خُطبة في عيد المولد النبوي الشريف للشيخ محمود الصالح رحمه الله تعالى

أُضيف بتاريخ الخميس, 01/01/2015 - 02:01

ننقل لكم خُطبة الجمعة هذه وهي بناسبة المولد النّبوي الشريف، من كتاب (النبأ اليقين عن العلويين) الطبعة الثالثة سنة 1997م، وهو لفضيلة الشيخ محمود الصالح رحمة الله تعالى ورِضوانه عليه.  

الحمد لله والحمد حقّه كما يستحقه حمداً كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له خلقَ كُلّ شيءٍ فقدّرهُ تقديرًا، وأشهدُ أنّ محمّدًا عبده ورسوله أرسله كافةً للناس بشيرًا ونذيرًا، صلى الله عليه وآله، أئمة العصمة وباب حطّة هذه الأمة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا، وسلام الله ورحمته عليكم أيها الإخوة الكرام مُجتمعين ومُستمعين.

  أمّا بعد

فإنّ العالم الإسلامي يعيش أيامه هذه ذكرى لا كمثلها الذكريات خلودًا وعظمةً، ذكرى انبعاث النور وإشراقة الضياء على هذا العالم الكوني، ذكرى مولد الهُدى والرحمة في النوع الإنساني، ذكرى كريمة عظيمة، تشهدها العقول نورًا وضياء، وتحياها النفوس عزّةً وإباء، وتعيشها القلوب محبةً وإخاء، وتستنشقها الأنفس عِطرًا وشذاء.

ذكرى مولد عظيمٍ ما عرف ولن يعرف الجنس البشريّ في عُظماء أبنائه مثيلاً له، ولا هَبّ على عالم الكون والحدوث نسيمُ عرفٍ طيّبٍ يعدُلُ شذا عِطر ذكراه الطيبة، ولا قرعَ مسمع الأجيال جرس ما عذبت نغمه وطابت كَلِمُهُ يُوازي لحن ما جاء به آياتٌ بيّناتٌ، ولا تفتّحت عينا الحياة على مثل نور هَديه، ولا حفظ التاريخ الإنسانيُّ لعظيمٍ من عُظمائه ما حفظ له من خصائص العظمة ومزايا الكمال.

ذكرى مولد عظيمٍ يوم مولده أشرقت الأرض بنور ربّها، وتطلّع الوجود ليُبصر فيه إنسانٌ عينه وانبسطت أسارير وجه الخلود أن رأى سرّه يتمثّل فيه بشرًا سويًا، وانطلقت كلمة الله العُليا تجوب آفاق الأرض والسماء مُبشّرةً ومُنذرةً:  وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [سورة الإسراء \ 81].

ذكرى مولد عظيمٍ لا تبلغ الألفاظ معنى وصفِهِ، ولا تقدر الكلمات أن تُقدّره حق قدره، ومَبلغ ما يُقال فيه إنّه إنسان عين الوجود والمَثَلُ الأعلى لللإنسانية الصحيحة الحقة، والطراز الأمثل الأوحَد في الجِبِلّة البشرية الطيّبة، هذا العظيم هو الرسول العظيم مُحمّد بن عبد الله .

جاء ابن عبد الله والناس صرعى حراب جهالتهم وغرقى بحور ضلالتهم تعصف بهم هوج رياح العصبية، وتلفهم بملاءتها القاتمة ظلمات الجاهلية، وتُدنّسهم بخبائثها آثام الوثنية، تستبدّ بهم نزعات أهوائهم، وتستذلّهم شهوات غرائزهم، وتتحكم بعقولهم نزواتت عواطفهم، لا يتناهَونَ عن مُنكرٍ فعلوه ولا يتحرّجون من جُرمٍ اقترفوه، القوي فيهم مَهيب والضعيف فيهم مَهين. تسود شريعة الغاب مُجتمعهم، يستبدّ قويّهم بضعيفهم ويستعبد عزيزهم ذليلهم ويمتهن غنيّهم فقيرهم، لا حُكم فيهم إلاّ للقوّة ولا قيمة فيهم إلاّ للمادّة.

جاء ابن عبد الله، والناس على شفا حفرةٍ من النار فأنقذهم منها، أبدلهم بجهالتهم الطخياء علمًا وحِكمةً، وبضلالتهم العمياء نورًا وهُدى، وبعصبيتهم الخرقاء محبةً وسلامًا، وبوثنيتهم الحمقاء إسلامًا وإيمانًا، وبتميّزهم الطبقي عدالةً ومساواةً، جنح بهم من عباب الغرق والهلاك إلى شاطئ السلامة والأمن، وأضاء دياجير عقولهم بأنوار مصابيح تعاليمه، وصعَدَ بهم مَدارج السموّ والسيادة على سبيل مبادئه.

جاء ابن عبد الله والناس -إلاّ أقلّهم- ذئابٌ على أجسادهنّ ثياب، تغلب الوحشية على طباعهم، ويسترقّهم رخيص شهواتهم، وتنحدر بهم إلى المهاوي السحيقة دنايا رغائبهم فنَقَلهم من قسوة الطبع الوَحشيّ إلى رقّة الخُلق الإنسانيّ، وعَدَل بهم عن طُغيان أنانية الجاهلية إلى عدالة الشريعة الإسلامية، وعلا بهم من وِهاد الضِعَةِ والمَهانةِ إلى نَجاد العزّة والكرامة.

جاء ابن عبد الله نبيّ الهُدى ورسول الرحمة، مُصدّقًا مَن قَبلَهُ من الرُّسُل ومُتمّمًا للناس ما انحلّوا منه أو تخلّوا عنه من مَكارم الأخلاق، ومُكمّلاً لهم ما نقصهم من قوانين تشريع وأنظمة اجتماع، وضع لهم القوانين الكافية وشرع لهم الأنظمة المُكتملة، وخَلّف فيهم ثقليه مَنجاةً من الهَلَكَة ومأمناً من الضلالة، وأبقى فيهم من هُدى سُنّته العادلة ما يَكفَلُ لهم إسعاد حياتيهم العاجلة والآجلة، ويضمن لهم استمرار بقاء نوعهم الإنساني ما علموه وعملوا به.


أيّها الأحبّة:

لا أبلغُ وصفًا ولا أحسنُ قولاً ولا أصدقُ في الدلالة على الغاية من بَعْثِ مُحمّد والغرض في إرساله من قول الله تعالى له وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء \ 107] .

لقد أرسله ربُّهُ رحمةً للناس كافّةً، ليأخُذَ بيدهم إلى الهُدى، وبقلوبهم إلى الرُّشد، وبنفوسهم إلى الحُب، وبعقولهم إلى التفكير في خَلق السماوات والأرض وما بينهما.

إنّ رسالة محمد رحمةٌ للناس كُلّهم، والمبادئ التي جاء بها مُحمّد شاملةٌ معاني الحياة بأكملها، تُنظّمها وتُنسّقها، وترقى بسالكيها إلى الكَمال المُمكن للنفس الإنسانية أن تبلُغُه.

وعبادات الإسلام كُلّها مُجتمعةٌ ومُنفردةٌ ترمي إلى غرضٍ واحدٍ هو -ولا رَيب- مصلحة بني الإنسان. يتجلّى ذلك واضحًا بتنظيم علاقتهم بربّهم وعلاقة بعضهم ببعض.

وإن أعجب فعجبٌ أمرُ أولئك الذين عَصَفَت بعقولهم رياح النظريات العقيمة فتفرّقت بهم السُبُل، وذرت في عيون قلوبهم اللادينية من غُبار مفاسدها ما حجبهم عن رُؤية ما بين أيديهم فانزلقوا في مهاوي المتاهات، خدعتهم دُنياهم عن نفوسهم وشغلتهم أموالهم وأهلوهم عن ذواتهم، وغرّهم أنّهم في عصرٍ علميٍّ والعلماء غيرهم.

وبحُكم ما هم فيه وعليه من نِعمةٍ أضحوا فيها فاكهين، فقد اجتالتهم شياطين الغرور فصرفتهم عن التبصّر في عواقب أمورهم، واستحوذ عليهم الإعجاب، والإعجاب آفة الألباب فصدّهم عن سَواء السبيل. نسبوا للدين التخلّف والركود ووصموا أهليه بالجمود والرجعية، ورموهم بأقصى قوارص التُهَم، دون ما دليل يستندون إليه ولا بُرهان يعتمدون عليه إلا الظن الآثم، وهم لو أنصفوا أنفسهم لما أثقلوها بحمل مسؤولية أحكامٍ جائرةٍ أصدروها دون تثبّت وعلى غير أُصول المُحاكمات، ولصرفوا هِممهُم إلى تصريف أمورهم والإهتمام بمهامهم، ولو عادوا إلى عقولهم ونظروا بعيون بصائرهم لرأوا بمرآة الحقيقة أنّ الدين الإسلاميَّ الحنيف واضِعُ أُسس الحضارة والمَدَنيّة وباني صرح العدالة الإجتماعية، ورافع قواعد التقدّم الفِكري والرُّقِيّ الإجتماعي، وباعث اليقظة والتحرّر وناشر راية السلام والمحبة، وحامل لِواء العلم والعمل.

لقد جاء ابن عبد الله بالبينات من ربّه ليُخرج الناس من ظُلُمات الجهل والظُلم إلى نور العلم والعدل، وليُطهّرهم من لَوْثَةِ الإثمِ والشِركِ بماء دينهِ التوحيديّ العَذب الطَّهور.

جاء ابن عبد الله بدينه الحنيف دين الحياة والخلود ليُنظّم الإنسانية تنظيمًا صحيحًا، ويجعل من أينائها مُجتمعًا مُتناسقًا مُتكاملاً تسودُهُ المحبّة، وتسوسه العدالة، وتلفّه مَكارمُ الأخلاق، وترفّ عليه راية الإسلام، وتعلو فيه كلمة الحق، ويملأُ أجواءه نور العلم، وتطيب فيه الحياة، وتنتظم فيه المعايش، وتستقيم فيه الأمور، وتُرعى فيه المَصالح، وتُصان فيه الحقوق، وتُحفظ فيه الكَرامات.

وكأنّي بقائلٍ إنّ دعوى التقدميّة في الإسلام تفتقر إلى دليل، وإلى أولئك الذين ظلموا أنفسهم بتقوّلهم على الدين وأهله -بما يعلم الله غيره- إلى أولئك الذين يهرفون بما لا يعرفون ويحكمون بما لا يعلمون، بعض البَيّنات -وما أكثرها- على إثبات وضع الدين أُسس التقدّمية وثبوت أهليته لقيادة المُجتمع الإنسانيّ.

أليس من دلالات التقدميّة في مدنيّة اليوم وقد بلغت أوجَها الحضاري أن قضت بتفرّغ أبنائها من أعمالهم الدائبة يوماً واحداً في الأسبوع للراحة والإستجمام، يَخلون فيه لأنفسهم ويَخلصون فيه إلى مُحبّباتهم، يقضيه كُلٌّ منهم بما تُمليه عليه رغائبُه؟ وما من شكٍ في أنّ هذا من التقدميّة.

ثم أليس من دلالات المدنية والحضارة أنّ كل منتدى سياسي أو مجلس نيابي أو مؤسسة أو جمعية أو ما إلى ذلك، لا بُدّ له في كُلّ فترةٍ زمنيّةٍ يُقرّرها نظامه الداخلي من أن يجتمع أعضاؤه اجتماعًا دوريًا أو استثنائيًا، مُوَسّعًا أو ضيّقًا للتشاور والتنسيق، ولتبليغ أعضائه ما تُصدره القيادة من قرارات وتوصيات.

وإذا كانت الراحة الأسبوعية وعقد الإجتماعات الدورية من دلالات التقدّم، وهي كذلك، وقد وصلت إليها مَدنيّة اليوم بعد مراحل طويلةٍ من عُمر الزمن اجتازتها، وتجارب قاسية من أطوار الحياة مَرّت بها، فلنُصغِ إلى الدين الذي يُعلن عن وضع أساس هذه الفكرة التقدّمية ويُقرّر انتهاجها قبل أن يهتدي إليها العالم المتمدّن الحاضر، ولنسمعه يهتف بأعضائه وتابعيه لانتهاج هذه المَدَنِيّة ويُبلغهم موعد اجتماعاتهم الدَوريّة بشكلٍ مُنظّم ومُنَسّق لا يَخفى على أحدهم موعد الإجتماع ولا مكانه، وفي الوقت ذاته يُحدّدُ لهم يوم راحتهم الأسبوعية.

تعالوا نستمع وبتدبّرٍ وإمعانٍ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَ‌ٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 9 فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 10 [سورة الجمعة].

بهذا الأسلوب الفني البَديع، وبهذا النداء النَدي الرَوي يستجيش الضمائر ويهزّ أوتار الأحاسيس، وبهذه الصيغة الجميلة التي اشتقّها الله من اسمه المؤمن يُنادي المؤمنين به من على ملكوته الأعلى تكريمًا لهم وتعظيمًا لشأنهم، وبهذا التوجيه السامي يدعوهم إلى اجتماعٍ دوريٍّ مُحدّد الزمان والمكان فيتلاقون فيه ويستمعون إلى مُوَجّه دينيّ يُبلغهُم عن الله ورسوله ما فيه استقامة أمورهم وإصلاح أحوالهم ما حفظوه وعملوا به. وما إن تنتهي ساعة اجتماعهم حتى يُؤذَنَ لهم بالإخلاد إلى الراحةِ من متاعب أعمال الأسبوع فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ، إيذاناً لهم بالإنصراف إلى ما ترتاح إليه نفوسهم ممّأ أحلّ بهم، سواء أقضاها أحدهم في نُزهةٍ مع أُسرته، أو أراح نفسه في بيته، أو اجتمع ببعض أصدقائه أو ما إلى ذلك، وكُل هذا وما هو من قبيله كلّه فهو من فضل الله، فاذكروه تعالى واشكروه.

وإذا كانت صلاة الجُمعة لا تصحّ إلاّ جماعةً فهل هي إلاّ كناية عن اجتماعٍ دَوريٍّ قرّره نظام الدين العادل لتنظيم حياة المُجتمع روحيًا وجسديًا، ولم يُباعد بين الإجتماعات لتبقى الصلة وثيقة بين الناس وربّهم والروابط متينة والأواصر مشدودةً بين بعضهم بعضًا، ولَكَيلا تتسرّب الجفوة إلى قلوب المؤمنين ونفوسهم فيجد التباعد والتباغض إليهم سبيلاً.

أليس في هذا وهو غَيضٌ من فَيضِ ما يُقيم البَيّنَة على تقدميّة الدين وسَبقه إلى وضع أُسس الحضارة والمدنية، ولو أنّ لي في الوقت سِعَةً لأثبتُّ أنّ الدين مَصدر إشعاع للحياة ومُوَلّد ذاتي لطاقتها ومُقَوّماتها، وواضع الخطوط العريضة لأنظمتها وقوانينها، وأنّه صالحٌ لتسديدها وإدارتها في كُل زمان ومكان لا تخلق على المَدى جديّته وإنّما كُلّما اتّسعت آفاق المدارك تبيّنت محاسنه الإجتماعية ومُعطياته الكُبرى لحياة الإنسان واستمرار بقاء نوعه وحماية وجوده وكيانه.


أيّها الأحبّة:

إنّ إحياء ذكرى أي عظيمٍ يعني إحياء سُنّته والجَري على سيرته والإستضاءةُ بنور هَديِه، والإقتداء بجميلِ فِعلِه، وإذ نحن نعيش هذه الذِكرى الطيّبة المباركة فلنستمد من بركة صاحبها ما يُعيننا على مُجادلة عدوّنا وحَلّ عُقَد مشاكل حياتنا ولنتجمّل ببعض حَليّ صفاته.

ومن صفاته الكريمة -وكُلّ صفاته كريمة- أمانته وحِكمَتُهُ. وقد عُرف في قومه منذ نُعُمَةِ أظافره بالأمين، وبهذه الأمانة وما أوتيه من حِكمَة بالغة سادهم يوم أدّى بهم الشجار إلى امتشاق السيوف تنازعًا على نيل شرف وضع الحجر الأسود مكانه أثناء ترميم البيت الحرام، ثم اتفقوا فيما بينهم على الإحتكام إلى أوّل داخلٍ عليهم، وكم كان سرورهم عظيمًا أن رأوا الأمين، وما أن بسطوا له قضيتهم حتى بسط لهم رِداءَهُ الشريف ووضع الحجر الأسود عليه وأمسك كل زعيم بطرف من ردائه وأمرهم أن يرفعوه معاً حتى إذا بَلَغَ الحَجَرُ موضعه تناوله بيديه الشريفتين وأثبته مكانه، وبذلك ساد القوم منذ ذلك اليوم.

ولنستوحِ من صفاته الكريمة -وكُل صفاته كريمة- ما لا بُدّ لنا منه ولا غِنى لنا عنه في مُقارعة أحداث الساعة ودفع غوائل المُتربّصين بنا، لنستوح منه قوّة الإرادة ومَضاء العَزيمة والثبات على المبادئ والصمود لمجابهة الأعداء، ولنجعل نَصبَ أعيُننا موقفه البطولي الصامد أمام مُشكري قريش وأكابر مُجرمي الجزيرة العربية وقد توسّطوا إليه كافله وحاميه عمُّهُ أبا طالب رضوان الله عليه، وقالوا له أبلغ ابن أخيك إذا كان يعترضه ما يُؤذيه داويناه وإذا كان يَبغي مالاً أعطيناه فأغنيناه، وإن كان يُريد المُلكَ أمّرناه علينا فلا نقطعُ أمراُ دونه، على أن يكُفّ عن تسفيه آلهتنا وأحلامنا، وما أن أبلغهُ عمّهُ الرؤوف به الشَفوق عليه مَطالبَ قومه ووساطته بينه وبينهم حتى نظَرَ إلى ذلك العم الرحيم بعينٍ فيها انكسار اليتيم وأُخرى فيها كل معاني الشجاعة والثقة، وبلهجةٍ تفيض بالحزم والعَزم قال له كلمته الخالدة خلود الأجيال والتي تصلحُ أن تُنقش في كُل صدرٍ وينبُضَ بها كُل قلب وأن يكون لها أثرٌ في كُل نفسٍ لتولّد فيها الثبات والإيمان والصبر، تلك اللكلمة التي ارتسمت على صفحات الأبد بأحرف من نور لتُنير السبيل للمُهتدين:

(( واللهِ يا عمّاه لو وضعوا الشمس بيميني، والقمر بيساري على أن أترُك هذا الأمر ما تركتُهُ إلاّ أن يُظهِرَه الله أو أهلِكَ دونه ))

فقال له عمّه الرحيم بكُلّ ثباتِ جأشٍ وصلابةٍ وإيمانٍ :

(( يا ابن أخي اذهب إلى ما أمركَ ربُّكَ فوالله لا أُسلّمك لشيءٍ أبدًا )).


أيُّها الأحبّة:

إنّ لنا في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ فلنستطيء بنور تعاليمه، ولنهتدِ سبيل مَبادئه، ولنستمد من ثباته وصبره صموداً أمام ما تمُرُّ به بلادنا، وقوّةً لقهر المتآمرين على شعبنا وأُمّتنا.

وكم هو فضلُ الله علينا عظيمٌ ورحمتُهُ بنا مُحيطةٌ فهو سُبحانه في ساعة العسرة وفي أشق مرحلة تاريخية تمرّ بها أُمّتنا وبلادنا لم يخلنا من نعمائه ولم يخل بين عدوّنا وبيننا، وإنّما ساق إلينا من كريم مواهبه ما لا يَفي به شُكرُنا، قيّضَ لنا مُخَلِّصًا مُخلصًا وقائدًا مُلهمًا ورائدًا حكيمًا، حمل زندُهُ راية البلاد وقاد ثتقب فِكره خُطى المسيرة وهو الأمين على ما حَمَل، البصيرُ بوجهة ما قاد، يستوحي من الإيمان بالله ورسوله هَديَهُ، ويستمد من حُبّه لوطنه عزيمته وصبره، أكثر همّه أمر أُمّته، وأكثر ما يشغله صَونُ بلاده ورفع مستوى شعبه، اللهم احفظه وصُنهُ ومن معه من العاملين لتوحيد كلمة أُمّتنا وصِيانة أجزاء بلادنا واوطاننا.

يا أبناء الأُمّة هُبّوا لمواكبة المسيرة المُظفّرة، وتخطّوا عقبات الأنانية، وتحلّلوا من عُقَد النفوس الأمّارة بالسوء، تحابّوا في الله، ووحّدوا كلمتكم، واجمعوا أمركم، وأخلصوا لله دينكم ولوطنكم حُبّكم ولإخوانكم مودّتكم. واغرسوا في رياض قلوبكم شجرَ المحبّة، واقلعوا من صدوركم بذور العداوة، ووطّنوا على الإخاء نفوسكم وعلى الإتحاد عزائمكم، ولا تجعلوا أفئدتكم هواءً تصرفها أهواءُ المصالح والمَطامع، وخُذوا ما أوتيتم بقوّة عاملين تحت راية العروبة والإسلام لجمع ما تفرّق من شملكم وتوحيد ما تبدّد من رأيكم ورَتقِ ما تمزّق من صفّكم.

والله نسأل أن يُوفّق وُلاةَ أمورنا وأهل الحل والعقد من قادة أمّتنا لما فيه صَلاحُ البلاد والعِباد، وأن يُحقّق بهم رجاءنا فيكونوا أولئك الذين تطلّعت إليهم عيون عقولنا واستحضرت أمثالهم خواطر قلوبنا، واشتهت نعمة العيش في أكنافهم نفوسنا، واشرأبّت إليهم أعناق آمالنا، وأن يجري الخير على أيديهم والحِكمَةُ على ألسنتهم وأقلامهم، وأن يُلهِمُهم استعمال ذلك كلّه لنفع أمّتهم، فيجمعوا شتات أهوائها، ويُوَحّدوا مُتفرّقات أجزائها، وأن يحفظهم لبلادهم ويحفظها بهم من أن يبسط الأعداء إليها أيديهم وألسنتهم بسوء، وأن يُعينهم على قمع كُل غاصب ودخيل، وقهر كل متآمر وعميل، وإعادة ما اغتُصِبَ من حقوق إخوانهم واسترجاع ما اقتُطِعَ من أوطانهم وأن يُلهمنا جميعاً رُشدنا والإنابة إلى ربّنا والآخذ بما آتانا نبيّنا والإقتداء بهَدي أئمتنا والعمل لما فيه خيرنا ورضاه عنّا.


أيّها الإخوة :

إنّ من حق جمعيتنا علينا أن نُؤازرها بما تسخو به نفوسنا وتجود به أيدينا بذلاً من غير شُحٍ وعطاءً من غَيرِ مَنٍّ، بل طاعةً لأمر ربّنا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ [المائدة \ 2] واستحصالاً على العَون الفائض على لسان نبيّنا: (لا يزال الله بعون العبد ما دام العبد بعون أخيه).

كما أنّ أعضاء هذه الجمعية ومؤسسيها والعاملين عليها الذين وقفوا أنفسهم وكرّسوا أوقاتهم وبذلوا جهودهم لنصر دينهم وإحياء أمر أئمتهم والنهوض بأبناء شعبهم إلى المستوى اللائق بهم لهم منّا أسمى عِبارات التقدير، وأسمى آيات الشُكر، ومِن الله سبحانه نرجو لهم جزيل الثواب وعظيم الأجر جمعنا الله وإياكم على طاعته وصرفنا بكريم عطائه ومَثوبته، وأعاد علينا هذه الذِكرى العظيمة علينا وعلى أمّتنا وبلادنا وعلى أحرار العالم الإسلاميّ والإنسانيّ بالخير واليُمن والبركة.

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المُنتجبين والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ محمود الصالح رحمه الله
من كتابه (النبأ اليقين عن العلويين)
الطبعة الثالثة سنة 1997
دار المرساة - اللاذقية