مواقف الفقهاء وأدوارهم في العصرين الأموي والعباسي

أُضيف بتاريخ السبت, 06/11/2010 - 18:44

لو نظرنا برويّة وأمعنا في مجريات التاريخ الإسلامي وما جرى من قِبل الحُكام الأمويين والعباسيين من الظلم والعُدوان على أهل البيت ومُحبيهم ومُواليهم، ثم نظرنا نظرة ثانية إلى فقهاء عصورهم وكيف كانت مواقفهم من تلك الأحداث وسكوتهم على المنكرات لعرفنا قيمتهم وقيمة أقوالهم ولتيقـّنا بأنهم كانوا بمثابة الأجراء لهم (إلا ما ندر) منقادين لنزواتهم يُخرجونها على أصول الشريعة الغرّاء بفتاوى لا تمتّ إلى الدين بصلة.

لقد أخذ هؤلاء الفقهاء على عاتقهم تبرئة السلطان بأعذار استلهموها من وحي الشيطان ليبيحوا لكل فاسق أن يعبث بهذا الدين كيف يشاء تحت ظلال هذا العذر أو ذاك.

فقد روى ابن كثير في تاريخه أن يزيداً بن عبد الملك حينما تولى الخلافة أراد أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز ، فشق ذلك على قرناء السوء فأتوا إليه بأربعين شيخاً ، فشهدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب .

واختلق الفقهاء أحاديث وفتاوى تحجر على الناس أن يعترضوا على الحاكم الجائر ، أو الخروج عليه .

قال النووي في شرحه لصحيح مسلم البيهقي في سننه ما يلي بالحرف :

وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدّثين والمتكلمين : لا ينعزل الخليفة – المتغلب – بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك والخروج عليهم وقتالهم حرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين .

وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتاب التمهيد طبعة القاهرة 1366 هـ ما يلي وبالحرف :

قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث : لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار ، وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود ولا يجب الخروج عليه . 1

وقال الزرقاني : أما أهل السنة فقالوا :

الإختيار أن يكون الإمام فاضلاً عادلاً محسناً ، فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه ، لما فيه من استبدال الخوف بالأمن ، وإرهاق الدماء ، وشن الغارات ، والفساد ، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه . 2

وحينما نقل أبو زهرة كلماتِ بعض الأئمة في وجوب إطاعة الخليفة الفاسق والجاهل والجائر ، قال :
هذا هو المنقول عن أئمة أهل السنة ، مالك والشافعي وأحمد .
فأسقط ذكر أبي حنيفة، وهكذا فعل سائر المتكلمين في هذه المسألة ، وعلّة ذلك أن أبا حنيفة كان على خلاف هذه العقيدة فهو لا يرى صِحَّة الخلافة للمَتغلب الفاقد للشرائط ، بل كان يَسمّيهم ( اللصوص ) وكان يُحَرّم إطاعتهم حتى في المعروف ، فكان يقول : " لو أرادوا بناء مسجد ، وأرادوني على عد أجره ، لما فعلت ".
وكان يرى وجوب الثورة عليهم ، فناصر ثورة زيد الشهيد بكل ما يستطيع حتى أصدر فيه فتواه الشهيرة : " لقد ضاهى خروجُهُ خروج رسول الله في بدر ". وبهذا يكون قد نعت حكام زمانه بالمشركين .

وبعد استشهاد زيد ونهوض محمد ذي النفس الزكية بايعه أبو حنيفة وناصره سراً وعلانية ، وبقي على بيعته حتى مات في سجن المنصور 3 .

لقد طعن الشيخ محمد رشيد رضا بما أثبته الشيخ أبو زهرة من جواز الرضوخ للحاكم الجائر ، وذلك من خلال قوله :

إنّ توسيد الأمة الإسلامية أمرَها إلى غير أهله لا يمكن أن يكون باختيارها وهي عالمة بحقوقها قادرة على جعلها حيث جعلها كتاب الله تعالى ، وإنما يسلبها المتغلبون هذا الحق بجهلهم وعصبيتهم التي يعلو نفوذها نفوذ أولي الأمر حتى لا يجرؤ أحد منهم على أمر ولا نهي ، أو يُعرّض للسجن أو النفي أو القتل .

وقال أيضاً :

ما أفسد على هذه الأمة أمرها وأضاع عليها مُلكها إلا جَعْلَ طاعة هؤلاء الجبارين الباغين واجبةً شرعاً على الإطلاق ، وجعل التغلب أمراً شرعياً كمبايعة أهل الحل والعقد للإمام الحق ، وجعل عهد كل متغلب باغ إلى ولده أو غيره من عصبته حقاً شرعياً وأصلاً مرعياً لذاته .

فكتابات السلف في الغالب الأعم تتواتر على تبرير النظام الأموي والعباسي وتحمل بلا هوادة على كافة الحركات والثورات الإجتماعية المعارضة ، وتصوّرها على أنها تطاولٌ وتمردٌ وفتنة ضد الحكام ، وتوصِمُ أصحابهم بأنهم مارقون زنادقة كُفّار يجب استئصالهم وإبادتهم بأي وسيلةٍ كانت .

وإنّ المؤرخين كانوا دائماً من الموالين للسلطة سياسياً ، ينتمون إلى طبقة ( أهل القلم ) أي المشتغلين بالدواوين ، المتمتعين بالإنعامات والحائزين للإقطاعيات. ولا غرو فقد أسرفوا في تقريظ أولياء نعمتهم وتبرير أعمالهم بالقدرالذي اشتطوا فيه في أحكامهم على خصومهم من قوى المعارضة فكان أقلّ ما يفعله المؤرخون هو تبرير أعمال السلاطين والحكام ، ومهما كانت أعمالهم ، والكف عن ذكر ما يُزعجهم من حقائق التاريخ ، وما لا يأذنون بكتابته .

لقد اهتم الملوك المستبدون بجذب العلماء إليهم بسلاسل الذهب والفضة والرتب والمناصب ، وكان غيرهم أشد انجذاباً، ووضع هؤلاء العلماء الرسميون قاعدة لأمرائهم ولأنفسهم هدموا بها القواعد التي قام بها أمر الدين والدنيا في الإسلام.

ويُروى عن المدائني أنه قال : أخبرني ابن شهاب بن عبد الله ، قال : قال لي خالد القسري : أكتب لي السيرة فقلت له :
فإنه يمر بي الشيء من سيرِ علي بن أبي طالب ، فأذكره ؟ قال : لا ، إلا أن تراه في قعر الجحيم .

  • هذا الحديث صورة مختصرة توضح لنا ضلوع الحُكّام في تحريف التاريخ وتزييف الحقائق فكيف بغيرها مما لا يُحصى .
  • فكل هذه المجازر التي أتينا على ذكرها وغيرها الكثير جاء من يُبررها ويُضفي عليها الشرعية بفتاوى لا إسلامية .
  • وكل تلك المناقب التي ثبتت جاء من يُسقطها ويُلبسها الآخرين .
  • ثم أن فقهاء ذلك الزمان كانوا يُسهمون بدورٍ فاعلٍ في اختيار الخلفاء وإضافة المشروعية عليهم .

فقد روى السيوطي أنه لما ثار الترك على المُستعين وقبضوا عليه وضربوه وطالبوه بأن يخلع نفسه أحضره القاضي ابن أبي الشوارب والشهود من الفقهاء وخلعوه 4

ولما قرر المهتدي بالله خلع المعتز جيء بالشهود من الفقهاء وغيرهم من الأعيان فشهدوا على المعتز أنه عاجز عن الخلافة واعترف بذلك ومد يده فبايع المهتدي .

ولما حُجر على الخليفة المعتمِد جمع الفقهاء والقضاة والأعيان وطلب منهم أن يخلعوه فخلعوه ، كذلك حين خُلِعَ القاهرُ أقرّ الفقهاء ثورة الجند عليه وولوا الراضي بالله وطلبوا من القاهر أن يخلع نفسه فأبى فقبض عليه الجند فقتلوه .

ومن الطريف أن فقهاء المساجد كانوا يراقبون هذه الصراعات ويبادرون على الفور برفع إسم الخليفة المخلوع أو المقتول من الخطبة ويضعون اسمَ الخليفة الجديد وهو في أحيان كثيرة يكون صبياً لم يبلغ الحلم 5

وحينما تولى الراشد بعد والده المسترشد أراد السلطان مسعود السلجوقي خلعه فجمع الفقهاء وكتب محضراً فيه شهادة طائفة بما جرى من الراشد من الظلم وأخذ الأموال وسفك الدماء وشرب الخمر واستفتاهم فيمن فعل ذلك هل تصح إمامته. ( كان الأولى أن تطبق هذه الفتوى على يزيد والوليد وأمثالهم مِمّن كانوا يتمتعون بهذه الصفات ) .
فأفتى الفقهاء بجواز خلعه ، وحُكِمَ بخلعه ، وبايعوا عمّه محمداً بن المستظهر ولقب ( المُقتفي لأمر الله ) ، وقُتِلَ الراشدُ بعد ذلك كما قتل أبوه من قبل .

ثم إن حكام بني العباس آنذاك استخدموا الفقهاء في محاربة الدولة الفاطمية في مصر والتي ضمّت إليها الشام وأصبحت تهدد الخلافة العباسية في بغداد ، وذلك من خلال حملات التشكيك التي شنوها حول نسبِ الفاطميين وقد كتب الفقهاء محاضر في ذلك وأشهدوا عليها من خضع لسلطانهم من الفقهاء.

ومما يترجم لنا تواطؤ الفقهاء مع حكام زمانهم قول ابن الجوزي عن الخليفة المستضي :

وفي خلافته انقضت دولة بني عبيد ( كان يُطلق هذا اللقب على الفاطميين وذلك على جهة التعصب ) وخطب له في مصر وضربت السكة بِإسمه وجاء البشير بذلك فغلقت الأسواق في بغداد وعملت القباب ، وصنفت كتاباً سميته "النصر على مصر" .

وقال الذهبي :

في أيامه ضعف الرفض ببغداد ووَهى ، وأمِن الناس ورُزق سعادة عظيمة في خلافته ، وخُطب له باليمن وبرقة ومصر إلى أسوان ودانت الملوك بطاعته .

وقال العماد الكاتب :

استفتح السلطان صلاح الدين سنة سبع وستين وخمسمائة بإقامة الخطبة في الجمعة الأولى منها بمصر لبني العباس وعفِت البدعة 6 وصفةُ الشرعة .

لقد كان أولئك القضاة والفقهاء طلاب دنيا وليسوا طلاب دين وآخرة، فواقعهم يُترجم ذلك ويدل عليه حيث سَخَّرَ أكثرهم دينه لدنيا غيره، كانوا دائما مع القوي وإن كان مبطلا وضد الضعيف وإن كان مُحقا فإذا ضَعُفَ القوي وساد غيره انتقلوا إليه وانتقصوا من كان قبله.
وقد كان لهم دور بارز مع سلاطين الدويلات التي قامت على أنقاض الدولة العباسية.

وهذه صورة مختصرة عن سلوكهم في العصر الأيوبي...

  • 1 كتاب المواجهة مع رسول الله وآله : المحامي أحمد حسين يعقوب.
  • 2 شرح الموطأ.
  • 3 الكشاف : للزمخشري – تفسير الاية 124.
  • 4 تاريخ الخلفاء.
  • 5 تاريخ الخلفاء.
  • 6 البدعة في عرف هؤلاء الفقهاء هو التشيع لأهل البيت عليهم السلام.