1- في الدليل على معرفته تعالى.

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 12/10/2010 - 17:40

إعلم أن ما يتعلق بمعرفة واجب الوجود سبحانه فهو أمر لا يتخلله الشك ولا يُخامره الوهم رغماً عما يتشدق به الجاحدون المنكرون. وحسبُ الكفرة ضلالاً بقولهم : ( إن إبداع المادة من ذاتها وليست معلولة علة أزلية). وذلك بعدما ثبت لدينا من المبادئ الطبيعية والبراهين الفلسفية وجود علة لكل معلول بدليل أننا لا زلنا نجد في المعلول آثار العلة كما يوجد في النفس آثار العقل فالمادة الغذائية التي يزعم الماديون سبق وجودها قبل الخليقة الصادرة عنها – هي لا شك مخلوقة من الله عز وجل ومعلولة له - ورؤية وجودها وتعميم الكون من مادتها محكية في الكتاب العزيز بقوله :

( أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الإسراء\85.

وفي التوراة: (إن الأرض كانت خاوية خالية) .

وإن جميع العلماء والحكماء اتفقوا في كل زمان ومكان على الإعتراف بوجود ( إله ) وإن جرى بينهم الإختلاف – فالإختلاف إنما هو واقع على معرفة الصفات الإلهية لا على وجوده تعالى – لأن وجود الألوهية أي وجود موجود أرفع من العالم وأفضل وأشرف من الإنسان وقد اتفق عليه الجميع ما عدا الماديين وتشهد بذلك الهياكل والمعابد والذبائح والضحايا وأصناف الإبتهالات المتعودة كل أمة على تقديمها (للإله) فضلاً عن الكتابات المحفوظة في كل جيل المثبتة الإعتقاد بوجود الألوهية.

رُوِيَ أن أفلاطون كان يشكو شكوى مرة في كتابه العاشر عن الشرائع من الشباب الخالعي العِذار الذين نبذوا الإعتقاد بالله وإنه قد رثى بنحيب وحسرة حالة هذا الخراب المداهم لأن الإنفصال عن الله هو الإنفصال عن الواجب والتسليم للشهوات والخروج عن دائرة العقل وإطلاق العنان للغريزة 1 والرجوع إلى الحالة البهيمية, ولكي يسود على هذا الرأي الفاسد فلقد تدبّر هذا الغرض بتوقد ذكائه إذ عزم الفيلسوف نفسه على ربط وتوحيد تعليمه بالتعاليم التي جاءت بتطهّر الآلهة والأسرار في بلاد اليونان وقد تبرهن وجود الله سبحانه بإثباتنا – إن المادة لا فهم لها لكونها جامدة ولا بد من مبدأ حكيم عاقل يُدبّر العالم ويتسلط عليه بنواميس وشرائع مرتبة بالحكمة لقول (لوكردير) :
لا بداية ولا نهاية لتصوّر الله فإذا طرحت به من المشرق يرجع إليك من المغرب وبالحري يستمر ساكناً في كل جهات الزمان والفسحة معاً وقوته عظيمة سلباً وإيجاباً وهو حي بسجود المؤمنين وبتجديف الملحدين ويزداد اقتداراً وبأساً وقت الحرب أكثر من وقت السلم إذ يثقف العقول ويُهذبها بهدوءٍ وسكينة وهو أخ الوطن يستولي على العموم استيلاء لا ريب فيه (لوكردير).

فمن الأدلة الواضحة التي نستدل بها على وجود الله الخالق عز وجل دلالة الأثر على المؤثر 2 وذلك أن الإنسان إذا نظر إلى شيء محسوس فرآه قد وضع بشكلٍ ما وقدرٍ ما ووضعٍ ما 3 موافقٍ في جميع ذلك للمنفعة الموجودة في ذلك الشيء المحسوس والغاية المطلوبة حتى يعترف أنه لو وُجد بغير ذلك الشكل وبغير ذلك الوضع وبغير ذلك القدر لم توجد فيه تلك المنفعة, علم على البداهة أن لذلك الشيء صانعاً وصَنَعَهُ كذلك ليوافق شكله ووضعه وقدرة تلك المنفعة وإنه لا يمكن أن تكون موافقة اجتماع تلك الأشياء لوجود المنفعة ( بالصدفة والإتفاق ) مثال ذلك:
أنه إذا رأى إنسان حجراً ملقياً على الأرض فوجد شكله بصفة يتأتى منها الجلوس ووجد وضعه وقدره, علم اليقين أن ذلك الحجر إنما وضعه صانعه لهذه الغاية وهي الجلوس وقَدَّرَه في ذلك المكان, وعليه جاء الأمر في العالم كله. فإنه إذا نظر الإنسان إلى ما فيه من الشمس والقمر وسائر الكواكب التي هي سبب الأزمنة الأربعة 4 وسبب الليل والنهار وسبب الأمطار والمياه والرياح وسبب عمارة أجزاء العالم ووجود الناس وسائر الكائنات من الحيوان والجماد والنبات وكون الأرض موافقة لسكون الناس فيها وسائر الحيوانات البرية وكذلك الماء موافقاً للحيوانات المائية والهوى للحيوانات الطائرة وإنه لو اختل شيء من هذه الخلقة والبنية لاختل وجود المخلوقات التي هاهنا علم على البداهة أنه ليس من الممكن أن تكون هذه الموافقة التي في جميع أجزاء العالم للإنسان والحيوان والنبات (بالصدفة ولا بالإتفاق) بل ذلك من قاصد قَصَدَهُ ومُريدٍ أراده الله تعالى.
وهذا دليل قطعي بدليل أن كلَّ ما يوجد في جميع أجزائه لفعلٍ واحدٍ ومُسدّد نحو غاية واحدة فهو مصنوع ضرورة – فينتج أن العالم بأسره مصنوعٌ وإن له صانعٌ وهو الله سبحانه وتعالى وهذا النوع من الإستدلال فهو النوع الموجود في الكتاب العزيز حيث يوجد فيه غير ما آية من الآيات التي يُذكر فيها بدء الخلق كثيرة ومن ذلك قوله تعالى:
( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا* وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا* وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا* وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا* وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا* وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا* شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا* ). النبأ\6...13.
وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء ) البقرة\22.

وقال تعالى: ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ) الفرقان\61.

ومما ورد في الدليل على وجوده تعالى ما حكى بعض المؤرخين أنه سبق للفلاسفة القدامى منذ آلاف من السنين إذ توفقوا في إثبات وجود الخالق سبحانه تعالى بالعقل وحده وأتى المتأخرون مستنيرين بالعقائد الإيمانية فحاولوا ونجحوا فيما حاولوا أن يبرهنوا على وجود الله عز وجل بالعقل وحده دون أن يعمدوا إلى الإستعانة بأنوار الإيمان.

وفي البرهان قال بعض الحكماء : إنه لمن الثابت الضروري أن هذا العالم مفطور على الحركة وهذه الحركة تفترض مُحرّكا أولاً لا محرك له لأن ما يتحرك فبغيره يتحرك وفي الوقت نفسه يستحيل الإنتقال من محرّك إلى متحرك ومن متحرك إلى متحرك إلى ما لا نهاية له, ومن ذلك وجب أن يوجد مُحَرّك أوّل لا مُحَرّك له وهذا ما نسميه (الله عز وجل).

ويتبع هذا الدليل (برهان العلة) وموضوعه أننا لا زلنا نجد في العالم عِللاً وأسباباً فاعلة أو مُتفاعلة مُتسلسلة كالولادة ودرجة الضغط الجوي وتأثير الأطعمة لكن هذه العِلل تفترض عِلة أولى فاعلة غير مفعولة بدليل أنه لا يوجد مَعلول بغير عِلة وعِلة العِلل الأولى الفاعلة وغير المفعولة (هي الله عز وجل).

فبهذه الدلائل والبراهين نستطيع أن نُثبت وجود الله عز وجل الذي لا يستطيع أن ينكره إلا من ختم الله على قلبه وبصيرته الذين قالوا أنه لا يمكن إقامة الدليل ولا البرهان السديد لا على وجود ( الله ) ولا على وجود ( النفس الإنسانية ).
وما أحسن ما قاله المرحوم بطرس كرامة اللبناني في الرد على من أنكر وجود الخالق عز وجل قوله :

فيا ويح قومٍ قد عصوك وأركنـوا   إلى الكفر فانصبَّت عليهم غوائلـه
فإن أثبتوا فعـل الطبـاع ببعضهــا
  فمبدأ هذا الفعــل مـن هو فاعلـــه
ويلـــزم مـن هــذا دوام تسلســـلٍ
  وهذا محــالٌ لا تصـــح مسائلــــه
فـمن سيَّـر الأقمـار في درجاتهــا
  علــى دوران لا تخــــل منازلـــــه
فإن كان جذباً مثل ما قدروا فمـن
  تُرى أوجد الجذب الذي هو كامله
فيـا ملحـداً أمسى على الله منكـراً
  فــإن وجــود الله صحّــت دلائلـــه
فمــن أبـدع الكـون البديـع نظامهُ
  ومن ذا على ترتيبه الدهر شامله
فإن قلـت : إن الكائنــات تمدّهــــا
  فقد لزم الدور الذي شاع باطلــه
فـويلك مــن أنشــأ العناصــر أولاً
  وصيَّـرها في مركــز لا تزائلــــه
وإن قلـت أجزاء قديــم وجودهـــا
  تحركهــا بالطبـع كانـت تعاملـــه
فوافــق وقتــاً إنهــا قـد تآلفـــــت
  على هيئة منها نشا الكون كامله
فمــــا هــذه الأجــزاء هــل بإرادةٍ
  تحركها أم جاء بالقصر عاملـــه
فإن كان قسراً فهي تحتاج موجدا
  يُقيــم بهــا فعلاً سريــاً تفاعلـــه
وإن كان عن قصد أتى فهو ربكم
  تقاسمــه عالي الوجود وسافلــه
فمـــا قلتمــوه باطـــلٌ وكلامكــــم
  محالٌ ومهزول النتيجة حاصلــه


وفي البرهان كل ذي آخر فهو ذو أوّل, وكل ذي أوّل وآخر : مُحدَثٌ, وكُلُّ مُحدَثٍ لا بُد له من قديمٍ أوجده, وكل الأشياء مفتقر بعضها إلى بعض لتتعاون, وبتعاونها قوامها, وكل مُحتاجٍ مُحدَث وإن كان ثمة مُحدَث ثبت وجود قديم.

  • 1 والفرق بين العقل والغريزة: أنّ العقل لا يتمّ استعماله إلا رويداً رويداً بالممارسة بواسطة المقاربة والحلم. بَيْدَ أن الغريزة يتجه نحو موضعها بدون روية وبلا واسطة شيء – إن عقل الولد يأخذ بالكمال تدريجياً ولا يدرك النباهة إلا بعد مدة معتبرة والغريزة تفعل بلا واسطة –
    إن الصوص حينما ينقف من البيضة يأخذ بنقر الحبوب وحالما توجد العنكبوت تسرع بنسيج شبكتها بَيْدَ أن الإنسان يفتقر إلى التربية والتثقيف وإجراء الإختبار.
    أما ( الغريزة ) كما هي في البداية إلى النهاية فلا تتقدم ولا تنمو بل هي واقفة عادمة الحركة – إن نحل القرن التاسع عشر تعمل خلاياها نظير نحل التي وُجِدت منذ ستة آلاف سنة ويحفر الخلد وكره كما كان يحفره في الأجيال الأولى ولم يظهر على النحلة ولا أقل تقدم على أن العقل بالعكس قابل الإرتقاء والتقدّم.
  • 2 الأثر له ثلاثة معانٍ الأول بمعنى النتيجة وهو الحاصل من الشيء. والثاني بمعنى العلامة. والثالث بمعنى الجزء والآثار هي اللوازم المُعَللة بالشيء.
  • 3 (ما) تأتي بمعنى الإبهام نحو أعظم شيئا ( ما ), وتأتي للفخامة لأمر يسود, وتأتي للمصدرية والنوعية مثل اضربه ضرباً ( ما ).
  • 4 الأزمنة الأربعة الربيع والصيف والخريف والشتاء.