فِكْرُ الوَلايَةِ
إِنَّهُ الفِكْرُ الذّي رَأَى أَعْلامُهُ طَرِيقَينِ لا ثَالِثَ لَهُمَا، فِي قَولِهِ تَعَالَى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ.[سورة البلد10]. فَإِذَا الأَولِيَاءُ: اثْنَانِ، أَولِيَاءُ الله فِي قَولِهِ: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .[ سورة يونس62]. وَأَولِيَاءُ الشَّيطَانِ، فِي قَولِهِ: إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. [سورة آل عمران175]. وَإِذَا الوَلايَةُ وَلايَتَانِ، وَمِنْهُ قَولُ الإِمام الصّادق: ((مَنْ رَوَى عَلَى مُؤمِنٍ رِوَايةً يُرِيْدُ بِهَا شَيْنَهُ وَهَدْمَ مُرُوءَتِهِ، لِيُسْقِطَهُ مِنْ أَعْيُنِ النّاسِ، أَخْرَجَهُ اللهُ مِنْ وَلايَتِهِ إِلَى وَلايَةِ الشَّيْطَان، فَلا يَقْبَلُهُ الشّيْطَانُ.))1 .
وَعَلَى هَذَا مَنْهَجُ الفِكْرِ العَلَوِيِّ، الفِكْرِ الذّي تَخَيَّرَ وَلايَةَ اللهِ فَبَدَأَتْ ثَقَافَتُهُ مِنَ العُرُوبَةِ وَانْتَهَت إِلَى الإِسْلامِ، فَهِيَ وَلايَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى اخْتِلافِ أَسْمَائِهَا وَتَعَدُّدِ صِفَاتِهَا وَكَثْرَةِ نِسَبِهَا؛ لأَنَّ غَرَضَهَا تَحْقِيقُ الإِنْسَانِيَّةِ، وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ إِبرَاهِيم سَعّود ((1914ـ1982م)):
إِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ صِنْوٌ لِذَا الإِنْــسَانِ إِنْ شَاءَ أَوْ أَبَى تَقْرِيْبَا
مَذْهَبٌ للحَيَاةِ يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَمَا زَالَ فِي الجَمِيْعِ غَرِيْبَا2
وَلايَةٌ تُطَهِّرُ القُلُوبَ وَتُهَذِّبُ الأَنْفُسَ، فَتَرُدُّهَا نَقِيّةً إِلَى فِطْرَتِهَا الخَالِصَةِ، فَتُبَلِّغُهَا مَنَازِلَ المُتَّقِينَ، فِي قَولِهِ تَعَالَى: إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٍ وَعُيُونٍ ﴿٤٥﴾ ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ ﴿٤٦﴾ وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ ﴿٤٧﴾ لَا يَمَسُّهُمۡ فِيهَا نَصَبٞ وَمَا هُم مِّنۡهَا بِمُخۡرَجِينَ ﴿٤٨﴾ .[سورة الحجر].
إِنَّمَا المُوَالِي مَنْ صَفَا قَلْبُهُ فَذَاقَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ سُلَيمَان أَحْمَد: ((إِنَّ الوَلايَةَ مِثْلُ الصَّلاةِ، إِذَا أُقِيمَتْ أَصْلَحَتْ مَا بَعْدَهَا مِنْ سَائِرِ الأَعْمَالِ، وَلَنْ تَتِمَّ الوَلايَةُ الصَّادِقَةُ إِلاَّ بِمُوَالاةِ أَولِيَاءِ اللهِ، فَلْيَكُنْ حَرَمُ اللهِ وَهُوَ قَلْبُ المُؤمِنِ مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ دَنَسٍ صَالِحًا لِسُكْنَى الحَقّ -جَلَّ جَلَالُه- لِيَتَذَوَّقَ العَبْدُ لَذَّةَ المُنَاجَاةِ التّي تَفُوقُ كُلَّ لَذَّةٍ، وَمَا حَيَاةُ المُؤمِنِ إِذَا فَقَدَهَا؟؟3 .)) . وَقَولُ الشَّيخ إِبرَاهِيم سَعّود:
تِلْكَ فِطْرَةُ اللهِ التّي لا يَشُوبُهَا تَعَلُّقٌ بِغَيرِ اللهِ، فَمَنْ فَقَدَهَا كَانَ صُورَةَ إِنْسَانٍ. وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ مُحَمّد حمدان الخَيِّر:
ثَمَّةَ يُشْرِقُ القَلْبُ بِضِيَاءِ الحِكْمَةِ وَتَنْدَفِقُ مِنْ أَحْنَائِهِ عُيُونُ الرَّحْمَةِ، فَتَتَّقِدُ فِطْرَتُهُ، وَتَزْكُو هِمَّتُهُ. وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ إِبرَاهِيم سَعّود:
فَإِنْ لَمْ تُطَهِّرِ الوَلايَةُ قَلْبَهُ مِنَ الغِلِّ وَالحَسَدِ، كَانَ وَلاؤهُ ادِّعَاءً، وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ سُلَيمَان أَحْمَد:
فَمَا عَبَّرَ عَنْهُ المَنْطِقُ الشَّرْعِيُّ بِالوَلايَتَينِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ المَنْطِقُ الشِّعْرِيُّ بِالطَّرِيقَينِ، وَمِنْهُ قَولُ ابنِ الرُّومِيِّ ((221ـ 283هـ)):
وَقَولُ أَبِي الفَضْلِ الحَصْكَفِيّ ((يَحْيى بن سَلامة 460 ـ 553هـ)) :
عَبَّرَ عَنْهُ أَعْلامُ هَذَا الفِكْرِ، فَسَمَّاهُ بَعْضُهُم ((خَطَّ الوَلايَةِ))، وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ مُحَمَّد حَسن شَعْبان:
ذَلِكَ الخَطُّ الفَاصِلُ بَينَ الوَلايَتَينِ: وَلايَةِ اللهِ، وَوَلايَةِ الشَّيطَانِ، فَكَمَا يَقْسِمُ القُطْرُ الدَّائِرَة، وَكَمَا يَفْصِلُ الصِّرَاطُ بَينَ النَّعِيم وَالجَحِيمِ، فَكَذَلِكَ تُمَيِّزُ الإِنْسَانِيَّةُ بَينَ الإِنْسَانِ وَشَبِيهِهِ؛ بَينَ الرَّحْمَةِ وَالتَّوَحُّشِ. وَذَلِكَ هُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، عَلَى مَا رُوِيَ: ((الصُّورَةُ الإِنْسَانِيَّةُ هِيَ أَكْبَرُ حُجَجِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ..وَهِيَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ إِلَى كُلِّ خَيرٍ، وَالجِسْرُ المَمْدُودُ بَينَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ..)).9
فَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى إِنْسَانِيَّتِهِ كَانَ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْهَا فَقَدْ زَلَّتْ بِهِ قَدَمُهُ، فَإِمَّا العُلُوُّ إِلَى الإِنْسَانِيَّةِ، وَإِمَّا الانْحِدَارُ عَنْهَا. فَذَلِكَ خَطُّ الرَّشَادِ وَطَرِيقُ السَّدَادِ، مَنْ عَدَاهُ ضَيَّعَ الهَدَفَ، وَضَلَّ القَصْدَ، وَمَنْ سَلَكَ إِلَيهِ غَيرَ طَرِيقِ الإِنْسَانِيَّةِ، فَقَدْ طَلَبَ المَاءَ مِنْ غَيرِ مَنْبَعِهِ، وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ مُحَمّد حَسن شَعْبَان:
فَإِنَّمَا تُبْلَغُ الإِنْسَانِيَّةُ بِالأَخْلاقِ، وَلا فَرْقَ بَينَ مَنْ تَكَلَّفَ الصِّرَاطَ فِي غَيرِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَبَينَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ سَلَكَهُ فَانْحَرَفَ عَنْهُ بِتَشَدُّدِهِ؛ وَمِنْهُ قَولُ الشّيخ سُلَيمان أَحْمَد:
إِنَّهَا وَلايَةٌ لُغَتُهَا الإِنْسَانِيَّةُ التّي كَرَّمَهَا اللهُ بِقَولِهِ: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴿٧٠﴾ .[ سورة الإسراء]. وَلِذَلِكَ فَهِيَ لُغَةُ التَّوَاصُلِ بِقَولِ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلِيٍّ : ((وَاعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللهِ المُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ، يَصُونُونَ مَصُونَهُ، وَيُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ، يَتَوَاصَلُونَ بِالوَلايَةِ، وَيَتَلاقَونَ بِالمَحَبَّةِ، وَيَتَسَاقَونَ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ، وَيَصْدُرُونَ بِرِيَّةٍ، لا تَشُوبُهُمُ الرِّيبَةُ، وَلا تُسْرِعُ فِيهِمُ الغِيْبَةُ، عَلَى ذَلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُم وَأَخْلاقَهُم، فَعَلَيهِ يَتَحَابُّونَ، وَبِهِ يَتَوَاصَلُونَ، فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ البَذْرِ يُنْتَقَى، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُلْقَى..))12
وَإِلَى قَولِهِ: (( يَتَوَاصَلُونَ بِالوَلايَةِ )) لَمَّحَ الشَّيخ مُحَمَّد حَمْدان الخَيِّر:
وَمِنْ هَذِهِ الوَلايَةِ تَفَرَّعَتْ كُلُّ طَاعَةٍ، فَكَانَتِ الأَصْلَ فِي كُلِّ وَلاءٍ، فَكُلُّ مَا اتَّصَلَ بِالإِنْسَانِيَّةِ كَانَ طَرِيقًا إِلَى هَذِهِ الوَلايَةِ الإِلَهِيَّةِ، وَكُلُّ مَا انْقَطَعَ عَنْهَا كَانَ طَرِيقًا إِلَى وَلايَةِ الشَّيطَانِ، فَعَنْ وَلايَةِ اللهِ، كَانَتْ وَلايَةُ نَبِيِّهِ وَعَنْ وَلايَةِ نَبِيِّهِ كَانَتْ وَلايَةُ أَهْلِ بيتِهِ طَرِيقًا إِلَى وَلايَةِ اللهِ، وَلِذَلِكَ تُعْرَفُ بِالأَخْلاقِ أَينَمَا ذُكِرَتْ، وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ حُسين سَعّود:
وَهِيَ وَلايَةٌ تُعْرَفُ بِالأَخْلاقِ وَالسُّلُوكِ، لا بِالأَسْمَاءِ وَالأَنْسَابِ، وَلِذَلِكَ نَبَّهَ أَعْلامُ هَذَا الفِكْرِ عَلَى أَنَّ المِعْيَارَ فِي وَلايَةِ أَهْلِ البَيتِ هُوَ العَمَلُ الصَّالِحُ، وَبِهِ يُقَوَّمُ الوَلاءُ، أَخْذًا بِقَولِ الإِمَامِ البَاقِرِ : (( إِنَّا لا نُغْنِي عَنْكُم مِنَ اللهِ شَيئًا إِلاَّ بِالوَرَعِ، وَإِنَّ وَلايَتَنَا لا تُدْرَكُ إِلاَّ بِالعَمَلِ..)).14
فَمَنْ سَلَكَهَا وَجَبَ أَنْ يَتَمَيَّزَ بِأَخْلاقِهِ؛ وَلِذَلِكَ وَصَفَهَا بِالطَّرِيقِ إِلَى الجَنَّةِ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيفِيَّةَ سُلُوكِ المُوَالِي بِقَولِهِ:
وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ مُحَمَّد حَمْدان الخَيِّرِ:
وَعَلَى هَذَا، فَالوَلايَةِ وَاحِدَةٌ، لا يَتَغَيَّرُ المُرَادُ بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ التّعْبِيرُ عَنْهَا بِالإِسْلامِ أَم بِالمَذْهَبِ، وَلا يَتَبَدَّلُ مَعْنَاهَا إِذَا أَوهَمَتِ الأَلْفَاظُ شَيئًا مِنْ هَذَا القَبِيلِ، إِنَّمَا تَخْتَلِفُ الأَلْفَاظُ فِي كُلِّ عِبَارَةٍ لِمُرَاعَاةِ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا فِي كُلِّ مَوضِعٍ، وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ سُلُوكٌ أَخْلاقِيٌّ إِلَى اللهِ ، وَلِذَلِكَ تُوصَفُ بِالطَّرِيقِ إِلَيهِ، وَعَلامَتُهَا الاسْتِقَامَةُ، وَأَدَاتُهَا العَمَلُ الصَّالِحُ، وَشَتَّانَ بَينَ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ وَبَينَ الطَّرِيقِ المُعْوَجِّ، فَلِكُلِّ سَالِكٍ صِفَةُ طَرِيقِهِ.
إِنَّهَا وَلايَةُ الفِطْرَةِ مِنَ الخَلْقِ إِلَى القِيَامَةِ، وَلايَةٌ كُلَّمَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا جَدَّدَ آثَارَهَا، وَأَحْيَا سُنَنَهَا، وَبِهَا كَانَ خَاتَمُ النَّبِيّينَ مُذَكِّرًا.
قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴿٢١﴾ [ سورة الغاشية]. وَفِي التَّذْكِيرِ، قَولُ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ: (( فَبَعَثَ فِيهِم رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيهِم أَنْبِيَاءَهُ؛ لِيَسْتَأْدُوهُم مِيْثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُم مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيهِم بِالتّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُم دَفَائِنَ العُقُولِ.))16 .
يُتبع.................
- 1أصول الكافي 2/ 343، بحار الأنوار مج29/445، 470.
- 2في رثاء الشيخ محمود سليمان الخطيب.
- 3كتاب الإمام الشَّيخ سليمان أحمد ص 161.
- 4ديوان الشاعر الشيخ محمّد حمدان الخيّر 2/145.
- 5كتاب الإمام الشَّيخ سليمان أحمد ص 129.
- 6ديوان ابن الرومي 2/492.
- 7أَدَبُ الطَّفِّ 3/63.
- 8نفحات العرفان ص 184.
- 9تفسير الصافي1/86، مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة 5/ 485، شرح الأسماء للسبزواري ص 67.
- 10نفحات العرفان ص94.
- 11كتاب الإِمَامُ الشَّيْخُ سُلَيْمَان الأَحْمَد ص 186.
- 12شرح نهج البلاغة 6/45، (207) مِنْ خُطْبَةٍ لَهُ فِي صِفَةِ الرَّسُولِ وَالعُلَمَاءِ.
- 13ديوان الشَّاعر الشيخ محمّد حمدان الخَيِّر 2/149.
- 14بحار الأنوار مج 31/240. كتاب الروضة، باب وصايا الباقر، حديث 40.
- 15ديوان الشَّاعر الشيخ محمّد حمدان الخَيِّر 2/86.
- 16شرح نهج البلاغة 1/91 (1) من خُطْبَةٍ لَهُ يَذكر فِيها ابتداء خَلق السَّمَاء وَالأرض.
- 208 views