بين الأمير فيصل والشيخ صالح العلي
وبداية الثورة ضدّ الفرنسيين.
كان الأمير فيصل على علم بالمقاومة التي أبداها الشيخ صالح العلي في وجه الأتراك، وتلبيته للدعوة إلى الجهاد المقدّس، فأرسل وفدًا يحمل بعض الهدايا للشيخ، ورسالة يدعوه فيها لزيارة دمشق، والتباحث معه بشأن امتداد الثورة، وإجلاء القوات الفرنسية عن الساحل السوري، هذه القوات التي لم تلبث أن احتلت الدوائر الرسمية، وأنزلت أعلام الثورة العربية بشيء من التحدي والإمتهان، ورفعت مكانها الأعلام الفرنسية، وأخذت تتصرف على أساس البقاء والتمركز، ساخرة بالوعود، هازئة بالعهود.
استقبل الشيخ صالح رسالة الأمير فيصل، وأكرم وفادتهم، وتبادل معهم الأحاديث المتعلقة (بالمرحلة والمواقف)، وبعد ذلك طلب إليهم تبليغ الأمير فيصل:
أنّ صالح العلي يحسب لنوايا الفرنسيين مائة حساب، وأنّه بادر لاتخاذ الإحتياطات اللازمة، والتأهب لإعلان الثورة عليهم.
ثم ودّعهم وغادر الوفد معقل الثورة، فوجّه الشيخ دعوة عامة إلى بعض زعماء ووجهاء ومشايخ القرى والعشائر وأرباب الوجاهة والنفوذ، للإجتماع على (الشيخ بدر) وقد لبّى الدعوة كل من:
- الشيخ معلا أحمد غانم.
- الشيخ يونس محمد رمضان.
- الشيخ علي أحمد ميهوب.
- الشيخ علي عباس.
- السيد أحمد المحمود.
- السيد محمد اسماعيل.
- السيد عبد الكريم الخير.
- السيد اسبر زغيبه.
- السيد علي زاهر.
- السيد إسماعيل إحسان.
- السيد محي الدين عدبا.
- وغيرهم.
وقد تحدث إليهم الشيخ مطوّلاً عن الأخطار المُحدقة ببلادهم، من جرّاء احتلال الفرنسيين للساحل السوري، وعن الإخلاف بالوعود التي قطعها الحلفاء للعرب في مطلع الحرب وإبّانها، وعن تمزيق البلاد العربية إلى دويلات صغيرة، بعضها مُحتل وبعضها مُنتدب عليه، وعن الأخطار التي تتعرض لها القضية العربية من جراء هذا التمزيق والتفريق.
ثم توجّه إليهم بالسؤال عمّا إذا كانوا يتضامنون معه لإشعال نار الثورة، وضمّ الجبل وساحله للشام، فقرّ رأيهم على اتباع رأيه والقيام بثورة واسعة، والإتصال بفيصل ابن الحسين لمساعدتهم ومد يد المعونة إليه، وأقسموا على ذلك الأَيْمان المغلظة على الكتاب الكريم، ثم تعاهدوا فيما بينهم على كتمان هذا الأمر حتى تنتهي الإستعدادات، ويتم الإتصال المباشر مع عاهل الشام، ولكنّ أمر هذا الإجتماع ومقرراته قد تسرّب إلى الفرنسيين، فبادروا على اعتقال من وقعت عليه أيديهم من رجال المؤتمر، ثم أرسلوا دورية من دركيين طلبًا للشيخ صالح للمثول أمام القيادة الفرنسية في طرطوس، بطريقة اعتيادية بحتة، حتى لا يتسرّب إليه شيء من الشك عن حقيقة مقاصدهم ونواياهم، لكن الشيخ كان يقظًا، لم يكن بحاجة إلى من ينبّهه إلى فداحة الأخطار المحيقة به من جرّاء الإذعان إلى مطالب الفرنسيين والإجتماع بهم، فرفض طلبهم وأمر بمصادرة سلاح الدركيين، ليعودوا إلى أسيادهما خائبين ذليلين..
وما أن سمع الفرنسيون بذلك حتى ثارت ثائرتهم، فأمروا قواتهم بتوجيه حملة من (القدموس) لاحتلال (الشيخ بدر)، واعتقال الشيخ صالح العلي.
انتقلت أخبار هذه الحملة إلى الشيخ صالح، فهبّ مع ستة من رجاله الأشدّاء هم المجاهدون:
- سليم صالح.
- عباس حبيب.
- سلمان غانم.
- سليم شاويش.
- علي صالح.
- سليم حبيب.
لمجابهتها والتصدّي لها، ولم يكن معهم آنذاك إلا بنادق قديمة وطلقات محدودة جدًّا، وفي (وطى النيحة) الواقع غربي (وادي العيون)، حيث الأحراش والقفار، تمركز الشيخ ورجاله في كمين حصين مستور، وبادروا إلى إطلاق النار على القوات الفرنسية، وهي في أرض منبسطة مكشوفة، الأمر الذي اضطر أفراد الحملة إلى الفرار بعد أن وقع بينهم /35/ قتيلاً، وعدّة جرحى، والكثير من الغنائم الحربية.
وتناقلت الألسن في سائر الأوساط أنباء هذا الإنتصار، وتقاطرت أفواج المتطوعين تحدوهم عزيمة غلاّبة، وإيمان بالله وبالحق المبين، وقد عكفوا على بيع دوابهم ومنقولاتهم لشراء الأسلحة من كل مكان، وما هي إلا أيام، حتى وصلت إلى الشيخ صالح، رسالة من الجنرال الفرنسي (سومرست) نائب الجنرال اللنبي البريطاني قائد جيوش الحلفاء في الشرق، جاء فيها:
(إلى الشيخ صالح العلي النُصَيْري:
بلغني وقوع معركة دموية بين بعض رجالكم وجنودي أسفرت عن قتلى وجرحى.. وإنني أطالبكم بدفع الديّة، وأهاودكم بها على أن تكون ديّة القتيل الواحد، بندقية حربية ومائة خرطوشة..)
لكن الشيخ رفض مضمون الرسالة وأعادها إلى مصدرها، فقررت القيادة الفرنسية تسيير حملة للهجوم مرة ثانية على (الشيخ بدر)، إلا أنّ الشيخ صالح كان في هذه المرة قد أكمل استعداده وأتمّ تأهبه فأطبق على قواتهم المهاجمة بمعنويات عالية ونفوس توّاقة للنصر أو الشهادة، وسط معركة حامية الوطيس، أسفرت بعد جولة قصيرة عن /48/ قتيلاً وجريحًا و /3/ أسرى بينما ولّى الباقون هاربين، تاركين وراءهم ذخائر وغنائم، الأمر الذي أقلق الفرنسيين وبعث مخاوفهم وأضعف عزائمهم، في الوقت الذي شحذ هذا الظفر قوة معنوية ومادية كبيرة لدى المجاهدين.
اجتمعت القيادة العامة لجيوش الحلفاء في الشرق، وأرسل الجنرال اللنبي في نهاية الإجتماع رسالة إلى الشيخ صالح، مع رسولين بريطانيين يرافقهما إسماعيل بك الهواش، ومما ورد في الكتاب:
( إنّ الحلفاء قد جاؤوا لتحرير سورية من ظلم الأتراك وإعطائها الحرية والإستقلال، لذلك فهو يستغرب أن يقف الشيخ صالح العلي ورجاله من الحلفاء هذا الموقف الذي يدل على عدم تقديرهم للمساعدات القيّمة التي أسداها الحلفاء إلى بلادهم المُحرّرة من ربقة الأتراك..)
هذا ولم تخلُ رسالة الجنرال اللنبي من عبارات الرجاء والإلحاح، طلبًا من الشيخ السماح للقوات الفرنسية المرابطة في (القدموس)، بالمرور عن طريق (الشيخ بدر) إلى طرطوس، متعهدًا على نفسه ألا يقف هذا الجيش في الطريق أكثر من ساعة واحدة، فيتناول الماء وينال قسطًا من الراحة العابرة.
ولكي لا يخسر الشيخ صالح الإنكليز والفرنسيين في وقت واحد، ونظرًا لإلحاح الجنرال والرسولين وتعهداتهم، وافق الشيخ على مرور الجيش الفرنسي عن طريق (الشيخ بدر)، على أن يكون توقفه فيها لمدة ساعة واحدة، دون أن ينصب خيمة واحدة، أو يُنزل أية حمولة.
وتحركت القوات الفرنسية، وما أن وصلت إلى (الشيخ بدر)، حتى اتخذت من الفرصة المُتاحة لها مجالاً لنصب المدافع وإقامة الإستحكامات، وبدأت بقصف (الشيخ بدر) والقرى المحيطة بها.
لكن حميّة الشيخ، وكذلك المجاهدين، لم تلبث أن ثارت، عندما رأت عيونهم خيانة الفرنسيين الدنيئة، وهم يُرابطون في (نقاط الحراسة والرصد) التي كان قد عيّنها الشيخ لهم، ورغم قلة عددهم وعُدَدِهم، وكثرة عَدَدْ وُعُدَدِ الجيش الزاحف الجرار، انقضّ المجاهدون من نقاط تمركزهم على ذاك الجيش من الجبال، واشتبكوا معه، فهلع الفرنسيون ودبّ الذعر في صفوفهم، وفرّ أغلبهم هاربين بينما قُتل عدد كبير وجُرح آخر، واستولى المجاهدون على غنائم حربية كثيرة.
بعد هذه الموقعة بدأت الثورة تُسفر عن وجهها القوي، وأصبحت تحسب لكل شاردة وواردة حساب متيقظة حذرة من مكائد الفرنسيين وخيانتهم، حتى لا تؤخذ على حين غرّه.
وأخذ الشيخ يوزّع المجاهدين في أعالي الجبال المحيطة بـ (الشيخ بدر)، ليبعثوا العيون والأرصاد هنا وهناك، وكأنّه كان يترقب عملاً إنتقاميًا فرنسيًا بعد هزيمتهم، وفعلاً فقد قام الفرنسيون بحملة كبيرة بقيادة (الكولونيل جان)، بدت طلائعها لأعين الثائرين واضحةً جليّةً، فأخبروا الشيخ الذي بدوره استنفر كافة فصائل المجاهدين، وعزّز بهم أولئك المرابطين في أعالي الجبال، وأعطاهم تعليمات تقضي بأن يثبتوا في أماكنهم ولا يُحرّكوا ساكنًا حتى ترتفع راية الثورة (وهي قطعة قماش خضراء وسطها هلال ونجمة)،.
وما أن توسّط الجيش الفرنسي (وادي ورور) الواقع غربي الشيخ بدر بحوالي /2/ كم حتى ارتفعت راية الثورة مُعلنة بدء الهجوم، فارتفعت معها أصوات التهليل والتكبير، وانتقل المجاهدون على رؤوس الجبال، من المقدمة إلى المؤخرة، فأحاطوا بالحملة من جميع الجهات، وأغاروا عليها من كلِ فجٍ عميق، فأخذت المدفعية الفرنسية تُطلق قذائفها بشكل عشوائي، وانفصلت المقدمة عن المؤخرة، وتعالت سحب الغبار والدخان وألسنة اللهب، وانتشر الرعب والهلع في صفوف الفرنسيين، وأصبح واحدهم يزعم أن الثوار في طريقهم إليه لأسره أو قتله، فراحوا يُطلقون الرصاص على بعضهم البعض، والمجاهدون ماضون في اقتناصهم فردًا فردًا إلى أن وصلت خسائرهم إلى الثمانمائة قتيل وجريح وعدّة أسرى، بينما فرّ الباقون تاركين كل ما بحوزتهم من سلاح وذخيرة وعِتاد.
بعد ذلك هدأت الحال، وأصبحت أشبه ما تكون بالهدنة فتوفّر فيها للفريقين تهيئة القوات وحشد الطاقات، وما هي إلا أسابيع حتى زحفت قوة فرنسية كبيرة من طرطوس عن طريق (نهر الإسماعيلية) واستقرّت في (عقر زيتي) والقرى القريبة منها، وأخذت تقطع الطريق على المارّة، وتعبث بالأرزاق وتحرق البيوت، وتعتقل من تشتبه بأنهم على اتصال بالشيخ صالح..
ثم هاجمت (قلعة الخوابي) بحثًا عن (آل عدرا) المخلصين للشيخ صالح، فهدمت بيوتهم، وأحرقت محاصيلهم، فلم يكن من الشيخ إلا أن أحاط برجاله تلك القرى من ثلاث جهات، واشتبك بالقوات الفرنسية في معارك دامت عدة أيام، انتهت بهجوم ساحق أوقع في صفوف الفرنسيين الخسائر في الأرواح والمعدات، واضطرهم على الإنسحاب إلى طرطوس بعد أن أصيبوا بكارثة أليمة حطّمت كبرياءهم، ومرّغت أنفهم بانكسارهم هذا، وما سبقه من شر هزيمة في (وادي ورور) فاضطروا لطلب الصلح، وكلّفوا أحمد أفندي الحامد وإسماعيل الطاهر الحامد بإقناع الشيخ بفكرة التفاوض معهم لوضع حلول سلمية مناسبة..
يقول الشاعر كامل الخطيب في معركة (وَرْوَرْ):
ولأن الشيخ -قبل كل شيء- مجاهدٌ في سبيل الله، ولأن الإيمان بالله يأمر بتلبية دعوة السلام ووقف الحرب إذا جنح الأعداء للسلم وظهرت منهم بوادر الصدق والوفاء، فقد وافق الشيخ، وحدّد موعدًا لمقابلة الوسيط البريطاني في موطن الثورة.
وجاء الوسيط ودار الحوار، وطالت المناقشات التي أسفرت عن قبول الشيخ الدخول في المفاوضات مع الفرنسيين لعقد الهدنة، وإعلان الصلح على الأسس الثلاثة التالية:
- الجلاء عن الساحل السوري، والموافقة على ضمّه إلى حكومة الشام.
- إطلاق سراح الأسرى من الفريقين.
- دفع تعويضات عن الأضرار التي ألحقها الجيش بالقرى التي أحرقها أو مرّ بها.
نقل الوسيط هذه الشروط إلى القائد الفرنسي فقبلها مبدئيًا وأرسل من يستأذن الشيخ للإجتماع به فعاد الرسول حاملاً الشروط التالية:
- أن يكون الإجتماع في (الشيخ بدر).
- ألا يصحب القائد معه إلا ثلاثة أشخاص.
- أن يكون الجميع عُزَّلاً من السلاح.
وافق القائد أيضًا على هذه الشروط وتعهّد بتنفيذها فغمر الإرتياح والإبتهاج نفوس المجاهدين جميعًا، وساد الهدوء بانتظار القائد الفرنسي يحمل موافقة حكومته على شروط الهدنة والجلاء.
- 150 مشاهدة