القارئ الكريم، هذه خطبة كتاب عين اليقين في آداب الدنيا والدين (ج1) لمؤلفه فضيلة الشيخ يونس حمدان آل عبّاس سلمان بيصين .
وتجد فِهرس هذا الكتاب على يمينك.
(إدارة موقع المكتبة الإسلامية العلوية)
الحمد لله الأول قبل كل أول بلا بداية، والآخر بعد كل آخر بلا نهاية، الظاهر لخلقه ببطونه، والباطن عن خلقه بظهوره. 1
أحمده حمد الحامدين له على أحكامه، وأشكره شكر الشاكرين له على إلهامه، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه من الكرام ورسله العظام عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام.
أما بعد
يقول العبد الفقير لله تعالى الدَّيّان يونس حمدان آل عباس سلمان أنه لما كان سنة 1390 من الهجرة النبوية المحمدية، تناولت هذا الكتاب من لَدُنِ صاحبِ التوقيع، وهاك لفظه ومعناه.
* * *
سيادة العالم العلامة الشيخ يونس حمدان آل عباس سلمان بيصين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد
أعرض لسيادتكم مايلي :
إنه منذ أسبوع تقريبًا، كنت أُطالع بعض الصحف والمجلات، إذ عثرت على رواية تاريخية من عهد (أغوسطس قيصر)، تتضمن بعض التعاليم المادية، فمال إليها أصحاب الشهوات، الذين غالوا بالجسد، ودافعوا عن اللذات، بسهولة الأخلاق الذميمة.
قال صاحب الرواية: وبعد أن تشَّربوا مبادئ الطبيعة، وتعمّقوا بالعلوم المادية، إذ أخذَتِ العدوى أولاً في الطبقات العالية بالغرب، فألمّ ما ألمّ في بلاد اليونان كما في روسيا وفي أميركا أخيرًا، من انحطاط الأخلاق، وتراخي الفضائل الأهلية، وفساد المجتمع العائلي، مع تقدم التعطيل والكفر، إلى أن ضلّوا ضلالاً بعيدًا، إذ زعموا أنه لا يُمكن إقامة الدليل الرشيد، ولا البرهان السديد، على وجود إلهٍ خالقٍ، ولا على وجود نفس إنسانية خالدة، بل قالوا: "إنّ هذا الكون قد وُجِدَ بالصُدفة والإتفاق".
وقد وَجّهوا هَجماتهم الهائلة، وسِهامهم القاتلة، والبذاءة، والبلاهة، على الإلهيين، القائلين بوجود الألوهية، وعلى الروحيين المعتقدين بروحية النفس وخلودها، حتى أصبحوا ينادون بمنطق مرزول: "اليوم شيّعنا جنازة ( الله ) وفتحنا الطريق المتقدم أمام الأجيال الحاضرة والقادمة"، -وذلك اقتداء برئيسهم (أبيكورس)- على أن (هوراس)، الناظم والشاعر اللوذعي، لما كان يتفرّغ لمعاقرة الخمرة، كان يُسمّي نفسه ضاحكًا، أنه خنزير من قطيع ( أبيكورس ).
ولقد تدبَّر الذين قاموا بهذه الحملات تدابير متنوعة، فنادوا في الأزقة والشوارع، وملأوا المكاتب، واستحوذوا على الجرائد ،ودسّوا السُّمَ في المجلات، التي برز كُتَّابُها بنشر التعاليم المادية بقولهم: "لا شيء وراء المادة"، ثم قالوا: "صعدنا إلى الملأ الأعلى، بواسطة السفن الهوائية والأقمار الصناعية، وفتّشنا الأفلاك وما وراء الطبيعة، ودرسنا مادة الشمس والقمر والمريخ وسائر الأجرام السماوية، وحققنا أن السماء فارغة لا حاجة لنا فيها، والآن نريد الأرض لا السماء"، ولا زالت الحالة هكذا إلى هذا الجيل المفتخر باقتراحاته، والمُباهي باكتشافاته، حيث ارتقوا حسب زعمهم ذُرى التقدم والنجاح، وأصبح ما من مُهذب منهم إلا ويَعزي هذه النتائج إلى ترقّي التعاليم المادية.
وبعد هذا وذاك، ارتأيت احترازًا من تسرّب العدوى من الغرب إلى الشرق، أنه يجب على الشرق أن يكون مستعدًا لتحضير أقلام من ذهب، يَبريها لإيضاح الحق الصريح، على نهج المعتقدات الدينية التي انتشرت بين الأمم الراقية، بواسطة الأنبياء والرسل، بما أُنْزِلَ عليهم من الوحي الإلهي في الكتب المقدسة، إذ ارتقوا بها معارج شيّدتها العناية الإلهية، لأن الإعتقاد بالله سبحانه، وخلود النفس، والحياة العتيدة، لَهِيَ الفوز والإنتصار، والظفر والإفتخار، لنَهي البشرية.
وبناءً على ذلك، جئتُ مُقدمًا إليك هذه العريضة، مُلتمسًا من غيرتك الدينية، أن تُشمّر عن ساعد الجِدِّ، حيث تبرز إلى هذا المعترك الأدبي الديني، بتأليف سِفرٍ جامع، يوضح لنا:
- ثبوت وجود الإله المعبود الخالق الوجود.
- وتجديف قول الماديين، المنكري الوجود الإلهي.
- مع البحث على إثبات وجود النفس وروحيتها وخلودها، ببراهين جلية ودلائل عقلية.
- ولتشرح لنا السر في تركيب الأجسام الطبيعية، مع القول على العقل الإنساني.
- ولتتكرم بتعريف العلوم الأدبية وأقسامها.
- والفلسفية وأحكامها.
- والهيولى والصورة.
- وأنواع الطبيعة، مع التاريخ الطبيعي، والتاريخ المدني.
- والبحث عن التطوّر والإرتقاء.
- وعن الأخلاق الإنسانية وأنواعها.
- وعن الدنيا وآدابها وقواعدها وأسبابها، مع لمحة تُدلي بها إبداع هذا الكون.
- ولتفرض علينا استعمال ما عَلَّمَكَ الله من الحكم الإلهية والمواعظ الدينية والأدبية.
وبكل إلحاح، ألتمس منك توسيع البحث في هذه العلوم، ليعلم القارئ الأمين أنّ الدين العلوي مبنيٌّ عن علم وإيمان ويقين 2 ، لا عن ظن ووهم وتخمين, وليكون كتابك هذا: دستورًا شاملاً دينيًا، ومنهجًا واضحًا أدبيًا، للشباب المثقف في هذا العصر.
ولك من الله الثواب والأجر، ومني، ومن كافة الطلاب، الإمتنان والشكر، والله يُلْهِمُكَ التوفيق، وحسن العمل، ويَعصِمُك من الزيغ والخطل، ويُجنّبك العَجز والمَلل، إنه مجيب الدعاء، عليم بما يشاء، وهو السميع العليم.
* * *
الجواب:
ولما لم يكن بوسعي الوقوف على إشارته ولا الخروج عن رغبته وإرادته، جِئت مُلبّيًا هذا الطلب، خِدمةً للعلم والأدب، وعَملاً بما ورد عن أهل العصمة إذ قيل:
"من رأى منكم مُنكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وإجابةً لأمر الإمام الثامن علي بن موسى الكاظم القائل:
"رُدُّوا على أهل الدهر، فإن ذلك أفضل من الصَدَقة، وأفضل من العمل، وأفضل من الجهاد، لأنّ الجهاد عن الناس، والعمل للناس، والصدقة للناس، وهذا جهاد الرب، وتكذيبًا لأهل الباطل، وحبًّا في ذات الله خصوصًا".
وإطاعةً لهذا الأمر بادرت في تأليف هذا الكتاب، إذ نطقت به ارتجالاً، ونمّقته استعجالاً، وسمّيته: "عين اليقين 3 في آداب الدنيا والدين".
ولما كان مما ينبغي لكل مؤلفِ كتابٍ في فَنٍّ سيق إليه، أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد:
- ( الأولى ) : استنباط شيء كان معضلاً.
- ( الثانية ) : جمعه إن كان متفرقًا.
- ( الثالثة ) : شرحه إن كان غامضًا.
- ( الرابعة ) : حسن نظم أنيق وتأليف معنى رشيق.
- ( الخامسة ) : إسقاط كل حشو وتطويل، بأوضح برهان وأقرب دليل.
وقد نسجت كتابي هذا على هذا المنوال، وجعلته مشتملاً على خمسة مواضيع:
- الموضوع الأول: في الرد على مذهب الماديين المُنكرين لوجود النفس الإنسانية وعدم روحيتها وخلودها.
- الموضوع الثاني: في الرد على المُلحدين الجاحدين وجود الإله الخالق عز وجل.
- الموضوع الثالث: في الرد على علماء المادة القائلين "إن هذا الكون غيبًا كليًا وهو غاية المراتب" ومثال ذلك :
أن مثل ( علم اليقين ) كمثل مُخبّر صادق، أخبر أن زيدًا في الدار فصدّقه.
ومثل ( حق اليقين ) كمثل من سمع صوت زيد، فتحققه بعد تصديق المُخبّر.
ومثل ( عين اليقين ) كمثل من عاين زيدًا، وقد رآه في الدار معاينة، بعد تصديق خبر المخبّر وسمع صوته، فثبت إيمانه بالعين وتضاعف الإيقان (حسن بن حمزة).
وقد وُجِد بالصدفة والإتفاق وأن لا شيء وراء المادة، وأن الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، والنبات من البذرة، والبذرة من النبات، وهذا مذهب الدهريين القائلين: "نموت ونَحيَ وما يُهلكنا إلا الدهر".
- الموضوع الرابع: في الدليل على وجوده تعالى من طريق العلوم.
- الموضوع الخامس: بلوغ الإرادة والنِعَمْ في حفظ المواعظ والحكم، وجعلته خاتمة جميع ما ألّفته، وألحقته بمعنى جميع ما صنّفته، ليكون زادي الأخير لرحلتي الأخيرة، من دار الشقاء إلى دار البقاء، فكان طِبقًا لهدف السائل الكريم.
وقد ألقيتُ هذا الكتاب في مضمار الشباب المثقف والنشئ الجديد والجيل الفتي الظامئ إلى العلم، لعلّه يصل إلى ضالته المنشودة في حياته العلمية والعملية، ومكانته في هذا الوجود، ليكون مُقدِّرًا دوره الإيجابي، الذي يتحتم عليه أداؤه واتباعه.
فإن هبّ عليه قبول القبول، فهو غاية المأمول، والله الموفق، ذو الحَوْل والطَوْل، ومن هنا أبتدئ فأقول:
أنه لما كان أفضل الأعمال عند الله أجرًا، وأجلّها إصلاحًا وقدرًا، هو ما استقام به نظام الدين والدنيا معًا، لأن باستقامة الدين تمام السعادة، وباستقامة الدنيا دوام الخير والسيادة، - ولما كانت القلوب ترتاح بالميل إلى الآراء المؤتلفة، وتسأم وتنفر من الآراء المختلفة - بدليل أنّ ذا الرأي السديد رُبما زلّ وضلّ، والقلب الرّشيد ربما كَلّ ومَلّ.
ويقول أمير المؤمنين علي القائل:
"أن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فاهدوا إليها طرائف الحكمة".
فعملاً بهذا الدليل، أهديتُ إلى كتابي هذا كل ما رقّ وراق من غرائب الحكمة، وأقوال أهل الدين والعصمة، وأدعمته بآي الذكر الحكيم، فضلاً عما أوردته عن النبي الكريم، وآله، وآراء الفلاسفة والحكماء، وآداب الفصحاء والشعراء.
ولما كان الطالب للغرض المطلوب مُحتاجًا إلى الإنتقال من حالٍ إلى حال ومن أسلوبٍ إلى أسلوب - كما كان المأمون بن هارون كثيرًا ما يتنقل عند السآمة وطلب الغرض والحاجة في داره من مكان إلى مكان ويُنشِدُ قول أبي العتاهية القائل:
لا يُصلحُ النفسَ إن كانت مُدبّرة إلا التنقلُ من حالٍ إلى حالِ
وعلى هذا النمط جاء كتابي هذا مُؤَلَّفًا من "أحد عشر بابًا"، وكل بابٍ يشتمل على فصول شتى، حيث ينتقل القارئ من باب إلى باب آخر، ومن فصل إلى فصل آخر، كما تراه أمامك.
- 1 معنى الجملة: إنّ الباري عز وجل ظاهر الوجود إن طُلب بالعقل وباطن الوجود إن طُلب بالحس. ومن هذا الدليل يُطلق عليه تعالى إسم الظاهر والباطن وهما من أسمائه سبحانه إذ يُقال في الدعاء: يا من ظهر فيما بطن وبطن فيما ظهر ولا يُقالان في صفاته إلا مزدوجتين ومثالهما الأول والآخر.
- 2 قال علي أمير المؤمنين:
الإيمان: كل ما سَمِعته أذناك وصدّقه قلبك.
واليقين: ما رأته عيناك وأيقن به قلبك. - 3 اليقين في اللغة عبارة عن سكون الفهم واستقراءه بزوال التردد والشك والوهم والظن, وهو مأخوذ من قولهم: يقن الماء في الحوض إذا استقر وسكن وله أربع درجات: علم وحق وعين وحقيقة.
( علم اليقين ) : هو درجة الضعفاء من المؤمنين المقلدين.
( حق اليقين ) : هو درجة المستبصرين المكاشفين.
( عين اليقين ) : هو درجة العارفين البالغين المشاهدين الذين عاينوا الحق فعرفوه عياناً وتحققوا صدق ما نُقِلَ إليهم فعبدوه إيقاناً.
( حقيقة حق اليقين ) : هو درجة العبد الكلي الفاني عن أنانيته فناءً كلياً مُحققاً الغائب عن وجوده فيه.
- 9465 مشاهدة