وَحْيُ العَاطِفَة

أُضيف بتاريخ السبت, 30/10/2021 - 02:55

وَحْيُ العَاطِفَة

تَسْحَرُ الأَشْعَارُ إِذْ تُوحِي لَهَا *** عَاطِفَاتُ الشِّعْرِ هَذَا مَذْهَبِي

إِنَّمَا الشَّاعِرُ يُمْلِي مَا يُمْلَى عَلَيهِ، إِذْ شَبَّهَ الشِّعْرَ بِالوَحْيِ، فَأَسْنَدَ النِّعْمَةَ فِيهِ إِلَى الوَاهِبِ، فَأَخْرَجَهُ بِذَلِكَ مِنَ الصِّنَاعَةِ إِلَى الطَّبعِ، وَمِنْ قُدْرَةِ الإِنْسَانِ إِلَى قُدْرَةِ المُلْهِمِ الخَارِجَةِ عَنْ سُلْطَانِ الشَّاعِرِ.

وَعَلَى هَذَا المَعْنَى، قَولُ الشَّيخ عليّ كتّوب:

شُعُورِيَ أَوْحِى لِي فَجِئْتُ لِحَيِّكُم *** وَلا أَنَا مُسْتَجْدٍ وَلا أَنَا سَائِلُ

إِنَّمَا تَخْتَلِفُ الأَلْفَاظُ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الحَالِ بَينَ: أَمْلَى، وَأَلْقَى، وَأَوحَى. 

وَمِنْ ذَلِكَ قَولُ ظَافر الحدّاد:

وَالشِّعْرُ تَلْقِينُ شَيطَانِ الغَرَامِ فَلا *** يُمْلِي غَرَائِبَهُ إِلاَّ لِمَنْ نَسَبَا 1

وَفِي هَذَا المَعْنَى قَول الشَّاعِر أَحْمد الصَّافِي:

دُعِيتُ بِالعبْقَرِيِّ الفَذِّ عَنْ خَطَأٍ *** فَقُلْتُ: هَذَا غُلُوٌّ لَسْتُ أَرْضَاهُ
مَالِي بِمَا قُلْتُهُ فَضْلٌ يُسَجَّلُ لِي *** إِنِّي أُسَجِّلُ مَا يُوحِي بِهِ اللهُ 2

وَمِنْ هَذَا شُبِّهَتْ نَفْسُ الشَّاعِرِ بِزُجَاجَةِ المِصْبَاحِ التّي تَشِفُّ عَنِ النُّورِ، وَفَضْلُهَا رِقَّتُهَا كَأَنَّهَا البَِلَّورُ.

وَمِنْ لَطِيفِ التّعْبِيرِ عَنْ هَذَا المَقَامِ، قَولُ القَرَوِيِّ:

لا فضْلَ للشُّعَرَاءِ فِي وَثَبَاتِهِم *** وَلَو انَّهُم فَوقَ المَجَرَّةِ سَاحُوا
فَالشِّعْرُ مِنْ نَفَحَاتِ وَادِي عَبْقَرٍ *** مِنَّا الكُؤوسُ وَمِنْ هُنَاكَ الرَّاحُ
دَعْوى المُدِلِّ عَلَى الأَنَامِ بِشِعْرِهِ *** دَعْوَى الزُّجَاجَةِ أَنَّهَا المِصْبَاحُ 3

وَللشَّاعِر زكي قنصل فِي هَذَا المَعْنَى:

لا فَضْلَ لِي إِنْ أَسْكَرَتْكُم خَمْرَتِي *** يَا نَاسُ إِنِّي لَسْتُ غَيرَ إِنَاءِ
تُوحِي إِلَيَّ الشِّعْرَ شَفَّ نَسِيجُهُ *** شَقْرَاءُ مِثْلُ الدُّرَّةِ الشَّقْرَاءِ 4

وَعَلَى هَذَا المَعْنَى قَالَ الشَّيخ عَلِيّ كتّوب: 

إِلَيْكَ أَخِي فِي اللهِ مِنِّي قَصِيْدَةً *** تَطِيْبُ بِكُم مَعْنىً وَمَغْنَىً وَأَوْزَانَا
فُؤَادِيَ يُمْلِي وَاليَرَاعُ يَخُطُّ فِي *** صَحِيْفَةِ إِخْلاصِي شُعُورِيَ جَذْلانَا

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ أَجْمَلَ الشِّعْرِ مَا أَوحَتْهُ العَاطِفَةُ وَأَمْلاهُ الشُّعُورُ.

وَمِنْهُ قَولُ بَدوي الجبل:

خَيرُ القَصَائِدِ مَا أَوحَتْهُ عَاطِفَةٌ *** فَسَارَ فِي كُلِّ دُنْيا غَيرَ مُغْتَرِبِ
وَللطَّبِيعَةِ شِعْرٌ رَاحَ يُسْكِرُنِي *** فَهَل ْجَرَتْ فِي قَوافِيهِ ابْنَةُ العِنَبِ
قَرَأْتُهُ فِي النُّجُومِ الزُّهْرِ عَنْ كَثَبٍ *** وَفِي صَفَاءِ العُيُونِ النُّجْلِ عَنْ كَثَبِ 5

وَذَلِكَ الوَحْيُ مَزِيّةُ الشِّعْرِ؛ فَهُوَ لا يَخْرُجُ قَسْرًا وَلا يُسْتَحْضَرُ عُنْوَةً، وَإِنَّمَا مَتَى تَحَرَّكَتِ العَوَاطِفُ وَتَوَهَّجَ الإِحْسَاسُ، كَانَ للشِّعْرِ مَا يُشْبِهُ البَرِيقَ فِي العُيُونِ.

وَمِنْهُ قَولُ الأُستاذ حَامد حَسن:

إِذَا الشِّعْرُ اسْتَفَاضَ مِنَ الشُّعُورِ *** تَوَهَّجَ فِي الحُرُوفِ وَفِي السُّطُورِ 6

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ الشَّاعِرُ تَابِعًا مُنْقَادًا، وَفِي هَذَا قَولُ بَدوي الجَبَل:

أَنَا مُِلْكُ إِلْهَامِي فَلا أُبْدِي هُنَاكَ وَلا أُعِيدُ
مَا رُحْتُ أَحْكُمُ بِالقَصِيدِ وَرَاحَ يَحْكُمُنِي القَصِيدُ
وَالأَمْرُ مَا يَخْتَارُهُ هوَ سَيِّدٌ وَأَنَا المَسُودُ
وَأُرِيدُهُ فَيَفُوتُنِي وَيَزُورُ سَاعَةَ لا أُرِيدُ 7

وَكَمَا تَسْتَدْعِي حَرَارَةُ العَطَشِ رَشْفَةً إِثْرَ رَشْفَةٍ، فَكَذَلِكَ تَسْتَدْعِي العَاطِفَةُ أُخْتَهَا حَتَّى تَسْتَحْضِرَ اللَّفْظَةُ شَقِيقَتَهَا.

وَمِنْهُ قَولُ الأُسْتَاذ عليّ الجارم:

الشِّعْرُ عَاطِفَةٌ تَقْتَادُ عَاطِفَةً *** وَفِكْرَةٌ تَتَجَلَّى بَينَ أَفْكَارِ 8

حَتَّى تَتَّخِذَ مِنَ الأَلْفَاظِ قَالَبًا، وَمِنَ الوَزْنِ رِدَاءً، كَأَنَّهَا تُنْقَلُ مِنْ طَورٍ إِلَى طَورٍ، كَالمَاءِ يَسِيلُ ثُمَّ يُجَمَّدُ وَالذَّهَبِ يُصْهرُ ثُمَّ يُسْبَكُ، فَإِذَا جَرَى عَلَى اللِّسَانِ فَكَأَنَّهُ صُبَّ فِي قَالَبٍ وَسُكِبَ فِي وِعَاءٍ، فَاسْتَقَرَّ وَتَمَثَّلَ للنَّاظِرِينَ جُمَلاً وَللسَّامِعِينَ نَغَمًا.

وَفِي هَذَا المَعْنَى، قَولُ الشَّيخ مُحَمّد حمدان الخَيّر:

هُوَ الشِّعْرُ فَيضٌ مِنَ العَقْلِ لَمْ *** يُفَجَّرْ لِيُنْثَرَ فَوقَ الجِيَفْ
وَحَوضٌ يُنَاوَلُ مِنْهُ الزُّلال *** مَنْ كَانَ بِاليَدِ مِنْهُ اغْتَرَفْ
وَذَوبُ القَرَائِحِ يَجْرِي عَلَى *** ظِماءِ الجَوَانِحِ عَذْبَ النُّطَفْ 9

وَفِي تَمَثُّلِهِ فِي الأَلْفَاظِ، قَولُ الشَّيخ عبد الحميد الصّغير: 

فَمَا الشِّعْرُ  إِلاَّ مِنْ مُذَابِ عَوَاطِفٍ *** إِذَا سُكِبَتْ أَمْسَى لَهَا الوَزنُ مُوجِدَا 10

وَخُضُوعُ الشَّاعِرِ لِلإِلْهَامِ حَتَّى يُذِيبَ عَاطِفَتَهُ لِيَسْكُبَهَا فِي قَوَالِبَ مِنَ الحُرُوفِ، مَذْهَبُ أَكْثَرِ الشُّعَرَاءِ. 

وَفِي هَذَا  جَاءَ قَولُ الشّيخ عَلي كتّوب:

وَكُنْتُ بَعَثْتُ عَاطِفَتِي شُعُورًا *** تَسِيْلُ كَأَنَّهَا مَاءُ الغَمَامِ

وَقَولُهُ:

كَيْفَ لا أَنْظِمُ القَرِيْضَ بَدِيْهًا *** سَائِلاً بِالشُّعُورِ يَنْهَلُّ سَهْلا

وَقَولُهُ:

وَشِعْرِي وَالعَوَاطِفُ وَالأَمَانِي *** تَكَادُ تَذُوبُ بِالأَبْيَاتِ شِعْرَا

فِي تَرْجَمَةِ كَلام أوشو عَلَى هَذَا المَقَامِ :

(( إِنَّ سُؤَالَ ( لِمَاذَا ) لا يَتَوَارَدُ إِلَى ذِهْنِ الشُّعَرَاءِ؛ لأَنَّهُم يَأْخُذُونَ الأُمُورَ كَمَا هِي، لايَدْخُلُونَ فِي مَاضِيهَا، وَلا يَذْهَبُونَ إِلَى الأَسْبَابِ الرَّئِيسَةِ لِوُجُودِهَا وَلا يَهْتَمّونَ بِنِهَايَتِهَا الأَخِيرَةِ، هَذِهِ اللّحْظَةُ: هِيَ كُلُّ شَيءٍ للشَّاعِرِ، فَهُوَ يَذُوبُ فِي (هُنَا) وَ (الآن) )) 11

وَقَدْ شَاعَ هَذَا التّعْبِيرُ فِي عَصْرِ الشَّيخ ، فَكَانَ الشِّعْرُ مَا نُظِمَ بِحَبَّاتِ القُلُوبِ وَدُمُوعِ العُيُونِ، كَأَنَّمَا يُسْكَبُ فِيهِ ذَوبُ الأَكْبَادِ وَعُصَارَةُ المُهَجِ. 

وَفِي هَذَا المَعْنَى قَالَ الشَّاعِر البَرَدّونِي:

وَأَنَا شَاعِرٌ وَمَا الشِّعْرُ إِلاَّ *** خَفَقَاتِي تَذُوبُ شَجْوًا مُنَغَّمْ 12

وَمِنْهُ قَول الجَواهرِيّ:

قَوَافِيَّ التّي ذَوَّبْتُ قَامَتْ *** بِعُذْرِي، إِنَّهَا قَلْبٌ  مُذَابُ 13

 وَالشَّاعِر القَرَوِيّ:

أَزُفُّ إِلَى أَحَبِّ النَّاسِ شِعْرًا *** أَذَبْتُ عَلَى قَوَافِيهِ الفُؤَادَا 14

وَللأُسْتاذ حامد حسن: 

أَذَبْتُ عَوَاطِفِي نَغَمًا وَشِعْرًا *** وَخَيرُ الشِّعْرِ أَصْدَقُهُ شُعُورا 15

وَعَلَى تَقْيِيدِ الشِّعْرِ بِالبَاعِثِ الذّي هُوَ العَاطِفَةُ، وَصُدُوره مِنَ القَلْبِ تَرْجَمَة للشُّعُورِ الإِنْسَانِيِّ، كَانَ أَكْثَرُ شُيُوخِنَا فِي هَذِهِ البِيئَةِ الغَنِيَّةِ بِالأَدَبِ وَالأُدَبَاءِ.

وَفِي هَذَا المَعْنَى قَال الشَّيخ مَحمود سُليمان الخَطِيب: 

وَالشِّعْرُ عَاطِفَةٌ فُصْحَى إِذَا  انْطَلَقَتْ *** أَزْرَتْ عَلَى كُلِّ تَرْكِيبٍ وَتَشْبِيهِ 16

فَالمِقْيَاسُ فِي جَودَةِ الشِّعْرِ صِدْقُ العَاطِفَةِ وَحَرَارَةُ الشُّعُورِ قَبْلَ سَلاسَةِ اللَّفْظِ وَأَنَاقَةِ الكَلِمَاتِ. 

وَفِي هَذَا قَولُ الشَّيخ مُحَمّد حمدان الخَيّر: 

وَلا خَيرَ فِي  الأَشْعَارِ لَيسَ وَرَاءهَا *** عَوَاطِفُ حَرَّى تَبْعَثُ الشِّعْرَ  مُلْهَمَا
وَمَا الشِّعْرُ إِلاَّ العَاطِفَاتُ يَصُوغُهَا *** بَيَانٌ سَلِيمُ الذَوقِ عِقْدًا مُنَظَّمَا 17
 
  • 1ديوان ظافر الحداد 34
  • 2أشعة ملوّنة 166
  • 3الشّاعر القروي، الأعمال الكاملة، 129
  • 4زكي قنصل، الاعمال الشعرية الكاملة 2 ( 70 )
  • 5ديوان بدوي الجبل 470
  • 6الأعمال الشعرية الكاملة، ج1\مج1\ 391
  • 7ديوان بدوي الجبل 152
  • 8ديوان علي الجارم 148، دار الشروق\مصر\ط1\1986م
  • 9ديوان الشّاعر الشيخ محمّد حمدان الخيّر 1\107
  • 10( عبد الحَمِيد بن حُسَين بن عَلِيٍّ المَولود سَنَة 1338هـ ) شعراء الغريّ 5\353
  • 11الثورة لعبة العقائد 122، ترجمة متيم الضايع، دار الحوار\اللاذقية\ط1\2013م
  • 12ديوان عبد الله البردوني 1\188، دار العودة\بيروت\1986م
  • 13ديوان الجواهري 1\492، وزارة الثقافة \دمشق\ 1979م
  • 14الشّاعر القروي، الأعمال الكاملة، 179منشورات جروس برس\طرابلس
  • 15الأعمال الشعرية الكاملة، ج1\مج1\ 333
  • 16ديوان الخطيب 399
  • 17ديوان الشّاعر الشيخ محمّد حمدان الخيّر 1\342