الجُمُعَة 12 حزيران

أُضيف بتاريخ الخميس, 30/06/2016 - 15:36
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 12\ حزيران \ 2015.
الخُطْبَةُ الأُوْلَى: فضل شهر شعبان وقد أصبحنا في آخر آيامه، وإقبال شهر رمضان، والدعاء بما دعاء أهل البيت والأولياء.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: إصلاح السريرة، وعنوانها حسن السيرة، فمن حسن عمله كان ذلك دليلا على صلاح سريرته.

   الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
في هذا الشهر الذي يكادُ أن يُفارقُنا أو نُفارقُهُ ولا نَدري أَفي عِلمِ اللهِ عز وجل وفيما لنا ممّا قَسَمَ من الحياة أن نُدرِكَ شهراً مِثلَهُ أو نُدرِكَ هذا الشهر في عامنا المُقبِل.
شهرُ شعبان شهر رسول الله  الذي نَسَبَهُ إلى نفسه فقال في صِفتِهِ: (شَعبانُ شهري فرَحِمَ اللهُ مَن أعانني على شَهري).

هو الشهر الذي نسبَهُ  إلى نفسه ودعا أن يرحَمَ الله عز وجل من أعانه فيه على هذا الشهر، من أعانه عليه بطاعته وبإحياءِ سُنّتِهِ، وبالإقتِداءِ به.

هو الشهر الذي كان لثلاثٍ خَلَوْنَ مِنه، كانت وِلادَةُ سيّدِ الشُّهداء الإمام الحُسين ، وهو الشهر الذي في النُّصفِ منه كانت وِلادَةُ الإمام المَهديّ ، كانت وِلادَةُ الحُجَّةِ المُنتَظَر الذي نسألُ اللهَ عزّ وجلّ أن يُعَجِّلَ فَرَجَ المؤمنين به.

في هذا الشهر المُباركِ الكريم العظيم كغيره من الشّهور، فيه من الحُقوق ومن الفُروضِ ومن النّوافِلِ ومن السُنَن ومِن الواجِب ما يجبُ أن ينظُرَ كُلُّ مَن أدرَكَهُ فيه كيفَ صَحِبَ هذا الشهر وصاحَبَه، هل استعانَ بالله عز وجلّ وقد دخلَ هذا الشهر وقد أقبَل، ثم أهوَ في أيّام هذا الشهر ممّن يُكثِرُ الصَّدَقَةَ والإستِغفار، فإنَّ أفضَلَ أعمالِ المُسلِم في هذا الشهر أن يتصدّقَ وأن يستغفر.

وقد قيل في مجلس الإمام الصادق  إذ سُئِلَ عن صَومِ شَهرِ رَجَب؟ فقال: أينَ أنتُم مِن صَومِ شهر شَعبان؟ حتّى سُئِلَ عن أفضَلِ الأعمالِ فيه؟ فقال: الصَّدَقَةُ والإستغفار، فإنَّ اللهَ عز وجل ليُرَبّي الصدقة فيه كما يُرَبِّي أحَدُكُم فَصيلَهُ حتّى يُوافِيَ إذا وافى يومَ القِيامَة صار كبيراً مِثلَ جبلِ أُحُد.

الصدقةُ في هذا الشهر يُربيها ويُرَبِّيها الله عز وجل كما يُرَبِّي أحَدُنا فَصيلهُ، إذا تصدّقَ واستغفر اللهَ عز وجل، وجَدَ ثواب الصدقة في هذا الشهر، والإستغفار فيه يوم القيامة كأنّها جبَلُ أُحُد على ما هُوَ مِن ضخامَةٍ ومِن عِظَم، يكادُ يكون ثواب هذه الصَّدَقة كهذا الجبل.

في هذا الشهر الذي هو شهر رسول الله  وقد أشرفنا على مُفارقتِهِ، لينظُر كُلٌّ منّا فيما كان منه في هذا الشهر، وليعلم أنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل له في هذا الشهر من الفضائل وجعل له من الأعمال ما يوصِلُهُ إلى رِضاه وإلى رحمته، وما أوجَبَ له به جنّتهُ بصومِ يومٍ واحدٍ من هذا الشهر، كان في أوّلِهِ أم في وسطِهِ أم في آخِرِه.

هذا الشهر الذي جعل اللهُ سبحانه وتعالى فيه سبيلاً لمن أراد الجنّة، وسبيلاً لمن أرادَ أن يُكَفِّرَ عن مَعصِيَةٍ أو عن خطأ، إنّهُ إذا صام يوماً منه كان له واقِيَةً من الزَلل، وَقّاهُ من كُلّ زلّة ووَصمَةٍ وبادِرَة، على ما جاء في تفسير الإمام الباقر  من اليمين في المعصية ومن اليمين في الغضب، وإنَّ صومَ يومٍ من هذا الشهر يُكَفِّرُ عنه يمينَ الغضب ويمين المعصية.

وهو الشهر الذي كانت فيه وِلادة الإمام الحُسين ، وأين نحن من مَنهَجِ الإمام الحًسين الذي خَرَجَ طلبَ الإصلاح في أُمّة جَدِّهِ محمد  والذي كان منه ما كان ممّا هو مشهور ومعلوم.

وأين نحن من سُنّة رسول الله ، من سُنّتِهِ التي أوصى فيها بألّا يُطاعَ الشّيطان، لأنّهُ يئِسَ أن يُعبَدَ في أرضِكُم هذه، ولكنّه رَضِيَ بأن يُطاعَ فيما سِوى ذلك مِمّا تُحَقِّرون من أعمالِكُم.

في شهر رسول الله  أوّلُ ما يجبُ على المُسلم الذي يرجو شفاعة رسول الله إذا أذِنَ الله عز وجل أن ينظُرَ في قوله أنّ (مَن صامَ يوماً من هذا الشّهر وَجَبَت له الجَنّة، وأنَّ من صام فيه وَجَبَت له شفاعتي) صومُ يومٍ يمنحُكَ شفاعةَ رسول الله  إذا أذِنَ اللهُ عز وجل، فإنّهُ لا يشفعُ عند اللهِ أحدٌ إلا بإذنِه.

في شهرٍ عظيمٍ مِثلِ هذا الشهر نُفارِقُهُ لنستقبِلَ شهر القُرآن، وشَهر الرّحمة، وشَهرَ السلام، وشهر الكرامة، الشهر الذي نُدعى فيه إلى ضِيافةِ الله عز وجل، إلى شهر الله عز وجل، إلى شهر رمضان، فلنقُل كما عُلِّمنا في الأدعيةِ وما عُلِّمنا أن نقول:
(اللهم إن لم تكُن غَفَرتَ لنا فيما مَضى مِن شَعبان فاغفر لنا فيما بَقِيَ منه، واجعلنا أهلاً لاستقبالِ شهرِكَ المُبارَكِ الكريم)، كما دعا أميرُ المؤمنين عليه السلام، وكما دعا الأئمّةُ مِن وُلْدِهِ، وكما دعا الأولياء والأنبياءُ والصّالحون مع كُلِّ هِلالِ شَهرٍ:
(اللهم هذا هِلالُ شهرٍ وقَد وَرَدَ وأنتَ أعلمُ بِما فيه من الإحسان، فاجعلهُ اللهم هِلالَ بركاتٍ وسَعادات، كآمِنَةِ الأمانِ والغُفرانِ والرِضوان، ماحِيَةِ الأخطار في الأحيانِ والأزمان، حاميةٍ من أذى أهل العِصيانِ والبُهتان).

في كُلّ هِلالِ شهرٍ نستقبِلُهُ، وفي هِلال هذا الشهر الذي سنستقبِلُهُ وفي هذا الشهر الذي نُفارِقُهُ ونُوَدِّعُه، ونسألُ الله عز وجل أن يجعَلَنا ممّن أحسَنَ صُحبَتَهُ وأَدَّى حَقَّ اللهِ سبحانه وتعالى فيه، وفي غيره.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وشرّفنا بامتثال مراسِمِه، وإحياءِ مَواسِمِه، وألحقنا بمكارمه ومَرَاحِمِه، وطهّرنا فيه تطهيراً نَصْلُحُ به للدخول في شهر رمضان ظافرين بأفضل ما ظفر به أحدٌ من أهل الإسلام و الإيمان برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنّا لك نسأل، اللهم إنّا إليك نتوسّل، اللهم إنّا إليك نبتهل، اللهم إنّا إليك نَرْغَب، أن تُصَلِّيَ على محمد وآل محمد وأن تجعَلَنا ممّن يُديمُ ذِكرَك، ولا يَغْفَلُ عن شُكرِك، ولا ينقُضُ عَهْدَكَ ولا يستخِفُّ بأمرِك.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، اللهم إنّ هذا الشهر المُبارك الكريم الذي أنزلت فيه القُرآن وجعلتَهُ هُدى للناس وبيّناتٍ منَ الهُدى والفُرقان، قد حَضَر، هذا شهرٌ قد أقبَلَ وقد حَضَرَ وسَلِّمنا فيه، وسلِّمهُ مِنَّا وسلِّمهُ لنا وتَسَلَّمهُ مِنّا في يُسرٍ مِنكَ وعافِيَةٍ، يا مَن أَخَذَ القليلَ وشَكَرَهُ، ويا مَن سَتَر على الكثير وغَفَرَهُ، اغفر لنا الكثير مِن مَعاصيك، واقبل مِنَّا اليَسيرَ مِن طاعَتِكَ، يا مَن عفى عنّا وعمّا خَلَوْنا بِهِ من السيّئات ولَم يُؤاخِذنا بارتكاب المَعاصي، عفوَك اللهم عَفوَك.

اللهم إنّا نسألُكَ أن تجعل لنا سبيلاً إلى كُلِّ خير، وأن تُغلِقَ عنّا كُلَّ ما يمنَعُ عنّا مِن رِضاك، ومِن طاعتِكَ يا أرحَمَ الراحمين.

اللهم إنّا نتوجّهُ إليك وقد جعلنا الوَسيلةَ إليك أنّنا أقررنا بذُنُوبِنا، فلا تَصرِف وَجهَكَ عَنَّا يا أَرحَمَ الرّاحمين.

اللهم اجعلنا من صالحي خلقِكَ في العَمَل وفي الأمَلِ وفي القَضاء وفي القَدَرْ.

اللهم أبقِنَا خَيْرَ البَقاء، وأفنِنا خَيرَ الفَناء، يا أرحَمَ الراحمين.

اللهم لا تفضحنا يومَ العَرض عليك، واستُر ما أسلفنا مِن ذُنُوبِنا ومِن مَعاصينا ومِن سَيِّئاتِنا، ومَهِّد لنا السبيلَ إلى الخَير، ويَسِّر لنا الطريق إلى الخير، واجعل سَعينا في خَيرٍ، ومُنقَلَبَنا إلى خَير، يا ربَّ العالمين.

اللهم إنّا عِبَادُكَ الضُّعفاء المُنيبون إليك، المَملوكون لَك، إنّنا عِبادُكَ وأبناءُ عِبادِكَ وإمائك الضعفاءُ الفُقراءُ إليك وإلى رحمتك، فصلِّ على محمد وآل محمد.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد صلاةً ترحمُنا بها.
وصلّ على محمد وآل محمد صلاةً ترضى بِها عَنّا.
وصلّ على محمد وآل محمد صلاةً تغفِرُ بها ذُنُوبنا.
وصلّ على محمد وآل محمد صلاةً تَمحو بها سَيِّئاتِنا.
وصلّ على محمد وآل محمد صلاةً تجعَلُنا بها من رُفَقاءِ محمد وآل محمد.

يا مَن أنتَ اللهُ لا إله إلاّ أنت، إنّا نتوسّلُ إليك بلا إله إلا أنت أن تُصلِّ على محمد وآل محمد، وأن ترحَمَنا يا رب العالمين رحمةً لا نحتاجُ بعدها إلى رحمةِ غيرِك، إنّك تعلمُ ما لا يعلمُهُ العِباد، وإنَّ العِبادَ لا يعلمون ما تعلم، ولا يَقدِرُونَ ما تَقدِر، فاغفِر لنا إِسْرافَنا في أمرِنا، وثَبِّتْ أقدامَنا وانصُرنا على القوم الكافرين.

عِبادَ الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ النحل90.



  الخُطْبَةِ الآخِرَة:

لكُلِّ شيءٍ عُنوانٌ يُعرفُ به، وعُنوانُ صلاحِ سريرَةِ الإنسان هو صَلاحُ أعمالِهِ، صَلاحُ ظَواهِرِهِ، الذي صَلُحَتْ سريرَتُهُ رأيتَ أعمالَهُ صالحةً لأنَّ (صِحَّةَ الضّمائر هي عُنوانُ صِحَّةِ البَصائر) ولأنّ (الضمائِرَ الصِّحاح أَقوى وأَفصَحُ حُجَّةً من الألسِنَةِ الفِصاح) على ما جاء من كلام أمير المؤمنين عليّ بنِ أبي طالب عليه السلام.

الذي يُصلِحُ سريرتَه تَصلُحُ علانيّتَهُ (مَن أصلَحَ سريرَتَهُ أصلَحَ اللهُ عَلانِيَّتَهُ).

والذي يَظهَرُ مِن عَمَلِهِ شيءٌ من الخَير فإنَّ هذا دليلٌ على صَلاحِ سَريرَتِه، والذي يَظهَر مِن عَمَلِهِ شيءٌ من الشَّر فهذا دليلٌ على فَسادِ سريرته، وكَفى بالعَمَلِ دليلاً، وكَفى بالعَمَلِ فاصِلاً، وكفى بالعَمَلِ حُجَّةً يُعْرَفُ بها مَن يُضمِرُ الخير، ويُعْرَفُ بها مَن يُضمِرُ الشّر.

(مَن أصلَحَ سريرَتَهُ أصلَحَ اللهُ عَلانِيَّتَهُ ومن أصلَحَ ما بينَهُ وبين الله أصلَحَ اللهُ ما بينه وبين النّاس، ومَن عَمِلَ لدينِه كَفاهُ الله أمرَ دُنياه).

الدّليلُ على سَريرَةِ المَرء عَمَلُهُ، والدليلُ على صَلاحِ باطِنِهِ هو صَلاحُ ظاهِرِه، كما يُستَدَلُّ على الشجرةِ المُثمِرَة، وكما يُعرَفُ الثمر إّذا كان حُلوًا وإذا كان على غير ذلك. من هذا قول أمير المؤمنين عليّ بنِ أبي طالب عليه السلام (ألا وإنَّ لِكُلِّ باطنٍ ظاهراً على مِثالِه، وإنَّ لِكُلِّ ظاهرٍ أيضاً باطناً على مِثالِه، فما طاب ظاهِرُهُ طابَ باطِنُهُ، وما خَبُثَ ظاهِرُهُ خَبُثَ باطِنُهُ. واعلم أنَّ لِكُلّ عمَلٍ نباتاَ، وكل نبات لا غنى به عن الماء ، والمياه مختلفةٌ فما طابَ سَقْيُهُ، طابَ غَرْسُهُ وَحَلَتْ ثَمَرَتُهُ، وما خَبُثَ سَقْيُهُ، خَبُثَ غَرْسُهُ وَأَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ.)

إنّ كلَّ نباتٍ لا غنى به عن الماء ، والمياه مختلفةٌ، فمَن سَقى عَمَلَهُ فزرعَ خيرًا حَصَدَ خيرًا، ومَن زَرَعَ صالحاً حَصَدَ صالحًا، ومَن زَرَعَ عَمَلاً طيّبًا وَجَدَ ثَمَرَةَ عمَلِهِ طيّبَةً مُبارَكَةً، ومَن زرع لغير ذلك وجدَ ثمرةَ عمَلِهِ خبيثةً كالتي زرعها. بهذا ومن هذا كان قولُ السيّد المسيح عليه السلام (مِن ثمارهم تعرفونهم).

(مِن ثمارهم تعرفونهم)، الذي تكونُ أعمالُهُ صالحةً يكونُ عملُهُ دليلاً على أنّهُ يُضمِرُ الخَير، والذي تَكون أعمالُهُ سيّئةً تكون دليلاً على أنّهُ يُضمِرُ الشّر، فإنّهُ لا يُعرفُ بالخير إلاّ مَن فَعَلَ الخير، ولا يُعرفُ بالشرّ إلاّ من فَعَلَ الشّر، اعملوا الخير تكونوا من أهل الخير، ومَن عَمِلَ الشّرَ كان من أهل الشّر.

فـ (مِن ثمارهم تعرفونهم)، لأنَّ كُلَّ إنسانٍ يجني ما زَرَع، وكُلٌّ حاصِد ما أسلَف، إذا سَقى طيّباً حَلَتْ ثَمَرَةُ عمله، وإذا سقى خبيثاً خبُثَ غَرْسُهُ وأَمَرَّت ثمرةُ عمله.

فهذا هو الدليل الذي نعرِفُ به صَلاحَ المَرءِ مِن فَسادِه، ونُمَيِّزُ به خَيرهُ من شرّه، الذي لا يستطيعُ أن يتكلّف فيه ولا أن يتصنّع، لأنَّ عمَلَهُ دالٌ على سَريرَتِه.

مِن هذا ترى مَن لا يخافُ أحداً إلاّ الله، هذا هو الذي قد صَلُحَت سريرتُهُ صلاحاً لا فَسادَ بَعدَه. مَن صَلُحَت سريرتُه لم يخفْ أحداً، الذي تصلُحُ سريرتُهُ والذي يأخُذُ شهادَةَ الضّمائِرِ الصِّحاح ليجعلَهَا خيراً من الألْسُنِ الفِصاح، والذي يستدِلُّ بصَلاحِ الإنسان على صلاح باطِنِهِ وسَريرته ودَخِيلَتِهِ، هو الذي عَرَفَ كيفَ يعرِفُ الناس، وهو الذي يُقَوِّمُ النّاس بما أمَرَ اللهُ به.

وهَل أفلَحَ مَن ظَنَّ أنّهُ إذا أضْمَرَ خِلافَ ما أَظهَر، أو أظهَرَ خِلافَ ما أضمَر، أنّهُ يستطيعُ بفِعْلِهِ هذا أن يُخادِعَ اللهَ عز وجل؟!.. هل يستطيعُ إذا أظهَرَ لَكَ الخَيْر وأخفى عليك الحِقدَ والغِلَّ والغِشَّ والحَسَد، أيكونُ بهذا إن استطاعَ أن يُخادِعَكَ، هل يستطيعُ المُخادِعُ أن يُخادع الله عز وجل.

قولهُ تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} سورة ق.

ما يلفِظُ مِن قولٍ أحَدُنا إلّا واللهُ عز وجل رقيبٌ عليه، ورَقيبٌ على فِعْلِهِ، ورَقِيبٌ على نِيَّتِهِ، ورَقيبٌ على عَمَلِهِ، ورَقيبٌ على سُلُوكِهِ، ورَقيبٌ على ما أضْمَرَ في صَدْرِهِ، ولا يعلَمُ إلّا الله عز وجل {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} غافر\19.

الذي يُصلِحُ عَمَلُهُ يكونُ دليلاً على صَلاحِ سَريرَتِه، والذي يُصلِحُ سريرَتَهُ هو الذي طلبَ جَنَّةَ الله وهو الذي طلبَ رَحمَةَ الله، وهو الذي يستأهِلُ أن يكون من أولياء الله، وإلّا ما النَّفعُ أن تُرضي ظَواهِرُنا الوَرَى، على ما قال الأستاذ الشيخ محمد حسن شعبان رحمه الله:

ما النّفعُ أن تُرضي ظواهِرُنا الوَرَى   والله يُنْكِرُ مِن بَواطِنِنا خَبي
نغْـدو إلى الدُّنيـا ونُسلِمُها إلى يدِ   وارثٍ أو سـارقٍ أو مِحْـرَبِ

وما النَفعُ أن نرفَعَ إنسانًا بأن نُبالِغَ في مَدحِهِ وفي الثّناءِ عليه، وأن نَهجُرَ المِقياسَ في ذلك وهو عَمَلُهُ الصّالِح، الذي نستَدِلُّ به على صلاحِ سريرَتِه، ولأنَّ هذا هو عُنوانُ الصّلاح، عُنوانُ صلاحِ سيرةِ المَرء صَلاحُ عَمَلِه، هو الدّليلُ على صَلاحِ سَريرَتِه، وعلى صَلاحِ ما في قَلبِه، إذا قُلتَ فيه ما ليس فيه فتذكّر أنَّ (سيرَةَ المَرء تُنبِئُ عن سَريرَتِه)، وما الذي زادَ في مدح أحد، وما الذي نَقُصَ مِن مَدحِ أحَد، ما كان ليَرْفَعَ عِندَ اللهِ قَدْرَهُ، وما كانَ ذَنْبُهُ ليَذْهَبَ بمكانَتِهِ عند الله إذا كانت سريرًتُهُ صالحةً منَ الغِشِّ ومِنَ الرِّياء.

يقول العلّامةُ الشيخ سُليمان الأحمد رحمه الله:

لقد أطلتُـم على زَيـدٍ ثنـاءكُـمُ   والمرءُ يرفعُ منه مَدحُ جيرتِهِ
دعوا المُغالاة إن صِدقاً وإن كذِباً   فسيرةُ المرء تُنبي عن سريرتِهِ

والذي يُوَجِّهُ عقلَهُ الرَّأيُ الصحيح يُعرَف بعَمَلِه، كما تُعرَفُ الشجرةُ بثِمارِها، كما تكون الثِمارُ على الأغصان كذلك يظهرُ العمل الصالح على سيرة الرجُلِ الذي صارَتْ سَريرَتُهُ صالحةً.

بهذا كان الأولياءُ إذا مَدَحوا مَن رَأوْ عَمَلَهُ صالحاً وَصَفوهُ بِحُسنِ السَّريرَة التي أخرَجَتْ للناس وبَيَّنَت حُسنَ السِّيرَة.

يقول الشيخ عبد اللطيف إبراهيم رحمه الله وهو يمدَحُ رجُلاً من أولياءِ الله عز وجل بِنَقاءِ السّريرة:

لَهُ مِن عقلِهِ مَلَكٌ رَشيدُ   يُصَرِّفُ نفسـهُ فيما يُريدُ
وَأفعـالٌ مُهَـذَّبَـةٌ شُهـودُ   بِمَا يختارُهُ الرّأيُ السَّديدُ

كَمَا تشهدُ الثِّمارِ على الغُصونِ يشهدُ العَمَلُ الصّالح على صلاحِ السّريرة وعلى صَلاحِ النِّيَّة.
وبهذا إذا أصلحَ الإنسان ما بينَهُ وبين الله أصلَحُ اللهُ ما بينه وبين النّاس.

والذي يُريدُ أن لا يَخَافَ أحداً إلاّ الله فليُصلِح سَريرَتَه.

والذي يُريد أن لا يَجزَعَ يومَ العَرضِ على الله فليُصلِح سَريرَتَه، أن لا يُضمِرَ على أحَدٍ سوءاً ولا يُضمر على أحَدٍ شَرَّا، ولا يُضمر على أحَدٍ شيئاً من الأذى، وليكُن إذا أرادَ أن يُكْفى أمرَ دُنياه مَشغولاً بأمرِ دينه، فإنّهُ مَن اهتَّمَّ بأمرِ دينِهِ كَفاهُ اللهُ أمرَ دُنياه، ومَن أرادَ أن لا يقعَ بينهُ وبينَ غيرِهِ خِصام فليُصلِح سريرَته فيما بينه وبين الله ليَجِدَ تصديق قول أمير المؤمنين عليه السلام (ومن أصلَحَ ما بينَهُ وبين الله أصلَحَ اللهُ ما بينه وبين النّاس).

الذي يُريدُ أن يجتنبَ أن يُخاصِمَهُ أحَد فليُصلِح سَريرَتَه، فإنّهُ وإن لم يُظهِر عملاً يُؤذي به غيره، فإنَّ اللهَ عز وجل يُلقي في كثيرٍ من القلوب ما كان يُضمِرُهُ عليها غيرُها.

والذي يعقِلُ والذي يتأمّل والذي يتدبّر يعلمُ أنّهُ إذا وقع سوء الظنّ، كان من أحدٍ كان سوء الظن سابقاً ممّن وَقَعَ منه، وهذا إذا أرادَ أن لا يُلقِيَ تَبِعَةَ خطئه وذَنْبِهِ على غيره وأن يحمِلَ مسؤولية عمله.

يقول العلّامة الشيخ سُليمان أحمد رحمة الله تعالى ورِضوانُهُ عليه:

الذنبُ ذنبي ومِنّي ما مُنِيتُ به   تشنيعُ جاري أو العِصيانُ من وَلَدي
إذا امرؤٌ سـاء بي ظَنّـاً ففِعْلتُهُ   كانت لسيّءِ ظَـنٍّ دارتْ في خَـلَـدي

نسألُ الله عز وجل أن يُعيننا وإيّاكُم على إصلاحِ سرائِرنا، وعلى إصلاحِ أعمالنا، وعلى الرّجوعِ إليه من كُلِّ ذَلَّةٍ مُستغفرين، ومن كُلّ خطيئةٍ نادمين وتائبين وعازمين على أن لا نرجعَ في معصيةٍ أبدا.

ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكُم إلى ما يُحب ويرضى، وأن يجعل حاجزاً بيننا وبين معصيتِه، وأن يجعلنا من الذين عَرَفوا نِعمَةَ حَمْدِهِ فحَمدوهُ وشَكَروه، وهو أهلٌ للحَمْدِ وللشُكر، وهو أهلٌ للتقوى وللمغفرة.

عِبادَ الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} النحل\90.