سكرة الشعر أو السَّكَر بغير الخمر.

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 04/08/2021 - 09:56

سَكْرَةُ الشِّعْرِ أَو السَّكَرُ بِغَيرِ الخَمْرِ


اقْتَرَنَتْ هَذِهِ المُفْردَاتُ فِي شِعْرِ الشَّيخِ غَيرَ مَرَّةٍ فِي وَصْفِ الحَالَةِ الشِّعْرِيَّةِ وَأَثَرِ الشِّعْرِ فِي مَجَالِسِهِ الأَدَبِيَّةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَولُهُ: 

أُوْلاءِ أَحِبَّتِي نَزَلُوا فَأَهْلاً *** بِهِم رَبْعِي زَهَا وَازْدَانَ رَبْعَا
وَمُذْ حَلُّوا عَلَيَّ رَحُبْتُ صَدْرًا *** وَمُذْ رَحَلُوا وَعَيْشِكَ ضِقْتُ ذَرْعَا
قَضَيْنَا الوَقْتَ لَمْ نَحْسَبْهُ إِلاَّ *** كَطَيْفٍ مَرَّ مَا أَحْلاهُ وَقْعَا
شَرِبْنَا كَأْسَهُ عَذْبًا مَعِيْنًا *** فَرَقَّ لَنَا وَرَاقَ وَحَنَّ جِذْعَا
رَعَيْنَاهُ مَعًا بِشْرًا وَبُشْرى *** فَيَا للهِ وَقْتًا طَابَ مَرْعَى
سَكِرْنَا مِنْ مُدَامَتِهِ سُرُورًا *** وَغَنَّانَا حَمَامُ الشِّعْرِ سَجْعَا

عَلَى هَذِهِ  الحَالِ يَكُونُ الشَّاعِرُ حِينَ تَأْتِيهِ القَصيدَةُ، كُلَّمَا طَالَتْ مُدَّةُ زِيَارَتِهَا تَمَكَّنَتْ مِنْهُ حَتَّى مَلَكَتْ عَلَيهِ عَقْلَهُ.

وَمِنْ هَذَا شُبِّهَ الشِّعْرُ بِالخَمْرِ، فَكَمَا يَتَمَايَلُ الشَّارِبُ فِي سَكَرِهِ، فَكَذَلِكَ يَتَمَايَلُ الشَّاعِرُ لإِحْسَاسِهِ وَيَتَرَنَّحُ لِعَاطِفَتِهِ.

 وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الأُستاذ عليّ الجارم:

الشِّعْرُ مِنْ سِرِّ السَّمَاءِ فَهَمْسُهُ *** وَحْيُ  النُّفُوسِ وَرَاحَةُ الأَرْوَاحِ
كَمُلَتْ صِفَاتُ الرَّاحِ فِي نَشَوَاتِهِ *** وَنَجَا فَلَمْ يُوصَمْ بِإِثْمِ الرَّاحِ1

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا رَاقَ القُلُوبَ وَأَسَرَ النُّفُوسَ حَتَّى شَغَلَهَا عَنْ غَيرِهِ، كَانَ أَثَرُهُ فِي العَقْلِ كَأَثَرِ الخَمْر. 

وَفِي أَلْوَانِهِ قَولُ بَدَوي الجَبل:

سُكْرُ العَقِيدَةِ.. أَينَ مِنْ آفَاقِهِ *** سُكْرُ العُيُونِ.. وَأَينَ سُكْرُ الرَّاحِ2

وَلَمْ يَذْهَبِ الشَّيخُ فِي قَولِهِ: 

أَخْطَأَ القَائِلُ فِي مِقْوَلِهِ *** تُسْكِرُ الأَلْبَابَ بِنْتُ العِنَبِ
تَسْحَرُ الأَشْعَارُ إِذْ تُوحِي لَهَا *** عَاطِفَاتُ الشِّعْرِ هَذَا مَذْهَبِي

 مَذْهَبَ مَنْ يَرُدُّ آيَةً أَو يَدْفَعُ حَدِيثًا، فَإِنَّهُ هُنَا فِي مَقَامِ الشَّاعِرِ، وَلَيسَ فِي مَقَامِ الفَقِيهِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ فِيهِ مَذْهَبَ مَنْ لا يَرَى سَكْرَةَ الخَمْرِ كَسَكْرَةِ الشِّعْرِ، وَلا يَقِيسُ نَشْوَةَ الرُّوحِ بِنَشْوَةِ الجَسَد.

وَلَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي هَذَا المَعْنَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَولُ ابنِ الزَّيَّاتِ:

لَسُكْرُ الهَوَى أَرْوَى لِعَظْمِي وَمَفْصِلِي *** إِذَا ظَمِيَا يَا رُوحُ مِنْ سَكْرَةِ الخَمْرِ3

فَلا يَعْتَدُّ بِغَيرِهِ وَلا يَأْبَهُ لِسِوَاهُ، وَتِلْكَ حَالَةُ مَنْ تَعَلَّقَتْ رُوحُهُ بِمَا صَبَتْ إِلَيهِ، فَشَغَلَهُ غِذَاءُ الرُّوحِ عَنْ غِذَاءِ الجَسَدِ، فَاسْتَرَاحَتْ بَصِيرَتُهُ إِلَى جَمَالِ المَعَانِي وَهَامَتْ نَفْسُهُ بِأَكْرَمِ المَشَاعِرِ وَأَنْقَاهَا. 

وَلِذَلِكَ لَمْ يَقِسْ سَكْرَةَ الأَدَبِ بِسَكْرَةِ العِنَبِ، إِذِ اسْتَبْدَلَ نَشْوَةَ الكِتَابِ بِنَشْوَةِ الشَّرَاب. 

وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ خليل اليازجي:

لَهَا عَنْ سَوَادِ العَينِ مِنْهَا بِحِبْرِهِ *** وَبِالطِّرْسِ عَنْ بِيضِ التَّرَائِبِ وَالنَّحْرِ
وَبِالقَلَمِ اسْتَغْنَى عَنِ العِطْفِ وَاكْتَفَى *** عَنِ الثَّغْرِ بِالدُّرِّ  المُنَظَّمِ وَالنَّثْرِ
وَلَمْ تُصْبِهِ سُودُ الشُّعُورِ فَإِنَّهُ *** غَدَا لاهِيًا عَنْ أَسْودِ الشَّعْرِ بِالشِّعْرِ
يَشِفُّ عَنِ المَعْنَى الدَّقِيقِ بِلَفْظِهِ الـ *** ـرَّقِيقِ كَصَافِي الكَأْسِ شَفَّ عَنِ الخَمْرِ
وَيَبْتَدِعُ المَعْنَى فَيُسْكِرُ صَاحِيًا *** وَيَصْحُو بِهِ مَنْ غَاصَ فِي لُجَّةِ السَُّكْرِ4

وَتِلْكَ سَكْرَةٌ يَغِيبُ فِيَهَا الإِنْسَانُ عَنْ عَقْلِهِ وَيَنْقَطِعُ عَمَّنْ حَولَهُ، فَتَزِيدُ رُوحَهُ نَشَاطًا وَقَلبَهُ عَطَاءً وَنَفْسَهُ سُمُوًّا، فَيَفِيضُ الشِّعْرُ مِنْ قَلبِهِ عَلَى لِسَانِهِ كَمَا يَفِيضُ الإِنَاءُ إِذَا امْتَلأَ وَيَسِيلُ النَّهْرُ إِذَا طَافَ.


وَمِنْ رَقِيقِ  التّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ الحَالِ، قَولُ الأستاذ عبد الله يوركي حلاّق:

الشِّعْرُ إِشْرَاقَةُ المَعْنَى وَوَثْبَتُهُ *** يَسْمُو الشُّعُورُ إِذَا مَا فَاضَتِ الكَبِدُ5

وَفِي دِيوَانِ الشَّيخ عَلِيّ كَتّوب، إِشَارَاتٌ إِلَى هَذِهِ الحَالِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى، الإِمْلاءُ فِي الحَالَةِ الشِّعْرِيَّةِ إِلَى دَرَجَةِ امْتِلاءِ القَلْبِ. 
وَمِنْهَا قَولُهُ: 

وَيَرَاعُ الخَيَالِ يُمْلِي سُطُورًا *** أَحْكَمَتْهَا يَدُ البَيَانِ السَّاحِرْ
تَمْلأُ القَلْبَ وَالجَوَانِحَ حُبًّا *** طَيِّبًا نَشْرُهَا تَهُزُّ المَشَاعِرْ

كَأَنَّ لَحْظَةَ الشِّعْرِ لَحْظَةُ غَيبُوبَةٍ، وَكَأَنَّ الشَّاعِرَ إِذَا قَرَأَ شِعْرَهُ كَانَ المُسْتَمِعُ مُنَادِمًا عَلَى خَمْرِ الكَلِمَةِ. 

وَهَذَا التّشْبِيهُ شَائِعٌ فِي الأَدَبِ إِلَى مَا يُشْبِهُ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ فِي عِلْمِ الحَدِيثِ، وَمُسْتَفِيضٌ فِي أَدَبِ الفُقَهَاءِ وَالشُّعَرَاءِ فِي هَذِهِ البِيئَةِ. 

وَمِنْهُ  قَولُ الشَّيخ عَبد اللّطيف إِبْرَاهِيم فِي مُعَارَضَةِ مُعَلَّقَة عَمرو بنِ كُلْثوم:

أَلا هُبِّي بِثَغْرِكِ فَاصْبَحِينَا *** سُلافًا مِنْ لَمَاكِ أَوِ اغْبُقِينَا
وَخَلِّي لابنِ كُلْثُومٍ كُؤوسًا *** سَبَاهَا مِنْ خُمُورِ الأَنْدَرِينَا
فَإِنَّ شَرَابَنَا أَحْلَى مَذَاقًا *** وَأَعْلَى قِيمَةً للشَّارِبِينَا
أَدَرْنَا مِنْهُ فِي زَمَنِ  التَّصَابِي *** كُؤوسًا قَدْ شَرِبنَاهَا سِنِينَا6

وللشَّيخ مَحمود سُليمان الخطيب:

تُدِيرُ عَلَيَّ الشِّعْرَ صِرْفًا فَنَنْتَشِي *** وَنَسْكَرُ إِلاَّ أَنَّنَا لا نُعَرْبِدُ7

وَللشَّيخ مُحَمّد حسن شعبان: 

وَيَسِيلُ البَيَانُ خَمْرًا وَلَكِنْ *** تَجْتَلِيهَا مَسَامِعُ السُّؤَّالِ8

وَللدكتور وجيه محي الدّين:

يَومَ كُنَّا نُعَاقِرُ الشِّعْر َخَمْرًا *** هَازِئًا بِالحِجَى السَّخِيفِ البَلِيدِ9

 
 

  • 1ديوان علي الجارم 194.
  • 2ديوان بدوي الجبل 309، مؤسسة النشر الإسلامي\قم\ط2\2000.
  • 3ديوان محمّد بن عبد الملك الزّيات 198، د يحيى الجبور، دار البشير\الأردن\ط1\2002م.
  • 4ديوان الشيخ خليل اليازجيّ 63، تح: شوقي حماده، دار صادر\بيروت\ط1\1999م.
  • 5عصير الحرمان 14، عبد الله يوركي حلاق، وزارة الثقافة \دمشق\1990م.
  • 6التراث الأدبي للعلاّمة الشيخ عبد اللطيف إبراهيم 1\374.
  • 7ديوان الخطيب 177.
  • 8نفحات العرفان 124، دار كيوان\دمشق\ط1\2005م.
  • 9( 1908 ـ 1939م ) وجيه محي الدّين عنوان يقظة ووجه جيل 78، تح: أحمد علي حسن.