خُطبتا صلاة الجُمُعَة في 29 آب 2015م

أُضيف بتاريخ الجمعة, 28/08/2015 - 08:47
(فيديو + مُلَخّص عن خطبتيّ صلاة الجُمُعَة في 29 آب 2014م)

  موضوع الخطبتين: (النهي الإلهي عن التكلّم بغير علم - على ماذا تبني أمرك حتى تميّز بين الباطل والحق - تجديد الولاية لأمير المؤمنين في كل صلاة جمعة)

- النَّهيُ أن يتكلّم الإنسان بغير علم أو أن يستقصيَ شيئاً لا علمَ له به ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ ..
- أين الأمر بأن نرُدَّ إلى الأئمة (ع) وألّا نرُدَّ عليهم!؟ لأنك بهذا تخرُجُ من الخُضوع للنَّص إلى القِياس بالرّأي والعمل بالهَوَى..
- لو أنّ من أشكل عليه شيء أو جَهِلَ شيئاً وقفَ عند ذلك الحَدّ ولم يتجاوزه بغير علم لم يجحد ولم يكفر...
- فليقف كُلٌّ مِنّا عند حدِّهِ فإنَّ العالمَ من عَرَفَ حَدَّهُ ووقفَ عِندَه. ولا يستصغِرَنَّ أحدٌ كلمةً تخرُجُ من فَمِه إذا كان يُفتي فيها بغير عِلم، فإذا كان يقولها وهو على غير بَصيرةٍ من أمرِهِ فإنّه من حق الله الأكبر.
- حق الله عز وجل على العِباد أن يقولوا ما يعلموا وأن يقفوا عند ما لا يعلموا...
- ما هي الشُبهَة وما حال الناس معها؟ الشُبهَةُ هي شيءٌ يُشبِهُ الحق، حتى تظُنَّ أنّه حق...
- أهواءٌ تُتَّبَع بالرأي وحُكمٌ يُخالف الصحيح من النصوص هو بدءُ وقوع الفِتن، مخالفة كتاب الله عز وجل وطاعة من ينطق عن رأيه علامة وقوع الفِتن...

-- كُلّ رجُلٍ ينبغي أن يكون له في حياتِهِ طريقٌ بَيّنٌ يسلُكُهُ يكون ممّا قد بنى عليه أمرهُ لكي يعرف كيف يُميّز الباطل من الحَق، وكيف يُميّز الخبيث من الطَيّب...
-- ما معنى قول الإمام الصادق عليه السلام: (أنا بنيت أمري على أربعةِ أشياء:
علمتُ أنّ عملي لا يعملهُ غيري فاجتهدت، وعلمتُ أنّ الله عز وجل مُطَّلِعٌ عليَّ فاستحييت، وعلمتُ أنّ رزقي لا يأخُذُهُ غيري فاطمأننت، وعلمتُ أنّ الموت آخر أمرٍ فاستعددت.)

--- من أراد أن يُجدّد الوَلاية لأمير المؤمنين التي جعلها الله في عُنُقِه فأين يكون من المساجد في يوم الجُمُعَة؟!.
--- هذا اليوم الذي افترض الله عز وجل فيه على خلقه يوم أخذ عليهم الميثاق بالنبوة، وبالوَلاية، ما كان ليكون مرَّةً واحدةً في أعمارهم، وإنّما لينظُرَ ماذا يفعلون بهذا العَهد وماذا يفعلون بهذا الميثاق..
--- هو اليوم الذي من صَلّى فيه كان ممّن بايع علياً بن أبي طالب عليه السلام، ومن قعد عنه فهو كالقاعد عن بَيعَةِ أمير المؤمنين، ومن هَوَّنَهُ واستخف به واستهان به وزهّد الناس فيه وأنكرهُ عليهم فهو...
--- لقد سمعنا وقرأنا من رجال هذه الطائفة ومن علمائها غفر الله لهم من كان يُمدح بكثرة مُلازمته المساجد وما سمعنا من مُدح لأنّه أهمل المساجد. ما سمعنا من مُدح لأنّه أنكر الصلاة، وما سمعنا بمن مُدح لأنّه غفل عن أمر الله عز وجل...
--- من مديح الشيخ عبد الكريم مُحمد للمغفور له الشيخ عبد الكريم عمران رحمة الله تعالى ورِضوانُهُ عليهم يصِفُهُ بملازمة المساجد قوله...
--- فلننظر أيُها الأخوة فيما كان عليه أسلافُنا من العُلماء السابقين فإنّهم هم القُدوة وإنّهم هُم المَثَل الذي يجب أن نتمثَّلَهُ وأن نقتدِيَ به وأن نسترجِعَ ما كانوا عليه.


  الخُطبة الأولى:

  قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ الإسراء (36)
في هذه الآية كما هو بَيّنٌ لفظتها النَّهيُ أن يتكلّم الإنسان بغير علم أو أن يستقصيَ شيئاً لا علمَ له به ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ فإنّه قد ينتقل المرء مع كلامه بغير معرفةٍ ولا عِلمٍ من الإيمان الذي هو فيه إلى الجحود وقد يصل به ذلك الكلام إلى ما بعد الجنون، وما يكون بعد الجنون إلّا الكُفرُ بالله !

الكلام بغير عِلمٍ نُهِيَ عنه لأنّه وضعٌ للشيء في غير موضعه ولأنه بعد هذا تجاوزٌ للعهد الذي أُخِذَ من الله عز وجل لأنبيائه ولأهل بيته الطاهرين، لا يُوجد شيءٌ في العلم إلّا له حَدٌّ، ولا يوجد شيءٌ كما جاء عنهم عليهم السلام إلّا له أصلٌ في كتاب الله لكن لا تبلُغُهُ عُقول الرجال. والذي يخوض في كُلّ شيء يُسألُ أين الردُّ وأين التسليم؟

إنّه إذا كان المرءُ عالماً في كُلّ شيء –ولا يستطيع أن يكون عالماً بكل شيء- فأين الرَّدُ إلى الأئمّة؟ أين ما قالوه من أنَّ الأمور ثلاثةٌ: أمرٌ تبيّن لك رُشدُهُ فاتّبعهُ، وأمرٌ تبيّن لك غِيُّهُ فاجتنبهُ، وأمرٌ أَشكَلَ عليكَ أو اشتكل عليك أو التبس عليك فرُدَّهُ إلى الله ورسولهِ وإلى أولي العلم، ورُدَّهُ إلى أولي الأمر، ورُدّهُ إلى الذين ألقى إليهم رسول الله ص وآله وسلّم من العلم ما لم يُلقِهِ إلى غيرهم من الخَلق.

فأين الأمر بأن نرُدَّ إليهم وألّا نرُدَّ عليهم!؟ ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ لأنك بهذا تخرُجُ من الخُضوع للنَّص إلى القِياس بالرّأي والعمل بالهَوَى، وهذا هو الذي أخرجَ إبليس حين قال ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ ص (76) فهذا كما تعلمون أوّلُ قِياسٍ جَرَى ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ .

﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ يقول الإمام الصادق عليه السلام (لو أنَّ العِبادة إذا جَهِلوا وقفوا لم يجحدوا ولم يكفروا) لو أنّ من أشكل عليه شيء أو جَهِلَ شيئاً وقفَ عند ذلك الحَدّ ولم يتجاوزه بغير علم لم يجحد ولم يكفر ولكنه إذا تجاوز هذا فقد دخل في الجحود وقد يصل به الأمر إلى أن يدخل في حَدّ الكُفر.

وليس الأمر سَوَاءٌ أكان صغيراً أو كبيراً يُقاس بالذي نرى ولكن لأنّ الله عز وجل واحد ولأنّ النبيّ واحد ولأن الحق واحد ولا يجوز أن نَعُدَّ خطيئةً أصغر من خَطيئة أو خطيئة أكبر من خَطيئة من جِهَةِ ما تؤول إليه من المَعصية (ولا تنظروا إلى صِغَر الخطيئة لكن انظروا إلى من عصيت).

وفي كثير ممّا نُبّهَ عليه هناك ما يُعرف بالشُبهَة فما هي تِلكَ الشُبهَة؟

الشُبهَةُ هي شيءٌ يُشبِهُ الحق، حتى تظُنَّ أنّه حق. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (إنّما سُمِّيَت الشُبهَةُ شُبهةً لأنّها تُشبهُ الحق) كلامٌ إذا سمعته رأيتهُ يُشبه الحق ولكنّه مُشْكِلٌ عليك. هنا كيف ينظُرُ إليها الناس؟
(إنّما سُمِّيَت الشُبهَةُ شُبهةً لأنّها تُشبهُ الحق، فأمّا أولياء الله فدعاؤهم فيها اليقين، ودليلهم سَمْتُ الهُدى، وأمّا أعداء الله فدعاؤهم الضلال، ودليلهم العَمى، فلا ينجو من الموت من خافه، ولا يُعطى البَقاءَ من أحَبَّه)
إذا رأيت مثل هذا الأمر، رأيتَ شيئاً يُشبه الحَق، فانظر حينئذٍ بنور اليقين الذي أعطاك الله عز وجل، لتكون من أولياء الله فإنّ من لم يكن من أولياء الله كان من أولياء الشيطان.
فإنّ الأمور حقٌ وباطل، وإنّما هو الإيمان والكُفر، وإنّما هي الجنّة والنار ولا ثالث لهما.
إمّا أن تكون من أهل الحق وإمّا أن تكون من أهل الباطل.

وما وقعت فِتنةٌ في الأرض إلّا كان مبدؤها اتباعُ الهَوَى وإلّا كان ابتداؤها ابتداع أحكامٍ تُخالفُ كتاب الله عز وجل، وطاعةُ رجالٍ على غير دين الله عز وجل، فهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول (إنّما بَدءُ وقوعِ الفِتَن أهواءٌ تُتَّبَع، وأحكامٌ تُبتَدَع، يُخالفُ فيها كتابُ الله، وليتولّى عليها رِجالٌ رِجالاً على غير دين الله).
أهواءٌ تُتَّبَع بالرأي وحُكمٌ يُخالف الصحيح من النصوص هو بدءُ وقوع الفِتن، مخالفة كتاب الله عز وجل وطاعة من ينطق عن رأيه علامة وقوع الفِتن.
والفتنة إذا جاءت أضلّت البصير وتحيّر فيها اللبيب حتى لا يستطيع أن يجد منها مَخرجاً...

(فلو أنّ الباطل خَلَصَ مِن مِزاج الحَق لم يخَفَ على المُهتدين، ولو أنّ الحق خَلَصَ من لَبْسِ الباطِل لانقطعت عنه ألسُنُ المُعاندين، ولكن يُؤخذُ من هذا ضِرسٌ ومن هذا ضِرسٌ فيُمزجان) الضرس هو الربطة من الحشيش، والضرس أيضاً هو لباس الشيء. يُؤخذ ضِرسٌ من الحق، قبضةٌ من الحق وقبضةٌ من الباطل، فهنالك حين تُمزج القبضتان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحُسنى. هنالك عند هذا من لم يَستضيء بنور اليقين يستولي عليه الشيطان، وإذا استولى عليه الشيطان أخرجه وأبعدهُ كما أُخرج وأُبعِد وطُرد من الجنّة.

الوقوف عندما يُشكِلُ الوقوف عند ما لا نعرف له وَجهاً هو خيرٌ من أن نتقحّمَ فيما يُهلكُنا ، وهو خيرٌ من الرَّدِّ على الأئمّة مكانَ أن نرُدَّ إليهم للذي أُمرنا به فيما يشتكل علينا أو يَصعُبُ فَهمُهُ.
فليقف كُلٌّ مِنّا عند حدِّهِ فإنَّ العالمَ من عَرَفَ حَدَّهُ ووقفَ عِندَه. ولا يستصغِرَنَّ أحدٌ كلمةً تخرُجُ من فَمِه إذا كان يُفتي فيها بغير عِلم، فإذا كان يقولها وهو على غير بَصيرةٍ من أمرِهِ فإنّه من حق الله الأكبر.
حق الله عز وجل على العِباد أن يقولوا ما يعلموا وأن يقفوا عند ما لا يعلموا. هذا حق الله عز وجل لمن أراد أن يُعطِيَ كُلَّ ذي حَقٍّ حقّهُ فليتثبّت فإنّه ما أُمِرَ بشيء كما أُمِرَ بالتثبُّت، سَوَاءٌ إذا جاءك نبأٌ من الفاسق كما جاء في كتاب الله عز وجل ﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾ وسَواءٌ إذا وَرَدَ عليك الأمر ممّا تسمعُهُ أن تتثبّت في كُل شيء إذا أجبتَ وإذا سألتَ وإذا مَدَحتَ وإذا ذممتَ وإذا أكلتَ وإذا شَربتَ في كُلّ شيءٍ ينبغي لك أن تتأنّى وأن تتثبَّت فإنّ الأمر من الله عز وجل كما جاء في الحديث (فإنّ العَجَلَةَ من الشيطان) .

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممّن يتبيّن إذا سمع، وممّن يتفكّر إذا قيل له، وممّن يقف عند ما يجهله، وممّن لا يكون في قلبه أثرُ جُرأةٍ على اتّباعِ ما لم يعلم، وعلى المُجادلةِ فيما لم يفقه... اللهم صلّ على محمد وآل محمد..

  الخُطبة الثانية:
  لكل شيء في هذه الدنيا حَدّ ولكُلّ مخلوقٍ مِنّا أجَل، هو منه في فُسحَةٍ حتّى يأتيَ أمرُ الله عز وجل، فكُلّ رجُلٍ ينبغي أن يكون له في حياتِهِ طريقٌ بَيّنٌ يسلُكُهُ يكون ممّا قد بنى عليه أمرهُ لكي يعرف كيف يُميّز الباطل من الحَق، وكيف يُميّز الخبيث من الطَيّب.

سُئِلَ الإمام الصادق عليه السلام وقد جاء هذا الحديث منسوباً إلى غيره حين سُئل على ماذا بَنَيتَ أَمرَك؟
(أنا بنيت أمري على أربعةِ أشياء:
علمتُ أنّ عملي لا يعملهُ غيري فاجتهدت،
وعلمتُ أنّ الله عز وجل مُطَّلِعٌ عليَّ فاستحييت،
وعلمتُ أنّ رزقي لا يأخُذُهُ غيري فاطمأننت،
وعلمتُ أنّ الموت آخر أمرٍ فاستعددت.)

الإجتهادُ والإستعداد والطُمأنينة من علم وكُلّنا نعلم أنّه ما من رجلٍ يحملُ من ثواب غيره إذا لم يكن له في الأصل من العمل ما يستحق به ذلك الثواب وأنّه لا تزروا وازرةٌ وزر أُخرى كما قال الله عز وجل، فهذا الإمام الصادق عليه السلام يقول: (علمتُ أنّ عملي لا يعمَلهُ غيري) الذي فُرِضَ علينا والذي كُلّفنا أن نعمَله لا يجوز أن ننتظر حتى يأتيَ غيرُنا ليعمَلهُ فإنّ الذي فُرضَ عليك هو ما يجب عليك أن تفعلهُ ولن يفعَلُهُ غيرك.
من يستطيع أن يُصَلّيَ عن غيره؟! ومن يستطيع أن يصوم عن غيره؟! وهل يكون امتناعُكَ عن الحرام امتناعاً عن غيرك؟! هل يكون قصدُكَ في طلب الحلال قصداً لغيرك؟! لا. هو قصدٌ لك، والذي فُرِضَ عليك واجبٌ عليك إن لم تعمَلهُ لن تجد من يعمل هذا العمَل عنك.
(علمتُ أنّ عملي لا يعملهُ غيري فاجتهدت) اجتهدت في أن أعمل ذلك العَمَل الذي فُرِضَ عَلَيّ وهو الذي سيسألُني الله عزّ وجلّ عنه.

(وعلمتُ أنّ الله عز وجل مُطَّلِعٌ عليَّ فاستحييت) استحييتُ من معصية الله عز وجل، من مِنّا يستطيع أن يخرُجَ من سُلطان الله؟! ما من مَخلوقٍ يستطيع أن يخرُجَ من سُلطان الله، وما من مَخلوقٍ يستطيع أن يحتجب عن الله عز وجل، أو أن يفعل شيئاً يغيب عِلمُه عن الله عز وجل.
إنّه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلقَ وهو اللطيف الخبير، من أسَرَّ قوله ومن جَهَر به ومن فَعَل الخير علانية ومن فعله سِرّاً ومن عصى علانية ومن عصى سِرّاً كُلّه عند الله سبحانه وتعالى محفوظٌ لا يَضيعُ منه مِثقالُ ذَرَّة. ولكن ألا ينبغي للذي يُقدِمُ على المَعصِيَة أن يتذكّر أن الله عز وجل مُطَّلِعٌ عليه! في جميع أحوالِهِ إذا نوى وإذا فعل وإذا أضمَرَ وإذا لم يُضمِر، ينبغي له أن يعلم أنّ الله عز وجل مُطّلعٌ عليه وأنّه كيفما حاول وكيفما اجتهد لن يستطيع أن يُخفِيَ نيّته عن الله عز وجل فليستحي حين يتذكر أن الله عزّ وجل مُطّلعٌ عليه. (وعلمتُ أنّ الله عز وجل مُطَّلِعٌ عليَّ فاستحييت)

(وعلمتُ أنّ رزقي لا يأخُذُهُ غيري فاطمأننت)
ما قَسَم الله عز وجل للعِباد فإنّ الأمر كما قال مولانا أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كُلّ نفسٍ بما قُسِّمَ لها بدون زيادةٍ أو نُقصان) فلا يستطيع أحدٌ أن يأخُذَ أكثر ممّا قُسِّمَ له ولا يضُرُّهُ أن يُسابقه إليه غيرُهُ إنّما فرض الله عز وجل لك من الرزق لن يأكُلَهُ غيرك.

(وعلمتُ أنّ الموت آخر أمرٍ سأصيرُ إليه فاستعددت) فاستعددت لذلك اليوم الذي سيأتيني ولا بُدّ منه.
هذا الذي نحن عليه اليوم من غفلةٍ عن ذلك اليوم الذي لا بُدّ أن يأتي وإذا جاء حينئذٍ لا ينفع نفسٌ إلا ما تكون قد عمِلت من قبل ولا يستطيع أحدنا أن يَزيد على عمَلِهِ شيئاً، حينئذٍ يَوَدُّ لو أنّه عَمِلَ صالحا ويتمنّى لو أنّه يرجع إلى الدنيا لو كان بقليل من الدقائق لعلّه لما يرى من هَول ما يراه يعمل شيئاً يُخفّفُ عنه ذلك الذي هو فيه.
ألّا أكون على ما أنا فيه بعدما أنعَمَ الله عز وجل وبعدما هدى أنبياؤهُ أكون بعد هذا ممّن لم يسترشد إلى الخير ومّن لم يعمل عملاً يحملهُ معه زاداً. ومن يرضى أن يُسافر مع قومٍ يحملون الطعام والشراب وهو لا يحمل شيئاً.
فإذا كان الزاد في كتاب الله عز وجل الذي يجب علينا أن نتزوّده هو التقوى ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ﴾ البقرة (197) والتقوى ينبغي أن يكون الإنسان قد حَفِظَ فيها لسانه فلا تنفعُ التقوى إذا لم يسلَم الناس من الأذى.

فلننظر يا عباد الله فيما نحن عليه ولنجتهد أن نعمل ذلك العمل الذي فُرض علينا، الذي لا يعمله غيرنا، فينبغي لنا أن نجتهد فيه لأن الله عز وجل فرضه علينا.

  يومُ الجُمُعَة وعظمته وشرف وفضله..
  ممّا أنعم الله عز وجل به حين جمع خلقَه أن أخذ عليهم الميثاق للولاية لرسول الله ولأهل بيته الطاهرين، كما جاء في حديث أهل بيت رسول الله ص وآله وسلم، وجعل للخلق من ذلك اليوم يوم الجُمُعة. جعل لهم هذا اليوم الذي يجتمعون فيه في صلاة الجُمُعَة تذكيراً بفضل هذا اليوم وإجلالاً لشأن هذا اليوم وتعظيماً لشرف هذا اليوم الذي أخذ الله عز وجل فيه الميثاق على الخَلق لللإقرار بنبوّة مُحمّد وبولاية عليّ عليه السلام.

هذا هو اليوم الذي جُمع فيه الخَلق فمن أراد أن يُجدّد الوَلاية لأمير المؤمنين التي جعلها الله في عُنُقِه فأين يكون من المساجد في يوم الجُمُعَة؟!
أين يكون من تلك الصلاة التي قال الله عز وجل فيها ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ الجمعة (9) .
أين يكون من والى أو من يقول أنا أُوالي علياً عليه السلام إن لم يكن له في هذا اليوم مَوقفٌ يدُلُّ على صِدقِ وَلائه لأمير المؤمنين عليه السلام.
أم يحسَبُ أحدُنا أنّه يَكتفي إذا تكلّم أو استعمل هذه الألفاظ ونطق بها؟!. لو كان القول وحده يكفي لما فرض الله عز وجل العَمَل على أحد.
هذا اليوم وفي هذه الصلاة تجديد العَهدِ لأمير المؤمنين عليه السلام، والذي يحضُرُ الصلاة في يوم الجُمُعة ساعياً إلى ذِكرِ الله عز وجل كما أمر الله تعالى في كتابه الكريم، فإنّما ناظرٌ من هذا الموقف ما أُخِذَ عليه من العهد والميثاق من الإقرار لرسول الله بالنبوّة ولأمير المؤمنين بالوَلايَة.
هنا من حَضَرَ في مِثل هذا اليوم، من صلّى ما فرض الله عز وجل عليه في جماعة التي فرضها الله عز وجل عليه فإنّه يُبايع أمير المؤمنين علياً عليه السلام، ويُصدّقُ ما كان من دعوة رسول الله ص وآله وسلم يوم قال (اللهم والِ من والاه ومن عادِ من عاداه)
ومن قعد عن هذا فإنّه كالقاعد عن بيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

فهذا االيوم الذي افترض الله عز وجل فيه على خلقه يوم أخذ عليهم الميثاق بالنبوة، وبالوَلاية، ما كان ليكون مرَّةً واحدةً في أعمارهم، وإنّما لينظُرَ ماذا يفعلون بهذا العَهد وماذا يفعلون بهذا الميثاق.
إذا نودي إلى ذِكرِ الله عز وجل، وإذا نودي إلى طاعة الله عز وجل، أليست طاعةُ رسول الله طاعةً لله عز وجل، أليس من يُطِع الرسول فقد أطاع الله.

هذا بعضُ ما فُضّل به يوم الجُمُعَة على غيره من الأيام، نعم هو اليوم الذي من صَلّى فيه كان ممّن بايع علياً بن أبي طالب عليه السلام، ومن قعد عنه فهو كالقاعد عن بَيعَةِ أمير المؤمنين.
ومن هَوَّنَهُ واستخف به واستهان به وزهّد الناس فيه وأنكرهُ عليهم فهو كالذي قال الله سبحانه وتعالى فيه ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ البقرة (114).
الذي يستنكر هذا الأمر ويستخف به إنّما هو ليس مُستخفاً بمن حَضَرَ في المسجد، إنّهُ مُستخفٌ بوَلايَةِ عليّ، لأنّ الذي أخذ الميثاق على العَهد هو الله رب العالمين وليس المَخلوق. من قَعَد عنه من غير عِلّةٍ ولا عُذرٍ يعلمه الله عز وجل فهو كالمُتخلّف عن بَيعَةِ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

لقد كان من رجال هذه الجبال علماء وحُلماء وأبرار وكان لهم فضلٌ كبيرٌ في تنبيه الناس على كثيرٍ من الأخطاء التي كانت في أذهانهم والذي يُحبّ رجُلاً فمن البديهِيّ أن يكون لذلك الرجل عنده من القَدرِ ما يحمله على تقليدِهِ وإن كان على غير بَصيرةٍ من أمره، أو على الإقتداء به في أوسط الأمور أو على طاعته في خيرها.

لقد سمعنا وقرأنا من رجال هذه الطائفة ومن علمائها غفر الله لهم من كان يُمدح بكثرة مُلازمته المساجد وما سمعنا من مُدح لأنّه أهمل المساجد. ما سمعنا من مُدح لأنّه أنكر الصلاة، وما سمعنا بمن مُدح لأنّه غفل عن أمر الله عز وجل، إنّما سمعنا من مُدِحَ لأنه كان يُلازم المساجد.

في كتاب اللوعة الخَرساء هذا كتابٌ جُمِعَت فيه القصائد والكلمات التي قيلت في رِثاء المغفور له الشيخ عبد الكريم عمران رحمة الله تعالى ورِضوانُهُ عليه. كان ممّا مَدَحَهُ به الشيخ عبد الكريم مُحمد رحمة الله تعالى ورضوانه عليه يصِفُهُ بملازمة المساجد قال:

عبد الكريم بن عمران الذي عمَرَت   به المساجد بل فيها قضى العُمُـرَ
ما انفكّ في طاعة الرحمن مُجتهداً   على الصلاة مدى الأوقات مُصطبرا
حتّى تشكّت لثِقلِ الجسـم من ورمٍ   رجلاه عند القيام الضَعفَ والضرَرَ

ما زال هذا الرجُلُ يُصلّي حتى تورّمت قدماه من كثرة ما وقف للصلاة.

فتىً عن القولِ جهراً بالتجهّد لا   إله في الكون إلاّ الله ما فَتَرَ
كـأنّ أعطاره للنُطـقِ ألسِنـةٌ   تُسبّح الله سِراً إن به جَهَـرَ

فلننظر أيُها الأخوة فيما كان عليه أسلافُنا من العُلماء السابقين فإنّهم هم القُدوة وإنّهم هُم المَثَل الذي يجب أن نتمثَّلَهُ وأن نقتدِيَ به وأن نسترجِعَ ما كانوا عليه.
....