العلويون في لبنان:
محنة المواطن في جمهورية الطوائف..
عودٌ على بدء، وكأنّ التاريخ يأبى أن يطوي هذه الصفحة، وكأنّ عدد السنين التي مرّت لم يكن كافياً لإلغاء التباين بين القبائل ونسج هويّة للوطن.
ثمانية وثمانون عاماً قد انقضت، ولا تزال الهوية في لبنان تترنّح ما بين الطائفية والمذهبية، وكلٌّ مشكوك في انتمائه، والوطن يدور في دوامة العتمة.
عودٌ على بدء، أجل ولكي نحيط بما أشعل شارع سوريا في الأيام الماضية، علينا أن نعود إلى زمن الكاسورة في التبّانة، علينا أن نفهم تشكُّل المجتمع الطرابلسي اللبناني في العشرينات، وكيف أطلّ القرن العشرون على طرابلس. علينا أن نسأل، هل كانت طرابلس تعيش عتمة اللون الواحد في القرن التاسع عشر، أم كانت تزهو بالألوان المختلفة؟ وهل كانت هذه المدينة ــ القرية مدينة في القرن التاسع عشر أم قرية؟
إنّ النّاظر اليوم إلى مدينة طرابلس الفيحاء وإلى بنيتها الاجتماعية والاقتصادية يرى فيها نموذجاً فريداً ــ هجيناً إلى حدٍّ ما ــ يجمع ما بين ثقافتي المدينة والقرية. غير أنّ العودة بالزمن إلى ذكريات الجيل القديم، جيل ما قبل الانتداب والنكبة، تكشف عن صورة أخرى، صورة إذا ما أخضعت لقانون النسبية، فستُظهر طرابلس مدينة تفوق بمجدها الغابر مجد بيروت الحاضر، غير أنّ كلمة غابر لا تسمن ولا تغني من جوع.
طرابلس ما قبل 1920
قبل مؤتمر سان ريمو، لم تكن طرابلس ــ كما هو معروف ــ تنتمي إلى لبنان، وإنما كانت تمثِّل المدينة الأهم في الساحل السوري. وعلى هذه المدينة، دارت رُحى المعارك لتأكيد السيطرة على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، حرب انخرط فيها العلويون مباشرةً منذ العصر العباسي، حين كانت دولة الحمدانيين في شمال سوريا دولة علوية بامتياز، ومن ثم في إمارة بني عمار في طرابلس ــ آخر دولة حكمها العلويون في التاريخ ــ التي كانت المعقل الأصعب على الصليبيين الذين دمروها بعد سنين من المعارك من دون أن يهبّ أحد للدفاع عنها، إلى معارك التحرير مع الزنكي ونجله نور الدين اللذين إذا ما راجعت أسماء ضباط جيوشهما، فستجد بينهم العدد الكبير من العلويّين الذين آمنوا بالفعل المقاوم، إلى فترة الحكم الأيوبي ومن ثم زمن بيبرس حين كان أبناء هذه الطائفة ينحازون إلى مقاومة المحتل الغريب حيثما كان وكائناً من كان، بالرغم من الفتن والقلاقل التي أثارها النفعيون والوصوليون في تلك الأزمنة.
وكذلك كانت الحال بعد انتقال الحكم إلى العثمانيين، ولربما اختلفت درجة الأمان والاستقرار بحسب المزاج الحاكم في الآستانة، غير أنه ثابت في تاريخ المدينة أنّ القرن التاسع عشر عرف تنوّعاً في مذاهبها الدينية، وكان للعلويّين فيها وجود فاعل وذو أثر، كما كان لهم فيها مخاتير نذكر منهم علي خليل وبعده شخص آخر من آل المندراوي؛ وقد عرفت التبانة في تلك الحقبة بروزاً لعدد من التجار العلويّين من عائلات ميكائيل وخليل وعبد الرحمن وإرسلان، وكانت الكاسورة التي يملكها حسن علي خليل من أهم المراكز التجارية في المدينة.
في الفصل و الوصل
جلب مؤتمر سان ريمو بالذات، تغيّراً جذرياً على طرابلس، وخاصة بعد تأكيد وجود دولة لبنان الكبير. يومها لم يكن المجتمع الطرابلسي ليقبل فصله عن سوريا، ولم يقبل يومها أيضاً الانتداب ولا أن تكون مدينته عاصمة لبنان.
وتماماً كما النسيج الذي ينتمون إليه، لم يفهم العلويّون التناسق بين مبادئ ويلسون وقمع إرادات الشعوب. لم يدرك العرب يومها ازدواجية المعايير ولا النظرة الدونية التي كانت تضمرها الدبلوماسية الغربية لمجتمعاتهم. وكان العلويّون تماماً كسائر الطرابلسيّين يرفضون التقسيم وفصل طرابلس عن سوريا وإنشاء دويلة تقضم الساحل السوري، تحقيقاً للمشروع القديم القاضي بالسيطرة التامة على البحر الأبيض المتوسط عبر عزل الداخل العربي عن الساحل العربي وإخضاع هذا الساحل إلى أقليات دينية وعرقية بحسب مفهوم نظرية المجموعات الصغرى في الدبلوماسية الغربية.
عبّرت المرجعيات الروحية للعلويّين مباشرة عن الرفض لبرنامج التجزئة البنيوية، وكان للشيخ صالح العلي كلمته الشهيرة "نحن لسنا أقليات بل أجليات"، وكان أن هبّت المرجعيات الروحية العلوية لمقاومة الاستعمار عسكرياً بقيادة الشيخ المجاهد صالح العلي وسياسياً بإدارة العلامة المرجع الشيخ سليمان أحمد، وانقسم العلويون يومها إلى قسمين:
- أقليّة بقيادة جابر أفندي العباس وبعض العائلات الإقطاعية من الصف الثاني، دعمت مشروع الدويلة العلوية وتقسيم سوريا، وأُسندت إليها مراكز رئاسية وسياسية.
- أكثرية اتّبعت المرجعيات الروحية والقيادات الزمنية من زعماء العشائر والوجهاء والمثقفين الذين رفضوا التقسيم ورفضوا إنشاء دولة العلويين. ونورد هنا وثيقة تاريخية وقّعها زعماء العلويين في الساحل السوري موجهة إلى المندوب السامي الفرنسي وقد جاء فيها:
«فخامة المفوض السامي للجمهورية الفرنسية في سوريا ولبنان(...) بصفتنا الكتلة الممثلة لأكثرية سكان منطقة اللاذقية الساحقة من علويين وسنيين ومسيحيين، و المكلّفة من جانب هذه الأكثرية للتشرف بمقابلة فخامتكم والإعراب عن أماني الشعب الحقيقية الملتف حول فكرة استقلال سوريا و سيادتها جئنا نطلب من فخامتكم إكمالاً لهذا الاستقلال والسيادة المنشودين تحقيق الوحدة السورية بإدماج منطقة اللاذقية بها مع مراعاة فكرة لامركزية إدارية، مستنكرين انفصالنا عن سوريا للأضرار التي ألحقها هذا النظام بالشعب السوري عامة وبصورة خاصة بالشعب القاطن منطقة اللاذقية من جميع الوجوه: السياسية والاجتماعية والاقتصادية و الإدارية والدينية والثقافية، واضعين ثقتنا بالكتلة الوطنية.
وإننا بصفتنا نمثل الأغلبية الساحقة، نستنكر ادعاء فريق لا يمثّل سوى أقلية ضئيلة أتى ليعرب، مَسوقاً برغبة رجال حكومة اللاذقية، عن تمسّكه بالوضع الحاضر، تبريراً لسياسة رجال الحكومة. ونرجو من فخامتكم أن ترفعوا صوتنا هذا للجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الفرنسي ولعصبة الأمم.
التواقيع: شيخ ورئيس النميلاتية: علي كامل محمد.
شيخ و رئيس الحيدرية: علي ناصر. رئيس عشائر الخياطين: عباس منير. رئيس الكلبية: سليمان الأسد.
رئيس الكلبية الشمالية: محمد عزيز اسماعيل. زعيم الحدادين: لؤي شهاب. باسم الموارنة. رئيس عشيرة الدنادشة (الممثل السني): رباح دندش. نائب اللاذقية: أحمد ديب. نائب طرطوس (...)».
وقد توصّل العلويون، بالتكاتف والتنسيق مع سائر مكوّنات المجتمع والطوائف في سوريا، إلى إزالة الدويلات وإعادة الوحدة إلى الوطن السوري.
أما في طرابلس، فقد ثارت ثائرة العلويين تأييداً للثورة، وكان السنّة الطرابلسيون يرفدون الثورة بقيادة الزعيم الوطني المفتي عبد الحميد كرامي والشيخ الطيب الرافعي والدكتور كمال زودة، بالتنسيق مع الشيخ صالح العلي عبر ضابط الارتباط آنذاك محمّد حسن ديب ناصر.
العلويّون والمجتمع السياسي اللبناني
أدّى الانقسام المشار إليه أعلاه، إلى انفصام في المجتمع العلوي الطرابلسي بين القاعدة العلوية وزعامتها العشائرية، إذ كان معظم العلويين يدينون بالولاء العشائري لآل العباس ممثلين بزعيمهم جابر أفندي العباس الذي أُسند إليه مركز رئاسة الدويلة العلوية، في الوقت الذي انحاز فيه معظم الزعماء الآخرين من قيادات الصف الأول في تلك الأيام كآل إسماعيل وآل خيربك وآل الأسد وآل الجديد إلى المقاومة.
هذا الانفصام أدى إلى فقدان علويّي لبنان الارتباط بالمرجعية الزمنية، وآثروا الانضواء تحت زعامة آل كرامي في المدينة نظراً لدعم هؤلاء للمقاومة.
طائف من دون ممثّلين
بالتوازي مع ما تقدّم، كانت العائلات الروحية في لبنان تتكوّن في سياق زعامات زمنية، وكانت كل طائفة تقدّم زعامات الصف الأول في ذلك الزمن لتولي المراكز والتفاوض على الحصص، فكانت تلك الزعامات التقليدية تأخذ أدوارها تدريجياً في النظام المراد له أن يكون فيما بعد النظام الذي عرفه لبنان في الخمسينات والستينات والذي نعرفه اليوم، أي جمهورية الطوائف.
أدرك العلويون هذه الحقيقة في تلك المرحلة متأخرين، ولم يبدأ هذا الوعي بالتكوّن إلا في عهد الرئيس إميل إده حين طالب البعض منهم بإسناد مقعد الأقليات إليهم لكونهم كانوا أكثر من البروتستانت عدداً، من دون أي جدوى خاصة وأن المرجعيات الروحية في الطائفة رفضت منحهم أية فتوى يمكن أن تثير التفرقة في المجتمع الإسلامي حتى لو على سبيل توضيح الاختلاف الفقهي والمذهبي، بل كان جواب المشايخ بالإجماع أن المسلمين جميعهم عائلة واحدة ولا اختلاف بينهم والتفاضل بينهم يكون بالتقوى.
كان نتيجة لذلك أن كان العلويون الطائفة الوحيدة في لبنان من دون تمثيل نيابي وبالتالي من دون حقوق مدنية كاملة حتى ذهب البعض إلى الزعم أن الطائفة العلوية هي طائفة غير معترف بها في الجمهورية اللبنانية، وهذا ما تنفيه صراحة النصوص ولا سيما الجدول الملحق بالقانون 60 ل.ر. الصادر عام 1936، حين كانت الطوائف فيه سبع عشرة طائفة، وكانت المذاهب الإسلامية المعترف بها أربعة: السنة، الشيعة الدروز والعلويين.
علويّو طرابلس 1975
أسوة بالمجتمع الطرابلسي كان معظم العلويين من الطبقة الوسطى والفقيرة، باستثناء بعض أثرياء التجار من العائلات المعروفة. كما عرف معظمهم إنجازات مهمة في ميادين مختلفة، فكان وكيل شركة الفورد في الشمال محمود علي خليل. أما آل حبوس فكان لهم العديد من المصانع ودور السينما، كذلك كان محمد حسن ديب ناصر صناعياً بارعاً وقد أسس نقابة أرباب العمل والمهن الحرة في طرابلس مع جلال السكّري وياسر العرجه. أما شقيقه أحمد فكان من كبار التجار في باب التبانة، وكذلك كانت حال آل ميكائيل وآل خليل وباقي العائلات. أمّا أحمد حسن خليل فقد توصّل في الخمسينيات لأن يتبوّأ أوّل مركز يسند لمواطن طرابلسي في شركة نفط العراق ipc.
أما على صعيد الاجتماعي، فكانت توجهاتهم علمانية فكنت ترى في إخراج القيد العائلي العلوي وحدة وطنية من كل الطوائف والمذاهب إن لجهة المصاهرة أو لجهة التزاوج، فكنت ترى الأم السنية للابن العلوي والعمة الشيعية والخالة الدرزية أو المارونية أو الأرثوذكسية، فلم يعرف العلويون التعصب كما لم يعرف ذلك الطرابلسيون بأسرهم مسلمين كانوا أو مسيحيين، وكنت تجد الشباب العلوي منخرطاً في الأحزاب العلمانية. والجدير بالذكر أنه عند انقسام حزب البعث العربي الاشتراكي إلى فرع دمشق وفرع بغداد، كانت أكثرية العلويين من المحازبين من الفريق الذي عرف لاحقاً بالبعث العراقي.
غير أن هذه العلمانية المفرطة كانت وبالاً على الطائفة العلوية وأبنائها في جمهورية الطوائف، فحيث لا يمكن أن تنال حقّاً في الدولة إلا عبر انتمائك إلى قبيلتك، هذا الأمر حدا بالكثيرين من أبناء الطائفة إلى تغيير مذاهبهم إلى سنّة وشيعة ممّا أدى إلى تناقص دراماتيكي في أعداد أبناء الطائفة المسجّلين في سجلات النفوس.
وبالرغم من ذلك، توصّل العديد من العلويّين إلى التوظّف في إدارات الدولة في تلك الأزمنة بكفاءاتهم وعلاقاتهم الشخصية (المهندس أحمد درويش كان رئيس دائرة المساحة).
العلويّون وقانون الستّين
واستمرّ العلويّون بعيدين عن العمل الطائفي حتى أقرّ القانون الانتخابي لعام 1960 الشهير، حيث ارتفع عدد أعضاء المجلس النيابي إلى 99 عضواً وكان الرئيس شهاب قد اقترح أن يكون المقعد التاسع والتسعون من نصيب العلويين، غير أنّ اللعبة السياسية في لبنان حالت دون ذلك، ممّا أثار يقظة في صفوف الشباب ودعاهم إلى العمل على ترتيب البيت الداخلي للطائفة بعدما كان الكيانان الوحيدان للطائفة في لبنان هما الرابطة الخيرية الإسلامية العلوية ومسجد الإمام علي أبن أبي طالب.
تأسّست جمعيات كثيرة منها اتحاد الشباب العلوي، ونادي الفتوة، حركة الشبيبة العلوية (1969)، حركة الشباب العلوي (1972)، حركة النهضة العلوية (1972)، وكانت هذه الجمعيات والحركات تقوم بأنشطة اجتماعية وثقافية وسياسية إلى حدّ ما.
غير أن الحرب اللبنانية أسقطت باقي المشاريع وأبقت على المشروع السياسي الذي تمثل بحركة الشباب العلوي برئاسة النائب السابق علي عيد.
العلويون والحرب
كان اتساع رقعة الحرب واستعارها يضعان أبناء طرابلس أمام جدلية جديدة: هل يستطيعون حماية أنفسهم؟ وكان الكثيرون منهم مع تضخم الوجود الغريب الطارئ على المنطقة يفضّل البحث عن مكان آمن، فكان من نتائج الحرب تقهقر العلويين من باب التبانة وشوارع طرابلس المحيطة، إلى منطقة استحدثت كانت تعرف ببعل محسن، وكان لسير المعارك التي ضربت طرابلس وموجة التهجير فظائع أجبرت الكثيرين من أبناء المدينة، من مختلف الطوائف، على مغادرتها واللجوء إلى مناطق أكثر أمناً أو إلى مناطق ذات لون واحد بالنسبة إلى من لا تسمح له إمكاناته المالية بأن ينتقل بعيداً، فنشأ يومها ما عرف تاريخياً بمحور جبل محسن / التبانة.
مع الوقت، ومع اتخاذ الحرب منحى أكثر دموية وشراسة أصبح العلوي يشعر بوطأة الطائفية التي لم يكن يشعر بها من قبل.
كان نتيجة لاتفاق الطائف، أن أقر مقعدان نيابيان للطائفة، تحقيقاً لمطلب قديم منذ ما قبل جمهورية الاستقلال الأولى.
ونتيجة لإقرار الحقوق النيابية في جمهورية الطوائف استحق العلويون بموجب المادة 95 من الدستور حقوقهم أسوة بباقي الطوائف من موظفين في الفئة الأولى: سفير ومديرون عامّون ومدير فرع في الجامعة وعضو في مركز البحوث.
مع تفاقم التبرم، ورفض حالة الفيتو المفروضة على أبناء الطائفة، اندمج الشباب العلوي المثقف بالحركات النهضوية مع مواطنيهم في نسيج اجتماعي وطني، وخرقوا هذا الواقع المحتقن، عبر اتصالاتهم بالفعاليات السياسية في لبنان وبرئيس الوزراء (الشهيد) رفيق الحريري، ونجحوا في تحقيق ذلك.
ومن ثم برزت جمعيات كثيرة ضمن الطائفة بهدف الارتقاء من الواقع الذي فرضته الحرب إلى مستوى مقبول فبرز رجل الأعمال أحمد حبوس الذي حلّ محل النائب الأسبق علي عيد.
العلويّون والوجود السوري
كان للوجود العسكري السوري في لبنان أسبابه الاستراتيجية والعسكرية والأمنية، كما كان له آثاره الناتجة من احتكاك العسكر بالمدنيين (وخاصة السياسيين منهم)، وهذه آفة إذا ما أصابت أي جيش في العالم أعطبته مهما كان هذا الجيش انضباطياً.
ولعل الجيش السوري في لبنان كان في ممارساته أقل ارتداداً سلبياً من كثير من الجيوش التي أصيبت بهذه الآفة، ولم يسلم من تداعيات هذا الوجود لا المجتمع اللبناني ولا الجيش السوري.
غير أن الخصوصية هنا كانت في تعامل باقي الطوائف مع العلويين، فكان يفترض الآخر أن العلوي اللبناني يتمتع برعاية خاصة من العلوي السوري. والجدير بالذكر أن العلوي السوري الذي لم يمر بمعمودية المذهبية التي مر بها العلوي اللبناني، ما زال محافظاً على علمانيته ونظرته الشاملة للإسلام كما كانت في بدايات القرن العشرين، فكان لا يهتم إذا ما جاءه علوي لبناني، اللهم إلا إذا ربطته به صلة قرابة، غير أن الحوار الذي كان يدور كان حوار طرشان، فلم يكن العلوي السوري يفهم المصطلحات الطائفية والاصطفاف الطائفي بالحدة التي يتَّسم بها الوضع في لبنان. وعندما فهمها، أمعن في إنكار انتمائه الطائفي بل أصبح يرفض أن يمدّ يد العون للعلوي اللبناني لئلا يشعر بينه وبين نفسه بخيانة معتقداته الأساسية من علمانية ونبذ التعصب.
وهنا مرّة أخرى وقع العلوي اللبناني بين مطرقة طائفية أبناء وطنه، وسندان علمانية أبناء طائفته السوريين، فلم يكن له لا في العير و لا في النفير. فرض هذا الواقع نوعاً جديداً من الغربة على العلويين في لبنان فكان أحدهم يشعر بالتهميش، ولا يعنيه الصراع الذي يجريه أبناء طائفته على فتات المراكز التي أسندت إليهم، وأدرك أن النواب والمديرين والسفير هم غرباء عن همومه ومشاكله اليومية، فكان الناخب العلوي يسجل أدنى مستوى مشاركة في الانتخابات بين كل الطوائف، نسبة لم تتجاوز يوماً العشرين في المئة، مما يعني مقاطعة عامة على مقاييس مقاطعة 1992.
الصدمة
استمر الواقع على حاله، حتى 14/2/2005، حيث استفاق العلوي اللبناني على واقع جديد، فهو المتهم، وهو المستفيد من الوجود السوري... وراحت أبواق وسائل التحريض في الأحياء تنشط، وتنزع عن العلوي هويته، انتماءه إلى طرابلس وخُلِعَت على جبل محسن رتبة المربع الأمني. أما السيدة الأولى السابقة ــ التي عرفت تعاطفاً لا نظير له بين العلويين ــ فأغدقت ونجلها على العلويين رتباً أمنية، فجميعهم استخبارات سورية، وبالتالي جميعهم...
أمام كل هذا الضجيج، أدرك العلوي العادي أنه مطلوب منه أن يدفع فاتورة ما استفاد به المحرضون أنفسهم من الوجود السوري في لبنان، كل ذلك وما من معين ولا نصير، إلا جاره بالفقر وشريكه في الهم في التبانة.
كل هذه التطورات لم تكن بالحسبان، فلم يتوقع أحد أن يدفع المحروم ما تمتع به المترف.
- 3088 مشاهدة