2- فيما اختلف فيه الروحيون والماديون في تعريف النفس الإنسانية.

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 12/10/2010 - 17:40

قال بعض الحكماء أنّ من الواجب الضروري أن نهتم اهتماماً فعلياً بأمر النفس وليكن ذلك الإهتمام من أفضل المؤثرات التي تنتابنا لأن إغضاءنا عن الوقوف على كنه هذه المسألة يقضي بفقدان الشعور والإحساس.
ولما كان الوحي الإلهي هو الذي يُعَلمنا هذه الحقيقة وهو الأساس المتين الذي نُشيدُ عليه بناية معتقداتنا.
الوحي وما أدراك ما الوحي؟ الوحي هو ما أخص به الذكر الإلهي الذي نزل على محمد (ص وآله) بقرآنه الكريم وعلى عيسى عليه السلام بإنجيله الحكيم وعلى موسى الكليم بالعهد القديم فأفاض علينا نوراً ساطعاً نستدل به بلا مراء استدلالاً قاطعاً مُقنِعاً أنّ لنا (نفساً).

والله تعالى تكلم ومن مُجمل ما تكلم أن لنا (نفساً) وعلينا واجبات وضميرنا مسؤول لديه وإن النفس هي ذات اختيار معتوق 1 ويمكننا أن نقيم الدليل على وجودها من العقل استناداً إلى ما تعلمه الفلسفة الصحيحة وما يسلمه العلم إذ يؤكد لنا وجود مبدأ سرّي وعامل بسيط لا يُرى وهو حقيقي ثابت بقوّة بكل ما يمرّ على وجودنا الشخصي من الحوادث المتعاقبة فهذا العامل نسمّيه (نفساً).
وبعكس هذا الدليل - ما قاله أطباء الماديين حيث قالوا أننا نرى الدماغ 2 يهيّئ الأفكار كما تهيّئ المعدة برتبة ثانية العصار المعدي والكبد الصفراء - فمتى يوجد الدماغ يوجد الإفتكار, أنزع الدماغ تنزع معه الأفتكار, علاقة العلة من المعلول وبذلك يتبيّن لنا أنّ النفس ليست ضرورية ولا حاجة لنا فيها فهي علة غير موجودة (الفيلسوف كابينس).

قال الروحيون:
إنّ الماديين ضلوا ضلالاً بعيداً بخلط الحواس كما أنّ أرسطو الفيلسوف في عصره وجّه مثل هذا التوبيخ إلى أصحاب مذهب الماديين إذ قال: فزعموا أن الفكر والإفتكار هما نوع واحد من الإحساس وكرّر أمامهم مراراً قوله..
جميعهم زعموا أن الفكر هو شيء جسمي نظير الإحساس لأن فِعليّ افتكرَ وحسّ ليس بمعنى واحد أن التفكير غير الشعور والإحساس, والدماغ بلا شك عضو مهم يفوق شرفاً على سائر الأعضاء البشرية وهو خادم الفكر بلا واسطة وشقيق (النفس) ورفيقها في الأفراح والأتراح والعضو المتين لها وله لدينا أهمية كبرى لأنه عبارة عن الجهاز العصبي برمّته, غير أن الدماغ وحده لا يكفي لإيضاح الإحساس بتمامه - فكيف يمكن إذاً الإدعاء بأن الدماغ يصدر الفكر المحض والفعل العقلي (كلا).

والآن إذا تسهل لنا فهم ما تقدم شرحه, بقي علينا أن نعرف إذا كان الدماغ هو الذي يتأثر من الإحساسات أي النظر والسمع والذوق والشم واللمس؟
وهل الدماغ هو الذي يشعر بالفرح والحزن؟
ونرى إذا كان الدماغ هو علة كافية لمثل هذه التصورات المحضة؟!

فتلامذة أفلاطون وإن لم يُتقنوا درس المعاني (الفيسيولوجية) 3 يقرّون بأن للنفس وجوداً مستقلاً استقلالاً على التقريب مُطلقاً بالنسبة إلى الجسد. ولقد تتبّع هذه الطريقة العالمان (ديسكرت) و(مالبرانش) وغيرهما من العلماء الأجلاء رؤساء المدارس الروحانية, فهم لا يُسلّمون بأن للإحساسات امتداداً وتبسُّطاً ويُجاهرون بأن قوة الحس هي (للنفس) وحدها على أن بعض المفكرين والباحثين في عصرنا الحاضر يذهبون إقتداءً بفلاسفة قدماء عديدين إلى أن الإنسان ليس هو (نفساً) فقط وإنه لا ينبغي أن نعتبرها سجينة في جسد متوحش لا سموّ له ولا مستقبل (كلا) إنّ النفس هي مُتّحدة داخلياً بالجسد تقوم معه المركب البشري.

وتزيد الفلسفة المسيحية على ذلك أنّ الله تعالى خلق الجسد شريفاً وأعدّه (للنفس) ووضع النفس في الجسد وعلى حد ما ترى في الخلائق أن المادة مُتّحدة مع الصورة.
كذلك نشاهد في الوجود البشري مَنظراً مُركباً يخضع لقوة وحيدة تُرشده وتقوده إلى غرضٍ وغايةٍ على أنّ هذه القوة الوحيدة توجد في كل موضع فنراها في الأجسام المعدنية وتُشاهد في الأجسام النباتية. وهي لها نقطة مركزية في جميع الأفعال الطبيعية الكيماوية ذات الحياة, ولدى التمعن والتأمل تبيّن فينا قوة بسيطة ولكن هذه القوة البسيطة المدعوة (نفساً) بما أنها مبدأ حياة تتحد مع الجسد إتحاداً شديداً.

إنّ أطباء الماديين لا يقنعون بما تقدم بل ينهضون معترضين هؤلاء الذين يحملون المِبضع والمِشطر ويذهبون فيحفرون الجُثث مُفتشين بين لحم الجُمجمة وباحثين في عمق الأجزاء الداخلية بين المُقعرات الطرية والأجسام المُخططة تحت المادة البيضاء أو الجوهر الرمادي عَلَّهم يَهتدون إلى (الروح) غير المنظورة فيبضعون بالمبضع ويفرقون بالمفرق مستقصين بالمجهر فاحصين بالتحليلات الكيماوية عساهم يكشفون (النفس) فلا ينظرون تلك القوة غير المرئية التي لو وجدوها لأمسكوا بها وألقوها شاتمين لها.. فلا يشاهدونها بما أنها غير مادية بل بسيطية وهي تظهر لهم حقاً في ساعات التعقيل والإصغاء وحسن الحس, ولكنهم يضلون إذ يسترسلون باستقصاءات وتفتيشات ذات رعانة ومبضعهم لا يقع إلا على المادة.
أجل إنهم حَيَّزوا الإحساسات وكشفوا مراراً عدة عن الكُرَيّات الدماغية وألمعوا إلى أسرار مشكلته وربما فيما غدا يعرف مغمز الجوازات الوسطية وعملها ولكن هيهات أن يتعيّن موضع التصورات المحضة وإن من الممكن تمييز الذاكرة والمخيلة ولكن لا يمكن قطعاً تمييز العقل المحض.

( الماديون) يقولون إذا كان دماغك حَسناً كان عقلك حَسناً وإذا كنت ذا دماغ ضعيفٍ وسافلٍ كنت ذا عقل متوسطٍ دارجٍ فالدماغ في هذه الأحوال هو كل شيء و (النفس) تعود كسائر الأوهام والإختراعات البشرية كالحلم أو كالخيال لا تثبت مقابل أبسط وأضعف البرهان.

قال الروحيون:
إنه مهما تَبَرهن أن ذوي الدماغ الكثير الثقيل يزيد ذكاؤهم ويَرْجَح فهمهم, وإن الدماغ الأثقل وزناً هو أقوى حزقاً ونباهة, فلا يحط ذلك من قدر (النفس) بل نغبط المرء الذي يزيد ثقل دماغه ونأسف على من كان دماغه صغيراً حقيراً ولكن كلاهما باحتياج إلى (النفس).

لقد زعم الماديون من القدماء والمعاصرين بعد أن بحثوا في جمجمة الإنسان ووزنوا الدماغ وأجروا التحقيقات إذ وضعوا درجات العقل في كبر الرؤوس وصغرها – ولو كانت هذه النظرية المستهجنة ثابتة حقيقية لكان البشر في عصر الحجر المصقول أكثر ذكاء وفهماً لكبر رؤوسهم وثقل أدمغتهم وإذا قابلنا حجم الأدمغة نرى أن عبيد الداهومي يلزم أن يكونوا أكثر حزقاً ونباهة من الإنكليز والأمريكان لأنهم أوفر بلادة لصغر أدمغتهم.

قال العلامة (لموزر) في كتابه (مغارة الأموات) لعهد الحجر المصقول أن (للغلو) من الدماغ 1593 سنتيمتر مكعباً و(للبروتون) 1583 و(للباريزي) 1159 و(للأسكموا) 1546 و(للأيطالياني) 1467 و(للصيني) 1424 و(للإنكليزي) 1412..فعلى هذا التقدير قد تكون الأمم الراقية معارج النجاح والفلاح يجب أن تكون أحط الأمم ذكاء وفهماً.

غير أنّ أحد الأطباء الماديين قال: أنّ من الواجب اعتبار ثقل الدماغ ووزنه لا حجمه واتساعه بل إنّ الثقل هو المسؤول عنه إذ يرى بذلك دماغ جهابذة الرجال ثقيل – وهذا بعيد جداً عن حقيقة هذا الفصل بدليل العلامة (بروكا) الذي وقف نفسه لدرس الأدمغة فبحث فيها بحثاً بليغاً أدّى به للعلم خدمة تُذكر فتُشكر – فمن النظام الذي وضعه نتوصل إلى تحقيق ما يأتي:
كان وزن دماغ (كرنفل) 2231 غراماً ودماغ (بيرون) 2238 ودماغ (تورغنيف) 2020 ودماغ (شلير) 1785 ودماغ (بومارتيني) 1436 ودماغ (أبروكا) المذكور ياللأسف 1484 لنقص نصيبه من هذا.
إنّ بروكا وُجِدَ من أكابر العلماء وأغزرهم مادة وقد توصل بمواظبته واجتهاده إلى اكتشاف مهم جداً في عالم المباحث الدماغية.
وكل هذا وما أشبهه من استهزاء الطبيعة الصارم لقد صودف أن بعض الرجال اشتهروا بذكائهم وعلو منزلتهم لم يكن ثقل دماغهم أكثر من دماغ بعض الحمقى أو المجانين هاك مثلاً:
(غآمتا) الذي كان طائر الشهرة بالذكاء والعقل الصادق وزن دماغه بعد وفاته فلم يتزاوج 1160 غراماً ومما يستبدل به تجديف هذه النظرية هو أنّ الدماغ لا يُدرك معظمه من الإنسان إلا بين الرابعة عشر والعشرين من العمر وبعد العشرين يأخذ بالنقصان تدريجياً والحال أن الإنسان لا يُدرك تمام الإفتكار بعد تجاوزه العشرين بمدة وتمرين قواه العقلية وقتاً طويلاً.

على أنّ بعض الشيوخ يروننا العجب بحدّة ذكائهم وقوة أحلامهم مما يؤكد أن نقصان وزن دماغهم لا يؤثر قطعياً بقواهم العاقلة.

فتعيّن أن الإستناد على مذهب الماديين القائل بثقل الدماغ يسوقنا إلى الإستنتاج بأن الحوت البحري أكثر ذكاء من الإنسان ومثاله الفيل فإن وزن دماغه يزيد على ثلات مرات عن وزن دماغنا لأن وزن دماغ الفيل 3000 غراماً ودماغ الدولفين 1800 والحوت البحري 1500 والإنسان 1300 إلى 1400 والحصان 600 والثور 500 والسعدان من 400 إلى 600 والحمار 360 والكلب 800 والهر 300...

وبعد هذا وذاك لقد أصاب العالم (فارير) بقوله بعد أن قابل العقل البشري والكمالات الطبيعية الكيماوية للدفاع أنتج قائلاً: يوجد في الدماغ شيء مجهول لم يتوصل العالم إلى تحديده وذلك المجهول لا يقع تحت الوزن ولا تحت الإعراب والقياس.

وهذا ما يدعي الكيفية (كلا) لا يلزم أن تُسمّى كيفية لأن هذه اللفظة هي مبهمة لا تفيد شيئاً بل الأحرى أن نُسمي ذلك المجهول والمخبأ الدائم نفساً وهي (النفس) واحدة بسيطة غير قابلة القسمة ولا الإنحلال وإني لشاعرٌ بها وهي تختلج داخلي وما من موضع لها أكثر وأبلغ إيضاحاً من حاسة الأنانية التي هي دائماً وأبداً واحدة ثابتة متساوية مهما مرّ عليها من التغيرات والتحولات التي تطرأ على الوجود المادي (فارير).
فتقرر من قول هذا العالم أن النفس موجودة وهي وحيدة بسيطة غير قابلة التجزي توجد في كل مكان في الجسد كله وهي روحية مُعَدّة لكل ما نَبُلَ وسَمَا من المقاصد وهي تعلو على الجسد ولا تتناول عَمَلها العلوم الطبيعية والأرضية والإنسان وحده بين مراتب الحيوان جديرٌ بأن يتصاعد طائراً نحو الله عز وجل.
ونفسه هي التي ترقي به صعوداً كما أن الجنس البشري يُنادي قائلاً أنه يوجد في عمق قلب كل إنسان (نفس) ناطقة مخلوقة على صورة الله – وأنه ليسهل علينا جداً تحقيقه بالحس السليم والفلسفة الحقة والعلم الصحيح.

وبالأدلة التالية:

( أولاً) أنه يوجد فينا مبدأ فاعل يختلف عما ينتج من القوى الطبيعية الكيماوية وذلك المبدأ هو خفي سري فهو وحيد بسيط غير متجزء ولا يعتريه انحلال وهو (النفس).

( ثانياً) إنا نبرهن أن ذلك المبدأ هو روحي يمكن أن يصدر أفعالاً شاملة تسمو على قوة الطبيعة.

( ثالثاً) إننا نؤكد أنه يوجد في عمق كياننا مبدأ حيوي مستقل عن القوى الطبيعية الكيماوية وهو (النفس).

( رابعاً) أنه لا ريب أن كل أحد يرى أن له شيئاً يُشير إليه بـ (أنا) وأنه يُدرك ذلك الشيء عند فيض إشراقه على الحواس الباطنة ينظر في العالم وكأنه خارج منه وتارة ينظر إليه وكأنه داخل فيه وربما يرفع العالم من الوجود أصلاً وربما يقدم الزمان الماضي وينظر إلى بدء كون العالم ويبحث عن علة كونه بعد أن لم يكن شيئاً, وربما سبق الزمان المستقبل ونظر إلى فناء العالم قبل حينه كيف يكون ذلك وينتزع صورة المحسوسات من هيولاها ويتصورها في ذاته وينظر إليها خلوا من الهيولى ويُفرّق بين الهيولى والصورة وينظر إلى كل واحدة منها تارة مُفردة وتارة مُرَكبة ويُضاعف العدد إلى مالا نهاية له وبجري المقادير إلى ما لا نهاية لها, ويتوهم أن خارج العالم فضاء إلى ما لا نهاية له ولا يتطرق إليه انحلال وتبدل إذ كل أحد يعلم أنه باقٍ غير مُتبدل وهذا الشيء لا يسعنا القول به أنه هو المادة ولا القوى الطبيعية, إذ أن المادة جسم مظلم مركب مائت والقوى الطبيعية أعراض زائلة بزوالها. بل إنّ ذلك الشيء هو جوهر مجرد عن المادة ليس جسماً ولا جسمانياً يُدرك الكليات وهو (النفس).

( خامساً) لا يخفى أن النفس البشرية ذات قوام حقيقي يظهر إلى الخارج فوجودها ثابت كوجود ذرة الأوكسجين أو الحديد أو الراديوم.

( سادساً) إنّ كل إنسان يرى أن له عامل من نفسه غير منظور يوحي إليه من رضى أو غضب أو سرور أو حزن أو قوة عزيمة وصلابة رأي وحب وتضحية وبطولة وحب وبغض وحسد وولوع بالإحسان وغير ذلك مما قرّره بعض حكماء العالم الغربي في وجود الروح العاقلة في الإنسان وبما أثبته كل الثبوت بما حصلوا إليه من أسرار كثيرة وعقدوا لها مجتمعات وفهموا خلودها وأدركوا يقيناً أنها لا تفنى ولو ثبت فناؤها لكان وجودها عبثاً وأعمال الله عز وجل منزهة عن العبث ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ). المؤمنون\115.

فضلاً عما نرى ونشاهد من تأثير الروحانيات في شفاء كثير من الأمراض عن طريقة الإستهواء وبعث الثقة والإيمان الديني هذا بعد ما عجز الطب والجراحة عن شفاء تلك الأمراض كما يُرى ويُشاهد من أمثالها في كل يوم وليلة – وهذا العامل لا يسعنا القول أنه المادة بل (النفس) بذاتها وقد أشارت الأديان القديمة والحديثة على وجودها وقدمها وخلودها وإنها معلولة علة مُقدّسة عن التغيير والتبديل –.

وقبل اختتام هذا الفصل أريد أن أكرر القول أنه لمن المستحيل إمكان شرح وحدة الأساس بالرجوع إلى الدماغ وحده وبأولى وحدة الفكر وأعلن موضحاً أنه مهما حاز الدماغ من حسن الكمال لا يمكن الإستغناء عن الخفي البسيط وهذا الخفي البسيط ما هو إلا (الأنانية) أي (النفس) البشرية وبواسطة هذه الأنانية وحدها يتمكن من شرح وإيضاح الإحساسات والأفكار فهي التي تشتغل وتتعب وهي موضوع الأفراح والأتراح.

وإني على الدوام يتصاعد من لجج ضميري هذا الصراخ (أنا موجود) وإنها لحقيقة متينة مؤسسة على صخرة الفلسفة الصحيحة وسلامة الضمير البشري (إني ذو نفس) واحدة غير منقسمة ولا مخلة وإني لشاعر وراء مد وجزر المادة (بنفسي).
وبناءً عليه, إنني بدون مشقة وعناء أدحض الإثباتات الرعناء التي أوردها الماديون من أن الفكر هو عصار النخاع وإنّ الدماغ يتدبّر عصار الفكر كما يتدبر الكبد عصار الصفراء.

وإن مبدأ الفكر هو (الفوسفور) وأثبت بالبرهان القاطع أن النفس هي سر من الأسرار الروحية الكائنة ما وراء المادة كما وأنّ الأديان السماوية وقدماء الفلاسفة كلها تؤكد ذلك الإعتقاد وتزيده نمواً ونشاطاً.

ولما كنا عرفنا هذا الإعتقاد الشريف فلندافع عنه ونطلبه في وسط الآلام الحاضرة لنحافظ على الإيمان بثبات أن لنا (نفساً) ونسلك كما ينبغي على النفوس ونعرف ذواتنا بشهامة إننا مسؤولون أمام الله عز وجل.

ثم نرجع فنقول:
أيها العلماء ومدارس الكيمياء وفن التشريح من الماديين خاصة نناديكم من دواخل معاملكم ومطابخكم الكيماوية أنكم تزعمون إقتداءً بـ(بقوست) مقدامكم أنكم تسعون وراء اكتشاف سر الحياة. يا له من جنون بل تريدون ملاشاة ماعَزَّ وحَسُنَ رجائنا في الآخرة – إننا نُعلل الأمل إننا يوماً ما إذ نملّ من أسر الجسد نتعالى بالفكر العقلي فوق المادة الباقية من رمادنا ورُفاتنا.. ماذا يجديكم نفعاً زعمكم أن (النفس) هي مادة وإن الفكر مصدره الطين؟! إنكم لضالون برغبتكم قطع حبل آمالنا وإسقاط صرح رجائنا –

وكما كنا أوردنا ما أوردناه وأوضحنا ما أوضحناه من إثبات (النفس) الإنسانية عن طريق البرهان والمعقول, فلنتقدم في الدليل على إثباتها عن طريق الرواية والمنقول فنقول:

قال فيثاغورس حكيم اليونان:
إعمل على تحرير نفسك من الزيغ والضلال بأن تتبع أحكام الحق والصواب في اختيار كل أمر تريده بحيث تأمن انتصار الجزء الأشرف من كيانك وهو (النفس) فإذا فصلت وحان انفصالك عن الجسد ارتفعت في الأثير وخرجت من سلطان الفناء وأصبحت كأنك (إله) خالد.
وقال:
عالج هذه الأفكار واحرص عليها حتى إذا شربتها نفسك أدركت أن الناس وسائر الأشياء كذات واحدة من المنشأ الأصلي وإن الروح والمادة متفقان في المبدأ.
وقال:
أن الموت مصير كل واحد منا والخيرات الأرضية تجيء وتذهب فسِرْ في حياتك أيها الإنسان بسيرة الحق والعدل ولا تجعل للّوم عليك سبيلاً ولا بنظر غيرك ولا بنظر نفسك واغتنم كل فرصة سانحة للتعليم والإستفادة فتعيش عيشة مجد طيبة.

وقال سقراط:
لا أحد يعرف كنه الموت ولعله خيرٌ عظيمٌ للإنسان ولكن الإنسان يُرهبه كأنه شر يصيبه.
وقال:
متى مات المرء انحلت من كيانه العناصر الذاتية التي لا خطورة لها وأما الجزء الشريف من كيانه 4 فيظل سالماً مؤبداً.

وقال الشاعر الفرنسي الشهير فيكتور هوغو:
إنني منذ الآن أنظر إلى ظلال قبري الأبدية غير هيّاب ولا وَجِلٍ لأني أعلم أن الجسم ولو وجد فيها سجناً تجد للنفس منها أجنحة طيارة يطلق الفضاء الأوسع وعمرنا الدنيوي الذي نظن أن خاتمة كياننا به ليس هو إلا فاتحته.

وقال أحد الحكماء:
ليس الموت معناه فناء النفس واضمحلالها وليس الجسد إلا مظهراً مادياً مؤقتاً (للنفس) كما أنه مظهر لغيرها من الكائنات – فإذا حال انفصاله عن النفس لم يكن هذا الإنفصال موتاً حقيقياً بالمعنى الرهيب الذي تعودنا أن نتصوّره ونفهمه بل هو تبدل وانتقال من طور إلى طور.

وقال شاعر العلويين حسن بن مكزون السنجاري من شعر له:

رضِّ النفس بالصبـر الجميل على الأذى   ينلك الرضى قــاضٍ عليك به قضـا
ولا تحـذر المــوت الـذي هـــو مخــرجُ   لنفسك من ضيــقٍ إلى سِعة الفضــا

  • 1 الإختيار المعتوق في عرف الحكماء حرية الضمير الصحيحة.
  • 2 الدماغ ليس هو الكتلة العصبية المرنة فقط بل هي تعمّ أيضاً كل ما يحتوي في الخرزة الظهرية من اللباب المستطيل مع تفرّعات الأعصاب المُحركة والحساسة حتى أطراف الأعضاء والدماغ مستور بغشاء إذا أزحته ترى من تحته غطاء رمادي اللون وعلى ما يظهر أن هذا الجوهر الرمادي هو أثمن وأنفع شيء يدخل في تركيب الدماغ ويوجد أيضاً جواهر أخرى رمادية تُدعى الجوازات الوسطية وذلك لأنها موضوعة في وسط كل من كلا الشطرين وتتركب كذلك من حجر عصبية تُسمّى العرمة الصنوبرية أو الأجسام التجزئية.
  • 3 الفيسيولوجيا: علم وظائف الأعضاء.
  • 4 إذ يريد بالجزء الشريف : النفس.