//الخطاب العلويّ السوري .. تحليل وتحولات//
فجأة ودون سابق إنذار وجدَ السوريّون أنفسهم أمام تدحرجٍ سريع للأحداث فرض عليهم خطابًا جديدًا لم يكونوا معتادين عليه، وهذا ما أوجد حالة من الارتباك عند كل مكوّنات المجتمع السوري على المستوى الوطنيّ كما على المستوى الدينيّ، ولا سيما عند العلويّين الذين مُنعوا من تشكيل مجلس ديني باسمهم أو حتى من مخاطبة الآخرين بلغة طائفية، وهم لا يحبّذون هذه اللغة أصلاً لأنها تتعارض مع منهجهم الذي نصّه الإمام عليّ بقوله: ((الناس صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)).
فقد عاش العلويون حالة المواطنة مع إخوتهم في الوطن في ظل منظومةٍ منعت التسميات الطائفية -وهذه من الحسنات التي يجب ذكرها- ، ولكن سيرورة الأحداث هي التي دفعتهم إلى استخدام لغة الخطاب الطائفي بعد أن باتت معتمدة.
فمع بداية الأحداث كان العلويّون يرفضون تسمية (النظام العلوي) وهو في الحقيقة لم يكن كذلك إطلاقًا لاحتوائه على كل الأطياف الدينية من جهة، ولأنّ العلويين كمجتمع لم يكن لديهم في هذا النظام ميزةٌ عن غيرهم من أبناء الطوائف، بل على العكس كانوا يشعرون بأن هذه التسمية تهمةٌ أو ادّعاءٌ باطلٌ وشمّاعةٌ يراد منها تحميلهم أوزار تلك الحقبة وهروب المشاركين في تلك المنظومة من العقاب تحت ظل هذه التهمة؛ ولعل من اطلع على واقع الحال في مناطق انتشار العلويين يدرك أبعاد هذا القول من حيث انتشار حالة الفقر والحرمان والاستبعاد عن خارطة الحركة الاقتصادية (معامل، شركات، مناطق استثمار وتطوير....) وكأنه أمر ممنهج يهدف لإبقائهم في دائرة التوظيف المدني والعسكري بما فيها من التقييد والتبعيّة للدولة، من أجل تحقيق أدنى متطلبات العيش الكريم.
ولأنّ العلويين من جهة أخرى يرفضون دمج الدين مع السياسة كما يرفضون تحميل الدين وِزْرَ السياسة، فالحالة الدّينية هي حالة تعبُّد مع الخالق لا ينبغي توظيف واستخدام مؤثراتها لحالات دنيويّة فهذا أمر يسيء إلى قدسيّة الدين.
...كل هذه العوامل كانت تمنع على العلويين استخدام الخطاب الطائفي باعتباره خطاب تفرِقةٍ على حساب الخطاب الوطنيّ الجامع؛ وهذا يفسر الارتباك الذي حصل في الخطاب الديني مؤخرًا كما يفسر ظهور بيانات عدة ومتفرّقة باسم العلويين في مناطق انتشارهم، وهذا أمر نرجو تداركه سريعًا، فإنه وإن كان له مبرراته التي ذكرناها إلا أنه يعطي انطباعا عن غياب القدرة على التنظيم ووحدة الكلمة.
بناء على ذلك فإن الخطاب الدينيّ العلويّ قد مرٌ بمرحلتين، مرحلةُ المفاجأة بالحدث؛ ومرحلة التوازن في استيعاب الحدث.
المرحلة الأولى //مرحلة المفاجأة بالحدث//:
كان العلويّون فيها أشد تأثّرًا من المكوّنات الأخرى خاصةً أن الضخّ الإعلامي قد عَمَدَ إلى إلصاقِ الصبغة الطائفية على النظام - لا سيما من خلال ادّعاء وجود مجلسٍ دينيّ يقود ويعطي توجيهات وإرشادات للنظام ويُعتبر بمثابة حكومة ظلٍّ دينيّة، وقد أثبتت الوقائع بطلان هذا الادعاء كغيره من التّهم التي كانت تحاول ربط النظام بالمنظومة الدينيّة- محاولاً تجييش واستخدام المشاعر الدينيّة ضد النظام كأحد الأدوات لإسقاطه، وقد نجح إلى حدٍّ بعيد كما نجح سابقًا في تضخيم حالات ومسمّيات أخرى عند إسقاط كل نظامٍ عربيٍّ حسب خصوصيةِ كل دولة.
وتحت هذا التجييش الإعلامي، والسيناريو الدراماتيكي للحدث بتولّي الحكم من قبل هيئة ذات صفةٍ دينيّةٍ، وفي ظل الخوف من التداعيات السلبيّة التي تحصل عقب سقوط الأنظمة، فإن الخطاب العلويّ قد تميز بعدة سمات:
- التأكيد على حُرمة الأرواح والدماء تحت القاعدة الدينيّة التي وضعها رسول الله بقوله: ((كلّ المسلم على المسلم حرام، دمهُ ومالهُ وعرضهُ)).
- إبراز الحكم الشرعيّ عند العلويين في رفض الظلم والعنف والبراءة من الأحداث الدمويّة وعدم القبول بربطها بالحالة الدينيّة من أي جهة كانت.
- الترحيب بالقيادة السياسية الجديدة في البلاد وإعلان التأييد لها، وهذا ينقض مباشرة نظرية الحكم العلويّ، ويدلّ على عدم تمسك العلويين بالسلطة إطلاقًا، كما يدلّ على القبول والتعايش مع أي مكوّن أو نظام يحكم البلد على أساس العدل.
- التأكيد على فصل الحالة الدينية عن الحالة السياسية وبالتالي فكُّ تهمة الارتباط بين الطائفة العلويّة والنظام السياسيّ الذي كان ينتمي رموزه إلى كل الطوائف والمكوّنات.
- وإظهار حالة الغبن الاجتماعي والاقتصادي بالإضاءة على الواقع الذي كان يعيشه العلويون.. وبالتالي إبطال تهمة الاستفادة المباشرة من النظام الحاكم.
- التأكيد على مبدأ الأمن الذي يعطي للعلويين ضمانة العيش بسلام والتأكيد على ثقتهم بالوعود التي تقطعها القيادة الجديدة، خاصة بعد ما صدر عنها من بيانات رسميّة تؤكد على التسامح وعدم الانتقام والانجرار إلى أعمال عنف دمويّ والحفاظ على خصوصيات المكونات السورية كافة لا سيما الأقليات، وبالمقابل إعطاء الضمانات الكفيلة بضبط الأمور ومنع الانجرار إلى أي اقتتال جديد يمنع أي سفكٍ للدم السوريّ.
المرحلة التالية //مرحلة استيعاب الحدث//:
لم يتخلّ العلويون في بياناتهم عن الثوابت التي طرحوها لأنها انطلقت من قناعات ومبادئ راسخة تدلّ على وحدة القناعات في المجتمع العلويّ وعلى صدقها في التعبير عن واقع الحال...
ومع ظهور بعض حالات الاستفزاز والتجاوزات التي حدثت في بعض أماكن انتشار العلويين ولا سيما الاعتداء على المقدّسات، وإطلاق الإهانات والتعدّي على الحرمات والكرامات، ظهرت شكوك في التطمينات التي أعطتها الهيئة للعلويين والأقليّات؛ ولم تعد تجدي الأعذار بأنها حالات فردية أو أفعال صادرة عن فصائل غير منضبطة... وخوفًا من فقدان الثقة ومن الانزلاق إلى أيّة فتنةٍ جديدة قد تؤدّي إلى خلل في ضبط الأوضاع.. ومع ضبابية المشهد في إجراء تعديلات قاسية على بنية الدولة بعد انتقال الحكم، تبلورت أفكار وطروحات إضافية في الخطاب:
- التأكيد على عدم التمسّك بالسلطة أو الدفاع عنها في مقابل التمسّك بالهويّة الوطنية ووحدة البلاد باعتبارها خيارًا وقرارًا وطنيًا في الفكر العلوي.
- التوضيح على مطلب العفو الشامل الذي لا يشمل الأفعال الفرديّة التي تجاوزت حدود الدين وضوابط القتال المعتمدة، والتأكيد على تصنيف تلك الأفعال من طرفيّ النزاع ومحاسبة مرتكبيها.
- التأكيد على الخيار الوطني ورفض فكرة التقسيم الجغرافي للبلاد وفكرة التقسيم الطائفي لأبناء البلاد، وهذا خيار مستمدّ من قرار المجاهد الشيخ صالح العليّ ومن أعيان المجتمع العلويّ في رفض الدولة العلوية والتمسك بوحدة سورية أرضًا وشعبًا.
- التأكيد على متلازمة (( الأمن والكرامة )) سبيلاً لتحقيق الاستقرار والطمأنينة في البلاد.
- التعامل مع العلويين على أساس المواطنة والمشاركة التي يستوجبها الانتماء الوطني وليس على أساس التبعية التي تمليها اعتبارات الانتصار والهزيمة.
- التأكيد على صون الحريات الدينيّة والمقدّسات ومنع الاستفزاز الذي قد يصدر من هنا وهناك والذي قد يستوجب ردّات فعل تؤدي إلى انفلات الأمور من عقالها، ويشكل عاملاً يسيء إلى الثقة التي يأملها العلويون والتي يريدون النظر إليها على أنها ضمانات كافية لا تقبل التشكيك والمساومة.
- التأكيد على مبدأ المواطنة لكلّ مكونات الشعب وأطيافه كسبيلٍ لتحقيق العدل الاجتماعي و التأكيد على حضور العلويين وحقهم بالمشاركة في إدارة شؤون البلاد باعتبارهم مكونًا أساسيًا يملك من الوطنيّة والخبرة والامكانيات ما يؤهله للقيام بدور الشريك الفاعل في بناء الوطن.
- المطالبة بتشكيل لجان حماية محلية من أبناء المناطق تتبنّى حفظ الأمن بالتنسيق مع الهيئة.
- الإشادة بدور الهيئة في المحاولة الحثيثة والجدّيّة في ضبط الأمور والاستجابة المشكورة للعديد من الطلبات التي تُدخِل الاطمئنان إلى نفوس العلويين، مع المطالبة المستمرة أن تكون عوامل الاطمئنان تلك أكثر فاعليّة خاصة بمجال منع التعديات عن الأبرياء والمقدّسات والاستجابة إلى المطالب المتعاظمة للشعب بظل واقع اقتصاديٍّ صعب.
- رفض حالات الإهانة والتعدي على الحرمات والكرامات والمطالبة بإيقاف هذه السلوكيات المنافية للمشاعر الإنسانية والانتماء الوطني والتي تعاكس الضمانات المعطاة من قبل الهيئة والتي على أساسها نالت القبول والثقة من العلويين.
في ظلِّ هذه الأوضاع فإن العلويين في سورية قد خرجوا من تهمة (الطائفة الحاكمة) التي حاول البعض إلقاءها عليهم كتهمةٍ جماعية تستدعي عقابًا جماعيًا، وقد ظهر للجميع بطلان هذه التهمة وأنّ الامتياز المزعوم الذي كانوا يُحسدون عليه كان ادّعاءً باطلاً وعبئًا حملوا أوزاره... وأنهم أعطوا الثقة للقيادة الجديدة بناء على ضمانات رسمية أعطيت لهم، وأن هذه الثقة باتت مهدّدة بفعل تكرار الاعتداء على كرامة العلويبن وهذا أمر ليس في مصلحة الاستقرار وينقض التعهدات ويستدعي معالجة عاجلة ونهائية يستعيد فيها الجميع الحد المطلوب من الثقة لبناء دولة قائمة على القانون والعدل والمساواة.
وهم حاضرون دومًا عند استيفاء هذه الشروط لأداء الدور الذي يليق بهم على المستوى الوطني.
يمكنك أن تقرأ أيضا: (1) // العلويّون في سورية .. استخلاص الأحكام //
- 597 مشاهدة