الإبتلاء والحكمة منه؛ كيفَ رَدُّ الأنبياء على المستهزئين.. خُطبتا صلاة الجمعة 4 أيلول 2015م.

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 02/11/2016 - 02:08
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
مُوْجَزُ خُطْبَتَي الجُمُعَة 4\ أيلول \ 2015.
الخُطْبَةُ الأُوْلَى: ردُّ الأنبياء على من كان يستهزئ بهم.
وَفِي الخُطْبَةِ الآخِرَة: الإبتلاء والحكمة منه.


  الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
  ...أمّا بعدُ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه...

 

  خِطابُ كُلِّ امرِئٍ بِقَدْرِ ما يُحسِنُهُ مِنَ العِلم، وبِقَدرِ ما بَلَغَ مِنَ الحِلْمِ ومِنَ كَظْمِ الغَيْظ، وكُلَّما استَعمَلَ الحِلم في كلامِهِ واستعمَلَ العِلمَ في كَلامِهِ، عُرِفَ قَدْرُهُ. (وإنَما المرءُ مَخبوءٌ تحتَ طَيِّ لِسانِه فمتى تَكَلَّمَ عُرِفَ قَدْرُهُ، فتكَلَّموا في العِلْمِ تَجُلُّ أقْدَارُكُم) على ما رُوِيَ عَن أمير المؤمنين عليّ بنِ أبي طالب عليه السلام.

  وأعظَمُ ما يكونُ مِنَ الحِلْم حينَ يكونُ تَحَلُّمًّا في مَوقِفٍ يستَفِزّ، أو دفعًا لكلمةٍ فيها شيءٌ مِنَ الشِّدَّة، أو شيءٌ مِنَ الإستخفاف.

  لقد كانَ الأنبياء عليهُمُ السلام إذا نَصَحوا لأقوامِهِم، كانَ رَدُّ أقوامِهِم عليهِم بالإستخفاف بهم، وبالإستخفاف بمن آمَنَ بهم أو بمن اتَّبَعَهُم، فما رَدُّوا عليهم إلّا رَدًّا جميلًا أنَّهُم ذَكَّروهُم بأمرِ اللهِ سبحانه وتعالى، وذكَّروهُم بما وَعَدَهُم مِن تَرغيبٍ أو ترهيب: فلما كانوا مُتَّهَمُونَ بأنَّهُم يَفترون على الله كانوا يقولون (حِسبُنا على اللهِ سُبحانه وتعالى) إن كُنَّا قد افترينا شيئًا فإنَّمَا افتراؤنا علينا تَبِعَةُ ذلكَ الأمر، إنَّما هي علينا وليست عليكُم {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} هود\35.

  فما حكى اللهُ سبحانه وتعالى من أحوال أنبيائهِ أَنَّهُم كانوا يُذَكِّرونَ أقوامَهُم بالإستِغفار، وبالتَّوبَة، وبالرُّجوعِ إلى ما هَجَروه، وما أهملوه، مِن حَقِّ الله سبحانه وتعالى، فكانوا يرُدُّونَ عليهم بالإستخفاف وبالسُّخرية، فما أرسَلَ الله سبحانه وتعالى نبيًّا إلّا مُذَكِّرًا قَومَهُ ألّا تعبُدوا إلّا الله. ولقد كان مِن حِكايَة ما كان مِن حالِ نبيِّهِ نوح أنَّهُ نَصَحَ لقومِهِ أن يستغفروا، وأن يتوبوا إلى الله، وأن يرجعوا عَمَّا كانوا عليه، فقال سُبحانه وتعالى يَصِفُ ما كان مِن تِلكَ الحال، ويُبَيِّنُ ماذا قالَ لهُ قَومُهُ، وماذا قال لهم، ما نَصَحَهُم إلّا أن لا يعبُدُوا إلّا الله:
  {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ..(29)} سورة هود.

  هؤلاء الذين اجتمعوا حولهُ، قال فيهم من لم يَتَّبِع ولم يُطِع كلامَهُ، أنَّ هؤلاء هم أراذِلُ القوم، هؤلاء قومٌ أو فئةٌ من النَّاس لا قيمةَ لهُم فاطرُدهُم حتى نُؤمِن، حتى نكونَ مَعَك، فإنَّا لا نرضى أن نكون مع هؤلاء، فجادلهم بأنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى أعلَمُ بما في نُفوسِهِم، إنه إذا طردهم فقد صارَ منَ الظالمين {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} هود\30. فإنَّهُ ما ادّعى شيئًا مِمَّا كان يُظَنُّ أنَّهُ يَدَّعيه، فنفى عن نفسِهِ أن يكون قد عَلِمَ الغَيب، أو أنَّ عِندَهُ خزائِنَ الله، أو أنَّهُ مَلَكٌ! (اللهَ سُبحانه وتعالى أعلَمُ بما في نُفوسِ هؤلاء) إن كانوا على يقينٍ مِمَّا يقولون أم لم يكونوا! فإنَّ أمرَهُم إلى اللهِ سبحانه وتعالى.

  وماذا قال قوم هودٍ {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ (أي مَسَّكَ شيءٌ مِنَ الجُنون أو مِنَ التَّخَبُّط) قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} هود.

  وماذا قال قومُ شُعَيب!؟ {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} هود\91. لولا قومُكَ لرجمناكَ ولعَذَّبناك، وما أنتَ فينا إلّا ضعيفٌ لا يُؤْبَهُ لهُ ولا يُلتَفَتُ إليه.

  هؤلاء أجابهُم الأنبياء بالرَّدِّ الجَميل، أنَّهُم إن كانوا قد اتَّهَموهُم بأنَّهُم يفترون على الله، فإنمّا حِسابُهُم على الله وليس على الخَلْق.

  في هذا بَعَثَ اللهُ سبحانه وتعالى أنبياءه، يُقالُ لهُم أنتُم ضُعفاء! ولولا أقوامُكُم لرجمناكُم، أو يسخرونَ بهم، ولكن لا يكونُ رَدُّ النَّبِيِّ على مَن استَخَفَّ به إلّا بالحُسنى، وإلّا بكَظْمِ الغَيْظ، وإلّا بالصَّبرِ على الأذى.

  هؤلاء الذين اختارهُم الله سبحانه وتعالى لم يُلزِموا الخَلق بشيء {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} هود\28. {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هود\34.

  لا ينفعُ نُصْحُ نبيّ، ولا نُصْحُ وَلِيّ، إن لم تَكُن قَد سَبَقَت الحُسنى لمن يُنصَحُ له فاستجاب، وإنّهُ إن استجابَ فقد نَفَعَ نَفسَهُ وأَمِنَ العَذاب، وإن لم يَستَجِب فليس لأحدٍ أن يُكرِهَهُ على شَيء، فاستَنَّ مُستَنٌّ واقتَدى مُقتَدٍ بأنبياءِ الله أنَّهُم إذا طُعِنَ عليهِم أو اتُّهِموا لم يخرجوا في رَدِّهِم عن الرَّدِّ الجَميل، وعن الحِلم، وعَن كّظمِ الغَيظ، وعَن الصَّبر، فإنَّهُ لأمثالِ هؤلاء يُقتَدَى.

  وأينَ نكونُ نحنُ ممَّن جَعَلَهُ اللهُ نبيًّا!؟ وشَرَّفَهُ، وكَرَّمَهُ، بأن أمَرَهُ بأن يُبَلِّغَ رِسالاتِهِ إلى النَّاس، ثُمَّ قيلَ فيه ما قيل، فأَعْرَضَ عن الرَّد، أينَ يكونُ قَدْرُنا مِن قَدْرِ هؤلاء! إنَّهُم إذا كانوا يَصبِرون على الأذى، على ما تَبَيَّنَ في كِتاب الله، فإنَّ مَن أَحَبَّهُم أو مَن اقتَدَى بهم أو من أرادَ الإقتِداءَ بهم، فإنَّ التِزامَ أفعالِهِم، وإنَّ اتِّباعَهُم فيما كانوا عليه، هوَ خيرُ ما يُبَيِّنُ تَصديقَ النَّبِيّ مِن تكذيبه.

  إن قيل فيهِم ماقيل فكان رَدُّهُم جميلًا، وكان صَبرُهُم على الأذى جميلًا، لِمِثْلِ هذا مَن أرادَ أن يبلُغَ دَرَجَةَ الصَّابِرين فعليهِ إذا أُنكِرَ عليه شيء أن يرُدَّهُ رَدًّا جميلًا، فإنَّهُ لم يَسْلَمِ الأنبياء مِنَ الطَّعْن ومِنَ الإتِّهام، وإنّه إذا لَم يَسْلَمِ الأنبياء فلا يَطْمَعَنَّ أَحَدٌ مِن غيرِهِم مِنَ الخَلْق أن يَسْلَمَ مِنَ الطَّعْنِ ومِنَ الإتِّهام.

  ولكن برَدِّهِ وبموقِفِهِ مَن اتَّبَعَ نبيًّا مُرسَلًا مِنَ الله، ومَن اتَّبَعَ أو شابَهَ في رَدِّهِ أقوامًا أنكروا على أنبيائهِم كلِمَةَ الحَق، الذي يستعمِلُ ما كان يستعمِلُهُ هؤلاء بما وَصفوا به أنبياءهُم كما قال قومُ شُعَيب واتَّهَموه بالضَّعف {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}، أو كما قال قومُ هودٍ له {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، أو كما سَخِرَ بعضُ قومِ نوحٍ منه {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)} هود.

  مَن استعمَلَ الشِّدَّةَ في كَلامِهِ فاستَخَفَّ بمن يدُلُّهُ على الخَير، يجبُ أن نَتَنَبَّهَ إلى أنَّهُ إنَّما يُقَلِّدُ مَن أنكَرَ على النَّبِيِّ حَقَّه ولا يقتدي بالنَّبِيّ الذي بَيَّنَ اللهُ سُبحانَهُ وتعالى حِكايةَ قومِهِ أنَّهُ صبرَ وصَمَتَ على الأذَى، وإن اتُّهِمَ وإن قيلَ فيه ما قيل، ولم يكُن ازدِراءُ بعضِ النَّاس لمَن كان حَولَهُ لِيَجْعَلَهُ يُنكِرُهُم، أو لِيَجْعَلَهُ ينصَرِفُ عنهم إلى غيرهم أو يستخِفُّ بهم، هؤلاء الذين كانوا يُزدَرَوْن، كان يزدَريهِم الأشرار من قومِ نوح، ما أجابهُم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، نبيُّهُ نوح، ما أجاب قومَهُ إلى ازدِرائهم ولا إلى استخفافهم قال أعلم بما في نفوسهم {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} هود\31. ما الذي يُدريني إن كان اللهُ سبحانه وتعالى كتبَ لهُم السَّعادَة. إنَّ أعلم بما في نفوسهم.

  نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكُم مِمَّن إذا غَضَبَ قارَعَ غَضَبَهُ بِحِلْمِه، ومِمَّن إذا سَمِعَ كلِمَةً عَوراء تَذَكَّرَ حالَ أنبياء الله فَصَبَرَ على الأذَى، فإنَّ الله سُبحانَهُ وتَعالى وَعَدَهُ خيرًا، وجَعَلَ صَبْرَهُ هذا مِن عزمِ الأُمور.

  اللهم صلِّ على محمد وآل محمد...

  الخُطْبَةُ الآخِرَة:

  ...أمّا بعدُ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه.

  ما الحِكْمَةُ مِن أَن يُبْتَلَى بنَقْصِ شيءٍ مِن رِزْقِهِ، أو بإصابَةِ شيءٍ مِن بَدَنِهِ، أو بإضاعَةِ شيءٍ يغتَمُّ مِن أجلِهِ!؟

  وما الحِكْمَةُ في أن ينظُرَ إلى البَلاء نَظَرَ المُستَبشِرِ بهِ خيرًا، إنَّهُ حينَ تكثُرُ نِعَمُ اللهِ سُبحانه وتعالى ويكونُ شُكرُ العَبْدِ لتِلْكَ النِّعَم بمعصِيَةِ الله، ثمَّ يُتابِع عليه تِلكَ النِّعَم، فإنّهُ يَدْخُلُ في بابِ الإملاءِ لَه: أي في بابِ مَن تُرِكَ على حالِهِ حتَّى يَزدادَ إِثمًا، ثُمَّ يأخُذُهُ بعدَ هذ أَخْذًا أليما، ولكنَّهُ قبلَ ذلك يُنَبِّهُهُ بالبَلاء، لَعَلَّهُ يستيقِظُ مِنَ الغَفلَةِ التي كانت سببًا في أن يُبتلى.

  يقولُ أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب عليه السلام: (إذا رأيتَ اللهَ عَزَّ وجَلّ يُتابِعُ عليكَ البَلاءَ، فقد أيقَظَك) أي نَبَّهَكَ مِنَ الغَفْلَةِ التي أنتَ فيها، فإن تَنَبَّهتَ، واستفقتَ، واستيقَظت، وخَرَجتَ مِن تِلكَ الغَفلةَ، فأنتَ خارجٌ من البلاء الذي أنتَ فيه، وإن بقيتَ على ما أنت عليه لا يرِقُّ قلبُكَ، ولا تَرِقُّ عَينُكَ، ولا تُشفِقُ نفسُكَ، فأنتَ لم تخرُج عن الغَفلَةِ التي أنتَ فيها، ولم تستيقِظ، فإِنَّما يكونُ بعدَ هذا الإستِدراج الذي يكونُ مِن إملاء، ويَظُنُّ المَرء أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى إِنَّما يُمْلي لهُ خيْرًا! ولكنَّ العاقِبَةَ تكونُ أَشَدَّ مِمَّا يَظُن إِن لم يستيقِظ بتتابُعِ البَلاء، فقد أصبَحَ مِنَ الذين يُستَدرجُون، لأنَّ عَدَمَ تيَقُّظِهِ مِنَ البَلاء دَليلٌ على تراكُمِ الذُّنوبِ على قَلبِه، وأَنَّ الرَّانَ الذي يكونُ على قلبِه إِنَّما يمنِعُه مِن أن ينظُرَ ببَصيرَتِه، وإن كانَ بَصَرُهُ سليمًا في عافيةٍ وفي خَير.

  (ما جَفَّت الدُّموع إِلّا مِن قَسْوَة القُلوب، وما قَسَت القُلوب إلّا مِن كَثرَةِ الذُّنوب) مما رُوِيَ عَن أمير المؤمنين عليّ بنِ أبي طالب عليه السلام، إنَّها أشبهُ بالذي يكونُ في سَكَرٍ مِن شَرابٍ يَشرَبُه، فلا هُوَ يستطيعُ أن يخرُجَ مِن سَكَرِهِ إِلّا إن امتَنَعَ عَن الشَّيء الذي أَحْدَثَ لهُ ذلك، فإنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى قد ابتَلاه ليُذَكِّرَهُ بما نَسِيَ مِن نِعَمِ اللهِ سُبحانهُ وتعالى، ولِيَرَه سُبحانه وتعالى تائِبًا، أَو مُقْلِعًا، أو مُزدَجِرًا، أو خائِفًا، أو راجِعًا، أو مُستَغْفِرًا مِمَّا فَعَل.

  إِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَبْتَلي عِبادَهُ عِندَ الأعمالِ السَّيِّئاتِ، يبتليهِم، بماذا يبتليهم!؟ يبتليهم بشيءٍ يجعلُهُم يتفَكَّرون فيما أصابهُم.

  إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَبتلي عِبادَهُ عند الأعمال السَّيِّئَة ليَرْجِعوا عَمَّا كانوا فيه، وليتيقَّظوا من الغَفلَةِ التي أصابتهُم.
فيما جاء من كلامِ أميرِ المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب عليه السلام: (إنَّ الله سبحانه وتعالى يَبتلي عِبادَهُ عند الأعمال السَّيِّئَة: بنَقْصِ البَرَكات، وإغلاق خزائِنِ الخَيرات، لِيَتُوبَ تائِبٌ، ويُقلِعَ مُقلِعٌ، ويتذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ، ويزدَجِرَ مُزْدَجِر).

  (إنَّ الله سبحانه وتعالى يَبتلي عِبادَهُ عند الأعمال السَّيِّئَة بإغلاق خزائِنِ الخَيرات) بقِلَّتِها، بالفَقْرِ، بالجوع، بالمَرَض، بِكَثْرَةِ أن يُفارِق، ليتوبَ تائب، وليُقلِعَ مُقلِعٌ، وليتذَكَّر مَن نَسِيَ نِعْمَةَ الله عليه، وليَزْدَجِرَ أي يخافَ مَن تَمَادَى في ذَنْبِهِ، ومَن جَرَّأهُ ما هُوَ فيه على رَبِّهِ أن يقِفَ ليَتَذَكَّر أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى رزقهُ مِنَ القُوَّةِ، ومِنَ العقلِ، ومِنَ الجاهِ، ما رزَقَهُ، ليَجعَلَ شُكْرَ نِعمَةِ الله أن يُطيعَهُ، وليس ليكُونَ شُكْرُ نِعمَةِ الله في مَعصِيَتِهِ.

  في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} الإنفطار\6. بعدَ قِراءِةِ هذه الآية، قال أميرُ المؤمنين (يا أيُّها الإنسان ما جَرَّأكَ على رَبِّك، وما صَبَّرَكَ على ذَنْبِكَ، وما آنَسَكَ بِهَلَكَةِ نفسِك) ما الذي جعَلَكَ مُجْتَرِئًا عليه، وما الذي جَعَلَكَ صابرًا ومُتَجَلِّدًا على ما أنتَ فيه من الخَطَأِ ومِنَ الخَلَل!؟ (أما من ذلك بُلُولٌ) أي شِفاءٌ (أما مِن نومَتِكَ يَقَظَة، أما ترحَمُ مِن نفسِكَ ما ترحَمُ مِن غيرِك، فرُبَّما ترى الرَّجُلَ الضَّاحِيَ في حَرِّ الشَّمس...) رجُلٌ لا يملِكُ ما يحتمي به من حَرِّ الشَّمس (فتُظِلُّه) تَجعَل لهُ شيئًا يستظِلُّ به أو ظِلّا يلجَأُ إليه مِن أجلِ ألّا يُؤْذِيَهُ حَرُّ الشَّمس، (فرُبَّما ترى الرَّجُلَ الضاحِيَ في حَرِّ الشَّمس فتُظِلُّه، أو ترى المُبْتَلَى بألَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فتبكي رحمةً لهُ...) إذا كانَ أَحَدُنا يرى ما أصابهُ حَرُّ الشمس فبحَثَ عن شيءٍ يُظِلُّهُ، ورأى مَن يشكو ومَن يتألَّم فبحثَ عن شيءٍ يُخَفِّف به أَلَمَه، فليُخَفِّف عن نفسِهِ فإنَّها أعَزُّ الأنفُسِ عليه، ليُخَفِّف عن نفسه وليَرْحَم نفسهُ كما يرحمُ غَيْرَه.

  نسألُ الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيَّاكُم مِمَّن يتيقَّظُ عند تتابُعِ البَلاء، ومِمَّن يَرْجِعُ إلى الله تائِبًا كُلَّما حَدَّثَهُ قلبُهُ، أو وَسْوَسَ إليه الشَّيطانُ بذَنب، أن يكونَ مِنَ المُستغفرين كلمّا أذنبوا، ومِنَ التَّائِبين كُلَّما أخطئوا، وأن يجعلَ نَدَمَنا على ما نُخطِئُ فيه توبةً يستُرُنا بها يومَ العَرْضِ عليه.

  اللهم صلِّ على محمد وآل محمد...