2- سلم النجاة في الدليل على معرفته تعالى عن طريق الأسباب والمسببات.

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 12/10/2010 - 17:40

إعلم أنه منذ امتياز الإنسان بالإدراك لا يزال يسأل ويتساءل عن مبدئه ومُنتهاه, أي من أين أتى وإلى أين يصير (وهو يصرف فِكره إلى أن وروده المباشر إلى هذا العالم) فهل كان مبدأه من رحم أمه أم من نطفة أبيه ؟!
وهل يقنع بهذه النظرة السطحية القريبة دون النظر إلى المبدأ الأول والبحث عن السبب الأساسي الذي ترجع إليه جميع الأسباب ؟!
ولما كان الإنسان لم يشاهد منذ فتح عينيه على الوجود أن حادثاً حدث من غير سبب أو أن شيئاً وُجد من غير موجد ومن ذلك وجدنا هذا العربي قد أدرك هذه السببية الحقيقية فنادى نداءه المشهور - (بالبعرة نستدل على البعير) و (بالأثر نستدل على المُسَيّر) ليل داج ونهار ساج وسماء ذات أبراج أفلا تدل على الصانع الخبير.
فلهذا الواقع الصريح أبدأ على هذا القانون مُسلماً به في كتب الفلسفة وسُميَ (مبدأ السببية) وهو أول مبادئ العقل المُدبرة للمعرفة إذاً فقولنا (لا بد لكل حادث من مُحدِث) أمرٌ يقينيٌ مُسلّمٌ به ولا يَقبل العقل غيره ومُحال على حادث أن يَحدُثَ بذاته أو أنّ شيئاً يوجد بغير موجِد - وإليه الإشارة بقوله الكريم : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) .

فنقول بناءً على هذه القاعدة:
إنّ عالمنا هذا من أرض وجبال وشجر ودواب وكواكب وشموس لا بد له من مُحدِث وإن هذه الحوادث الفرعية الكثيرة مُندفعة عن أسباب - وهذه الأسباب مُندفعة عن أسباب أخرى أقل من الأولى ولا بد أن تصل بالنتيجة إلى سبب لجميع هذه الأسباب ومُحدِث لجميع هذه الحادثات كنظرك إلى أغصان الشجرة المتعددة الفروع المتشابكة الأطراف فكلما ذهبتَ تبحث عن أسبابها ذهبت إلى قليل من كثير حتى تنتهي إلى ساق واحدة.
فتعيّن من هذا الدليل أن سبب الشجرة ساقها ولا زال هذا السبب ينتهي من سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي بالسبب الأول الذي لا سبب له وهو الله عز وجل.

ومن طريق آخر قال الحكماء:
أنه لما كان الله تعالى هو المخترع جواهر الأشياء التي تقترن بها أسبابها وكانت الأسباب والمسببات لوجود هذا العالم هي الأجرام السماوية, كان من المستحيل وجود أي سبب من الأسباب مع الله عز وجل في إسم الفاعل والفعل, كما أنه من المستحيل إشتراك القلم مع الكاتب في فعل الكتابة أعني أن يُقال القلم كاتب والإنسان كاتب كما أن إسم الكتابة مُعَوّل باشتراك الإسم عليهما أعني أنهما معنيان لا يشتركان إلا في اللفظ فقط وهما في أنفسهما في غاية التباين وكذلك الأمر في إسم الفاعل إذ أطلق على الله سبحانه.

وإذ أطلق على الأسباب ولا يجوز تبطيل الأسباب لأن من أبطل الأسباب فقد أبطل العقل ومُبطل العقل مُبطل العلم لأنه من اعتيادنا أن نرى السبب يعقب المُسبب بانتظام في جميع مشاهداتنا إذ جعلنا ندّعي أن الأول عِلّة وجود الثاني, لأن من أنكر وجود المُسببات مُرتبة على الأسباب في الأمور الصناعية ولم يُدركها فهمه فليس عنده علم بالصناعة ولا بالصانع, وكذلك من جَحَدَ وجود ترتيب المُسببات على الأسباب في هذا العالم فقد جَحَدَ الصانع الحكيم.

وبالجملة متى رفعنا الأسباب والمسببات لم يكن هاهنا شيء يُرد به على القائلين ( بالصدفة أو بالإتفاق ) أعني القائلين لا صانع هاهنا لأنه متى لم يعقل أن هاهنا وسائطاً بين الباري والغايات في المصنوعات والموجودات فاعلاً مُريداً عالماً لأن الترتيب والنظام وبناء المُسببات على الأسباب هو الذي يدل على أنها صُوِّرَت عن علمٍ وحكمةٍ وبهذا الدليل نستدل أن لا فاعل إلا الله عز وجل وهذا هو المفهوم الذي يشهد له ( الحس والعقل والشرع).
أما (الحس والعقل) أنه لا يخفى من أن هاهنا أشياء تتولد عنها أشياء كما أن النظام الجاري في الموجودات إنما هو من قبل (أمرين) :
( أحدهما) ما ركب الله سبحانه فيهما من الطبائع والنفوس القابلة للإنفعال.
و (الثاني) من قبل ما أحاط بها من الموجودات هي حركات الأجرام السماوية فإنه من الظاهر للعيان من أن الليل والنهار والشمس والقمر وسائر النجوم جعلها الله سبحانه لمكان النظام والترتيب الذي جعله الخالق في حركاتها سبباً لوجودنا ووجود ما هاهنا محفوظاً بها.

قال العلماء أنه لو توهم إرتفاع واحد منها أو توهّم انتقال واحد عن موضعه أو على غير قدرة أو في غير السرعة التي جعل الله فيه لبَطلت المَوجودات التي على وجه الأرض وذلك بحسب ما جعل الله في طباعها من قبول الفعل والإنفعال إذ تتأثر عن تلك كما تراه ظاهراً في الشمس والقمر أعني تأثيرهما فيما هاهنا من المياه والرياح والأمطار والبحار وبالجملة في الأجسام المحسوسة وأكثر ما يظهر ضرورة وجودها في حياة النبات وفي الحيوان.

ومن الحقائق الراهنة أنه لولا القوى التي جعلها الله سبحانه في أجسامنا من القبول والإحساس لبطلت أجسامنا كما نجد (جالينوس) وسائر الحكماء يعترفون بذلك ويقولون أنه لولا القِوى التي في أجسام الحيوان والنبات والقِوى السارية في هذا العالم من حركات الأجرام السماوية لما أمكن أن نبقى أصلاً ولا طرفة عين فسبحانه اللطيف الخبير.

فهذا هو المشاهَدُ في الحس والعقل وأما ما هو المفهوم بالشرع مما نبّه الله سبحانه في كتابه العزيز عن ذلك في قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). القصص\71.

وقال تعالى: ( وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ). القصص\73.

وقال تعالى: ( وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ, 1 وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ). ابراهيم\33.
وغير ذلك من الآيات الدالة على إثبات وجود الله وقدرته في وجود مخلوقاته عز وجل.

  • 1 التسخير في اللغة: سوق الشيء إلى الغرض المقصود منه قهراً, وهو على ضربين :
    ضرب يكون فيه المُسَخّر مُنقاد للمُسَخّر له يتصرف فيه كيف شاء وذلك مثل الأشياء التي في متناول الإنسان من جماد وحيوان.
    وضربٌ يكون فيه المُسَخّر سَبَباً لحصول ما ينفع المُسَخَّر له من غير أن يكون له دخلٌ في استعماله كالأشياء الموجودة في السماء من شمس وقمر ونجوم وفلك فهي أشياء نيطت بها مصالح العباد من غير أن يكون لهم تصرف فيها.
    وقال بعض المفسرين : أن لفظة سَخَّرَ هنا ليست للقهر والتحقير لهذه الجواهر والأعيان لكنها وَرَدَتْ بمعنى الإرادة الأزلية بالتفضيل بها على عباده وذلك من قِبل ما خاطب سبحانه رُسُلَه إذ حضهم على الطاعة وبَث الرسالة ولو كان معناها القهر والتحقير كما هو المعلوم من ظاهر اللفظ لكان الإنسان والحيوان والنبات أفضل منها وهذا بالعكس بدليل ما قَسَمَ الله بها بقوله تعالى :( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ). الواقعة\75. والله لا يُقسم إلا بعزيز عليه.