمةُ مَن يَلبَسُ لِباساً حَسَناً وهو في قلبِهِ بين يَدَيّ الله عز وجل ما لا يستطيع أن ينتفِعَ مَعَهُ بشيء {لِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر} الذي أمَرَ اللهُ عز وجل به إذا خَلَعتَهُ أن دَنَّستَهُ فلَن تَجِدَ ثوباً، فلن تجِدَ رِداءً، فلن تجِدَ زِيّاً.

  ومَن في النّاس يرغَبُ أن يخرُجَ إلاّ على ما ذَكَرنا، إنَّ أحدنا ليستحي أن يخرُجَ أو أن يسمَحَ أو أن يَرى أحداً مِن أهلِ بيتِهِ قد أصبَحَ مُجَرّداً أو عارياً مِن ثوبِه، لأنّها حُرُماتٌ عِندَه، فكيفَ إذا هُتِكَت حُرُماتُ اللهِ عَزَّ وجَلّ؟! أما هذا أولَى أن يُحفَظ؟! أما هذا أولى أن يُصان؟! أما هذا أولى أن يُهتَمَّ بِهِ؟!

  يقول كثيرٌ من الناس لقد سئمنا من طول هذا البَلاء، ومِن طول هذه الفِتنَة، ومن كَثرَةِ القَتل، ومِن كَثرَةِ الذين فُقِدوا، ومِن كَثرَةِ البيوت التي دُمِّرَت، والأموال التي نُهِبَت، والأعضاء التي قُطِعَت. سئمَ كثيرٌ من الناس!؟ ولكن مَن بَحَث عن الدواء لهذا الدّاء الذي أصابهم؟ من بَحَث عنه؟

  إنَّ أحدنا ليَظُنٌُّ أنّهُ إذا ربِحَ في الدنيا ربِحَ في الآخِرَة! إذا رَبِحَ من مَتاعِ الدُّنيا شيئاً يَعلَمُ أنّهُ سيُفارِقُه، أنّهُ بهذا يكون ممّن رَبِحَ بآخِرَتِه؟ لقد أخطأَ مَن ظَنَّ هذا. إنّهُ لا يكونُ رابحاً عند الله إلاّ مَن لبِسَ لِباسَ التّقوى، وإلاّ من حَمَلَ التّقوى، وإلاّ مَن رَبِحَ التقوى.

  ولو ربِحَ الدنيا من غير التقوى فإنّه مِن الخاسرين، ولو خسِرَ الدنيا وربحَ التقوى فهو مِن الفائزين.
يقول الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه:

سيأتي عليكَ اليوم لا ليلَ بعدَهُ   أو الليلةُ الليلاء ليس لها صُبْحُ
فمَن رَبِحَ التَّقوى ولو خَسِرَ الدُّنا   فإفقارُهُ يُسرٌ وخُسرانُهُ رِبْحُ

  إذا فَقَدَ من الدنيا شيئاً فإنّه يستطيعُ أن يستبدلَ به، أو يستطيعُ أن يجد منه عِوَضا، لكنّه إذا فَقَدَ لِباسَ الآخِرَة لا يستطيعُ أن يجِدَ عِوَضاً مِنه.

  هذا الذي فقدناه هو الذي جعلنا في هذه الحال، نبكي على مَن فقدنا ونقِفُ على قُبورِ مَن وَدَّعنا، فمن مِنّا بادرَ إلى إصلاح ذلك الخَلَلِ الذي أصاب، من مِنّا نَظَرَ فعَرَفَ الدّاء فبحثَ عن الدّواء، ونحنُ نشهدُ أنّ الله عز وجل لا يظلِمُ أحدا.

  يقول رسول الله ص وآله وسَلَم (إذا غَضِبَ اللهُ على أُمّةٍ ولَم يُنزِل العَذابَ عليهم، غَلَتْ أسعارُها، وقَصُرَت أعمارُها، ولَم تَربَح تُجّارُها، ولم تَزْكو ثِمارُها، ولَم تَغْزُر أنهارُها، وحُبِسَ عنها أمطارُها، وسُلِّطَ عليها أشرارُها).

  من مِنّا يستطيعُ أن يَصِفَ حالَهُ اليوم بوصفٍ يكون أَبلَغَ مِن هذا الوَصف. لماذا سُلّطَ عليها شِرارُها؟!

  يقول رسول الله ص وآله وسَلَم (إذا لم يأخُذوا بالمَعروف، ولَم يَنهَو عن المُنكَر، ولَم يتّبِعوا الأخيَارَ من أهلِ بَيتي، سلّطَّ اللهُ عليهم شِرارَهُم، فيدعو عند ذلك خِيارُهُم فلا يُستجابُ لهُم).

  إنَّ لكُلّ شيءٍ سببا، وإنّ لكُلّ شيءٍ عِلّةً، يقول رسول الله ص وآله وسَلَم (إذا كَثُرَ الزِنى بعدي، كَثُرَ مَوتُ الفُجْأة). إذا مَنَعَ النّاس الزّكاة مَنَعَتِ الأرضُ الخَير، ومَنَعَت الثِمار، وحَبَسَت السّماءُ القَطْرَ والمَطَر. لكُل شيءٍ سبب، ما مِن شيءٍ كان عَبَثاً، ولا مِن شيءٍ جاءَ عَبَثا. فمن أرادَ أن يَخرُجَ مِن هذا البَلاء الذي وُضِعَ فيه، فليَجتَهِد في أن يَلبَسَ لِباسَ التّقوى.

  إنّ ما أوصَى به رسول الله ص وآله وسَلَم بوصيّتِهِ (أيُّها الناس، أوصيكُم بتَقوى الله، وأحُثُّكُم على العَمَلِ بِطاعَتِه، وَأَستَفتِحُ بالذي هُوَ خَير).

  وفيما جاء من حديث أهل بيتِهِ الطاهرين (أيُّها الناس، اتّقوا الله فإنَّ الصّبرَ على تَقوى الله أهوَنُ مِنَ الصَّبرِ على عَذابِ الله). الصّبرُ على طاعة الله أخفّ وأهوَن وأيسَر مِن أن تصبِرَ على ساعةٍ من عَذابِ الله.

  هذا الذي أصابنا إنّما كان بأعمالنا، وإنّما كان بما أسلفناه، فلا يقولَنَّ أحدٌ : ما لِهؤلاء القَوم قد جاؤوا من أقصى الأرض، وجاؤوا من شرق الأرض، وجاؤوا من غَرب الأرض. هؤلاء نحنُ الذينَ أحضرناهُم، ونحنُ الذين مَكَّنّاهُم، ونحن الذين سلَّطناهُم على نُفوسِنا، وعلى أموالِنا، وعلى رِقابِنا.

  مَن أرادَ أن يُنقِذَهُ الله عزّ وجَلّ مِن هذا البلاء، فليَجتَنِب ما نُهِيَ عنه، وليعمَل بِما أُمِرَ بِهِ، والواجِبُ عليه أن لا يترُكَ الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المُنكَر وإن كان بلسانِه، لأنّ ترك الأمر بالمعروف وترك النَّهي عن المُنكَر، سيكون من عَواقِبِهِ أن يكون البَلاء، وأن تكون العُقوبَةُ لمن فَعَلَ ولِمَن لَم يَفعَل.

  نسأل الله سُبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكُم من الذين يأمُرون بالمَعروف ويَفعلونَ ما يأمُرونَ به، ومن الذين يَنهَونَ عن المُنكَر وينتَهون عمّا يَنهَوْنَ عنه، ومن الذين إذا وَرَدَ عليهم أمران استخاروا اللهَ عزّ وجَلّ أن يهدِيَهُم إلى خَيرِ الأمرَين. ونسألُ اللهَ عَزَّ وجَلّ أن يجعلنا من أهل الخَير، أن يُلهِمَنا عَمَلَ الخَير، فإنَّ الخَيرَ والشَّرَّ لا يُعرفانِ إلاّ بالناس كما قال مَولانا أميرُ المؤمنين عليه السلام (إنّ الخيرَ والشرَّ لا يُعرفانِ إلاّ بالناس، فإذا أردتَ أن تعرِفَ الخَير فاعمَل الخَير تعرِف أهلَهُ، وإذا أردتَ أن تعرِفَ الشَّر فاعمَلِ الشَّرَّ تَعْرِف أهلَهُ). أي تكون حينئذٍ من أهلِهِ.
نسأل الله سُبحانه وتعالى أن يوفّقنا وإيّاكُم إلى ما يُرضيه......