كتب الفِرق ومُخلفاتها السلبية (حال العلويين معها)

أُضيف بتاريخ السبت, 06/11/2010 - 18:44

القارئ الكريم، هذا الفصل هو جزء من كتاب المسلمون العلويون بين مفتريات الأقلام وجور الحكام (ج2) لمؤلفه فضيلة الشيخ حسين محمد المظلوم .
وتجد فِهرس الكتاب على يمينك.
(إدارة موقع المكتبة الإسلامية العلوية)


لو رجعنا قليلا إلى الوراء وتأمّلنا كتب الفِرَق والنِّحَل لاتّضح لنا أنّ كلّ كاتِبٍ كان يُكفـّر جميع الفِرق والمذاهب باستثناء أبناء مذهبه، مُدّعياً بأنه من الفرقة الناجية وغيره في النار.

بدأ كلٌ منهم يختلق وبشتى الوسائل ( ثلاث وسبعين ) فرقة لينسجم كتابه مع حديث الرسول الأعظم .

فمنهم من زاد على العَدد، ومنهم من نَقصَ، وما دَروا أولئك الكُتّاب أنه ستنشأ فِرقٌ جديدة وتقوم مذاهبُ عديدةٌ بعدهم، وهذا ما يُؤكّد بأنّ الكثير من الفِرق التي ذُكرت لا أساسَ لوجودها إلا في ذهنِ وخيالِ المُؤلف وفي الحقيقة التي لا يُنكرها إلا جاهلٌ أو متعصبٌ دأبُه تزوير الحقائق.

إنّ هذه الكتب وُضِعَت بأمرِ الحاكم ولخدمته الشخصية التي تتنافى مع مصلحة الإسلام العليا لكي ينشغل المُسلمون بها عن مصالحهم الكُبرى إلى خلافات موضوعة وملفقة.

ولقد استوحى المُستعمر هذه الوسيلة وبَلورها وصَاغها بأسلوبه الخاص، وذلك بتكفير بعض الفِرق وإلصاقِ التُهَم الكاذبة بها بواسطة بعض الكتّاب المُرتزقين فحينما يَنتهي من فرقة حسب زعمه يبدأ بالأخرى فالتي تليها، وبذلك يَسْهُل عليه إبعادُ الإسلام من أساسه وضربِه والقضاء عليه، ويبدو ذلك واضحًا من خلال بعض أقوال المستشرقين حينما نسبوا بعض الفرق إلى أصول غير عربية وإسلامية.

وما يؤكد ما ذهبنا إليه وبيّناه ما قاله بعض العلماء المنصفين الذين تحدثوا في هذا الصدد في مقالات لهم نثبت منها ما ينسجم مع بحثنا هذا :

قال السيد محي الدين القليبي التونسي

وليس بعد أدب الله أدب ، ولا وراء هداية كتابه هداية : ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ .

فلو التزم المُسلمون في تناصحهم وهداية بعضهم لبعض، هذا الأدب العالي ما وَقعت الخصومة بينهم، ولا اتسع نطاق الفتنة والخلاف حتى أضحَت مُهاترة وحَربًا انهار بها الكيان الإسلامي دولة وعقيدة، فلقد رأيت وسمعت في رحلتي الأخيرة التي قمت بها في الشرق العربي من أقوال وأعمال بعض العلماء الذين يلبسون لباس الهداية والنصح ما يبرأ منه الإسلام، وحتى أبسط مظاهر الخُلق الكريم، رأيتهم يَدعون للدين بما يَهدم الدين، وينصحون للمسلمين بما يُثير الفتنة بين المسلمين، ويحمل كل منهم من الحقد الذي يفيد به قلبه ولسانه للطائفة المخالفة له ما لا يحمله للمستخفين بالدين ولأعداء الإسلام والمسلمين من المستعمرين وكأنّ هؤلاء مَعَاول الإستعمار تعمل لهدم ما بقي من كيَان هذا العالم الإسلامي، وتفريق ما تجَمّعَ من شتاته بإيقاظ الفِتنة المذهبية والنّعرات الطائفية بين المسلمين والإحتجاج بتخريف العامّة والدَهماء وتزييف وتحريف مَن على شاكلتهم من أشباه العلماء، وما كان أغنى المسلمين وهم اليوم فريسة بين براثن الإستعمار عن هذا الإستهتار، ورأيتُ لو أنّني نصحتُ لهؤلاء وهؤلاء بعنفٍ، وحاولتُ صَدّهم عمَّا هم فيه بشدّة لنَفَروا، ولأصبحتُ طرفًا ثالثًا في الخصومة، ولكنني أخذتُ بأدبِ الله في الدّعوة إلى ما أمَرَ من أخوّة واتحاد، فاستجاب الناس إلى ما دعوتهم إليه وكفـّوا عن التقاذف بالتهم، وأخذوا في التقارب بصفاء وودّ، وتلك مهمة المسلم خصوصًا في هذه الحالة وهذا الزمان.

لقد افترق المسلمون في فجر تاريخهم، واكتووا بنار تلك الفتنة، وافترقوا في السياسة واختلفوا في نظام الحكم، ولكن لارتباط السياسة بالدين، انتقل الخلاف من نظام الدولة إلى العقيدة، وتطور التباين في الرأي إلى مهاترة وخصومة، ثم إلى حروب سالت فيها الدماء وأهدرت كرامات وانتُهكت حرمات وتفككت بها وحدة، وانهارت بها قوة، ولا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إنّ السبب الأكبر في كل ذلك هو الخروج عن الأدب الذي أدّبنا الله به في الدعوة إلى الله وإلى ما أنزل من الحق، والأخذ بما تُمليه الشهوة والعاطفة اللتين هما مَرتع الشيطان من الإعتداد بالنفس والتعصب للرأي وأخذ المُخالف بالشدة، والتسرّع في رَمْيه بالضلال، بل بالفسوق والعصيان والكفر فيقوم بذلك بين المختلفين سد من العداوة والبغضاء يحول بين الهداية ووصولها إلى القلب فينعدم أثر التناصح.

ولقد وُجِدَ على مَرّ العصور عُلماء انتهازيون حول كل حكومة قامت على نظرية من نظريات الحكم المختلف فيها، كانوا يَخدمون ركابها، ويَتقربون إليها بتدعيم مذهبها الذي قامت عليه، وابتكار صُوَر له من نصوص الدين، طمعًا في مالها وجَاهِهَا، وفي الوقت نفسه يَتقرّبون إلى العامّة بمُجَاراتهم في إشاعة الفِتنة وقالة السوء ضد مخالفيهم فاستحكم بعملهم هذا الخلاف بين الحكومات، واشتعلت نار الفتنة بين الطوائف ولا يمكن أن يكون غير هذا إذا تولّى العامة ومن في منزلة العامة من العلماء التحدّث في الدين بالشهوة لا باليقين، ولو رجعنا إلى المكتبة الإسلامية مثلاً وأحصينا الكتب التي ألفت في تغذية الخلاف بين المسلمين إلى جانب الكتب التي تعمل على إصلاح ذات البين، لاتضح لنا كيف كانت عوامل الشر أقوى وأعظم بكثير من عوامل الخير، ولعلمنا علم اليقين السر في بقاء الخلاف بين المسلمين على أشدّه إلى اليوم ككائن حي ينمو ويقوى خصوصًا إذا احتضنته أيدي أعداء الإسلام.

وقال الدكتور محمود فياض أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية أصول الدين بالأزهر

ولقد أهمَل قادة الفكر الإسلامي واجبهم، ولم يُؤَدّوا للأمة ولا لله ما عليهم في عصور مضت -معذورة أو غير معذورة- طُبعت بطابع الجُمود، وخيّم عليها الهوى وتحكمت فيها الشهوات السياسية واستـُخدم العلم فيها لتركيز الدولة، وتأييد مذاهب الحكام في إسرافٍ بعيدٍ عن حقائقِ الدين، وروح الإسلام، وتفرقت الأمة شيعًا وأحزابًا (كل حزب بما لديهم فرحون) فاحتزبت في سبيل سيادة بعض عناصرها لا في سبيل الله، ونقضت غزلها من بعد قوةٍ إنكاثًا، فقطّعت الأرحام وسادت فيها العصبيات الجنسية وحلّت محل الأخوة الإسلامية، كما سادَ التعصب المذهبي وحل محل الحرية الفكرية التي قررها القرآن العظيم، واطّلعت السياسة من ثغرات الأهواء على أهل العلم فرسَمَت لهم مناهج البحث لتأييد ما يُريدونه، بدل أن يوجه العلماء بأبحاثهم أهل السياسة إلى وسائل الخير وسُبل الصلاح.

وقال أيضاً :

ثم ما ذنبنا اليوم حتى نحمل أوزار قطيعة دفع إليها جُمود الفكر والبعد عن روح الإسلام، بتحكيم الدنيا في الدين، وتفسير نصوصه الصحيحة أو وضع نصوص باطلة مجاراة لأهواء رجال السياسة أو تقربًا إلى الحاكمين (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) لقد آن لنا أن نقوم بتصفية هذه التركة المثقلة بالمغارم، عن طريق التواصل والتراحم والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.

وقال :

ومما لا شك فيه إنّ كل دعوة للتفريق بين المسلمين، وإثارة أسباب الخلاف من جديد بين الطوائف الإسلامية، خيانة لله ولرسوله وآله، والقرآن العظيم، والأمة الأسلامية، فكل مُثيرٍ للخلاف، داعي للفرقة، حُتّم علينا أن نشكك في نواياه، وأن نعمل على ردعِه سيَما في هذا الزمان الذي تُهَدَّد أرض المُسلمين فيه من كل جانب الجيوش والمبادئ، وإلا كنا مفرِّطين تحق علينا كلمة العذاب.

وقال أيضاً :

إنّ عهد التأليف الحقيقي عند المسلمين كان في ظلال حكم العباسيين، وقد كان حكمهم دنيويًا أكثر منه دينيًا، وكان مُلكًا لا خلافة، وكان أسباب تدعيم المُلك العباسي أهم بكثير من توخي حقائق العلم، وأحكام الدين، وكان الخلاف بين العباسيين وبني عمومتهم العلويين قد بلغ مَداه، وتفنّن كل فريق في تجريح الآخر، فروى ما يُسقط منزلته بين المسلمين، وقد وَجد الفريقان من العلماء من فسد ضميره، فروى كذبًا لكل فريق ما يشتهي.

فإذا كان ذلك كذلك وَجَب على أهل العلمِ الذين يبحثون عن تاريخ الفِرق وأصول مذاهبها، أن يكونوا شديدي الحذر، وأن يتوخوا الدقة التامة وأن يحتاطوا أشد الحيطة في نسبة الآراء والحكم عليها، وأن يقارنوا بين المرويات فيبحثوا أسانيدها.

وقال الشيخ محمد عرفة عضو جماعة كبار العلماء

يكون للسلطان مصلحة في رأي من الآراء، أو في الفرقة والإختلاف، فيُروّج لهذا الرأي وتقوى دعائمه، وتوضع لهذا الإختلاف أسبابٌ تُبَرّره حتى يَستحكم الإختلاف ويَتم الإنقسام، وتَتمَّ مَصلحة السلطان الوقتيّة من توطيد مُلكه أو كّيد عدوّه.

إنّ الإسلام وَضَعَ مبادئه وأحكامَه على أساس مصلحةِ المجتمع الإسلامي كُلّه بجميع طوائفه وأجناسه وهيئاته المختلفة، فإذا حُرّفت هذه القواعد أو بعضها لمصلحة طائفة كمصلحة الحاكمين مثلاً نالت هذه الطبقة مَصلحة وقتية ودخل النقص والضَرَر على مصلحة المحكومين، ومن ثم على مصلحة العامة: مصلحة المجتمع.

والقائم على هذه المبادئ الإسلامية يمنعها عن التحريف وسوء التطبيق هم العلماء الذين يعرفون روح الإسلام وما به مصلحة المسلمين.

فإذا استجاب العلماء للسلطان، ومُغريات السلطان الكثيرة، فعنده المال والجَاه ومَتاع الدنيا وحظوظها، وعنده العذاب والتنكيل فمنه سيفُ العِز وذهبه دخل على الأُمّة من البلاء بقدر ما يُضيّع العلماء من هذه القواعد العادية الحافظة للصلاح والدارئة للفساد، وقد أشار إلى هذا عبد الله بن المبارك في قوله:

رأيت الذنوب تُميت القلـوب   وقـد يُــورث الـذل إدمـانها
وتركُ الذنوبِ حياةُ القـلـوبِ   وخيــرٌ لنفسكَ عِصيـــانهـا
وما أفسدَ الدينَ إلا الملــوكُ   وأحبــارُ ســوءٍ ورهبـانهـا

يقول إنّه لم يُفسد الدين إلا الملوك وعلماء السوء، أولئك برغبتهم الجامحة، وهؤلاء باستجابتهم وعدم المحافظة على ما استودعوا عليه من صيانة الدين من التبديل والتحريف، ويتبع فساد دين الناس فساد دنياهم، لأنّ الدين جاء بقواعد العدل التي تصون مصالح الأفراد والطوائف، فإذا أضيعت هذه القواعد بضياع الدين، ضيع العدل بين الأفراد والطوائف، وإذا ضُيّع العدل ساءت الأحوال وفسد أمر الدنيا.

هذه الأمانة التي في أعناق العلماء إذن أمرُها عظيم، وخَطَرُها جَسيم إذا أُدِّيَت صلح الدين والدنيا، وإذا ضُيِّعت فسد الدين والدنيا، لذلك عظّم الإسلامُ أمرها، وزيّن أداءها في قلوب الناس، قال النبي (ص) : (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر).

وقد كان من الحاقدين على الفقهاء من تَبَلّغ به الفطنة والذكاء إلى أن يَعكس القضية عليه، ويُبيّن أنّ في اجتهاده تأييدًا للسلطان، وإنَّ تقويض السلطان من أساسه هو فيما يُريده هذا اللاحي.

وقال الأستاذ محمد تقي القمي السكرتير العام لجماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية

أما الخلاف الذي لا نرحب به ولا نقبله، بل نرفضه ونقاومه، فهو الخلاف الذي تُمليه الكراهية والبغضاء، وتُغذّيه الشبه والأوهام، ويوجِد البلبلة في صفوف الأمة، ويُؤدي إلى تفريق كلمة المسلمين.

ذلك الخلاف لا يتفق والخلق الإسلامي، ولا يستند إلى المعارف الإسلامية، حمل لواءه مؤلفون كتبوا قبل التثبت تارة، وبداعي الغرض والهوى تارات، فسوّدوا صحيفة الشيعة في نظر أهل السنة، وسوّدوا صحيفة أهل السنة في نظر المتشيعين (يقول المؤلف في الحاشية : وسوّدوا صحيفة العلويين في نظر السنة والشيعة ).

وكم من كتبٍ وُضِعت لتأجيج الخصومة بين طوائف المسلمين، وكم من أقلام أسفّت في التجريح خدمة لحكام طغاة أقاموا عروشهم على أساس الخصومة بين المسلمين.

وكان لهذه التآليف أسوأ الأثر في تصدّع وحدة الأمة، فقد غُرست البغضاء في القلوب، والظنة في العقول. وأبعدت طائفة كبيرة عن إخوانهم في الدين.

وقال أيضاً :

إنّ هناك من أقحموا أنفسهم في الدراسات الإسلامية وهم ليسوا بمسلمين، أولئك هم المستشرقون، لقد ألّف بعضهم في التاريخ الإسلامي وعلم الكلام، وكتب بعضهم في الطائفية في الإسلام، وأضفوا على بحوثهم – تحت إسم الإستشراق – مظهرًا علميًا يجعل المسلم يكاد لا يشك فيما يكتبون.

ونحن وإن كنا نعترف بأنهم خدموا بعض العلوم الشرقية، إلا أننا نتهمهم في ناحية البحوث الإسلامية، فليس فيهم من لم يبث السموم في بحوثه، وليس فيهم من لم يكن وراء ما يكتب أغراضًا تُسيء إلى المسلمين تارة، وإلى سمعة الإسلام تارة، وتؤجج الخصومة بين أبناء هذا الدين.

إنهم يُحَمّلون الإسلام وزر كل التصرفات السيئة التي ارتكبها الظالمون. ويخبلوا أبطالاً خياليين كعبد الله بن سبأ وأمثاله، ويصوّرونهم على إنهم أصحاب كل حَول وطَول في تاريخ الإسلام.

ويناصرون بكل قوتهم أي عمل يُفرّق كلمة المسلمين، وأكبر دليل على ذلك موقفهم من النُحَل الجديدة التي ظهرت منذ قرن والتي تدّعي الإسلام، كالبابية والبهائية وإضرابهما، فهم يطبلون لها ويزمرون، وهم يعتبرونها من الفرق الإسلامية رغم أن المسلمين أنفسهم لا يعترفون بإسلامها قط، بل يبلغ الأمر ببعضهم أن يُخصص جزءًا من بحوثه في أدب البابيين، ثم بعد ذلك ينسبون لأنفسهم الأفكار الإصلاحية في الإسلام.

إنّ الأمر قد يكون مفهوماً بالنسبة للمتزمتين أو المتعصبين من المسلمين، أما بالنسبة لهؤلاء وهم غير مسلمين، فليس مفهومًا على الإطلاق! ما دخل هؤلاء بالطائفية وهم ليسوا بشيعة ولا بسنة، وما اهتمامهم بالفرق الإسلامية وهم ليسوا بمسلمين؟؟

إنهم دخلوا المعركة بكل قوتهم، وكأنهم قوام على أبناء هذا الدين، دخلوا بدعايتهم الجبارة للدس وبث السموم باسم البحوث.

وحرصوا جد الحِرص على إظهار المسلمين دائمًا بمظهر المتفرقين المتطاحنين، يتصيدون الحوادث من هنا وهناك ليُبرزوا النقط الخلافية ويُرجعوها إلى منابع قديمة تسبق الإسلام، غير مُبالين بمعنى التوحيد عند المسلمين، ولا بإيمان أهل القبلة بالقرآن الكريم، وبالملائكة والنبيين، وبالبعث والحساب ولا آبهين لوحدة الصلاة والزكاة والصوم والحج، وغير ذلك من أصول الإسلام الحنيف.

وإذا دُعوا لإلقاء مُحاضرات في الجامعات، جعلوا همّهم توكيد معنى الفرقة بين المسلمين، وإذا ألقوا بحوثًا في مؤتمر علمي انصبّت بحوثهم على إظهار الطائفتين الكبيرتين في الإسلام بمظهر أصحاب دينَيْن مختلفين لا دين واحد، وإذا عثروا على كتاب قديم في التجريح والسباب، لا يهدأ بالهُم إلا أن يُعيدوا طبعه، وإذا وجدوا نسخة خطية فيها التشنيع والتشهير حرصوا على طبعها ونشرها في العالمين.

ويا ليتهم يكتفون بذلك، بل إنهم بدؤوا يؤلفون كتبًا، يُسرف فيها بعضهم في التشيّع إلى حد الغلو ( يقول المؤلف: من جملة الكتب الموضوعة، تلك المخطوطات الموجودة في المتاحف الغربية الكبرى والتي يستند إليها البعض في الطعن بالعلويين وقد أتينا على ذكر بعضها في فصول من هذا الكتاب).

ويُسرف فيها البعض الآخر في التسنن إلى أقصى الحدود حتى لكأنها من الخوارج، ذلك لكي يكسب كل منهما عطف فريق من المسلمين فتتاح لهما فرصة الدّس والإيقاع وتسميم الأفكار في أوسع حدود.

وأخطر من ذلك كله أن نفرًا من المؤلفين المسلمين يعتمدون في بحوثهم على أقوال المستشرقين كأصول مسلّمة نظراً لحسن ظنهم بهؤلاء، وفي هذا من السذاجة والبساطة ما يُضحك نفس المستشرقين.

إن دُعاة الإستشراق الذين يتظاهرون بالتعصب للشيعة تارة، وللسنة أخرى هم في الغالب من أشد الناس تعصبًا لديانتهم، وهم في الحقيقة أحرص الناس على تحطيم المسلمين كمجتمع، والقضاء على الإسلام كفكرة، ومحو العقيدة الإسلامية من الوجود.

أذكر أننا حين كنا نحاول إقناع أصحاب دار النشر ليصرفوا النظر عن طبع كتاب قديم، فيه من الخرافات ما يُضحك غيرنا علينا، وفيه من السخافات ما يُثير سخرية شبابنا نحن بعد أن تفتحت عقولهم بالثقافة، وفيه من تجريح العواطف ما كانت تُمليه سياسة الحكم في عهد المؤلف.

إذ مستشرق يهاجمنا في مجلة فرنسية، ويُجزم إن هذا النوع من الكتب ضروري لفهم عقلية المسلمين قبل قرون، ومعنى هذا إن الكتاب سند وأي سند، يخدم أغراضهم، ويُساعد على تحقيق مأربهم.

فماذا علينا نحن كمسلمين؟؟

  • أليس علينا أن نُعنى بدراستنا عناية تامة عن هؤلاء المُصَحَّحين للألفاظ الذين لا هَمّ لهم إلا نبش الماضي، وبعث ما يُثير الأحقاد بين المُسلمين، كي تتفرق كلمتهم، وتتفتت وحدتهم؟
  • أليس علينا أن ندفن إلى الأبد كل ما يُظهرنا بمظهر المنحرفين المتفرقين؟
  • أليس من واجبنا أن نُثبت أن أهل البيت أدرى بما فيه، وأن نُتعب أنفسنا ونُظهر حقائق خلافاتنا التي نعتز كأصحاب فكرة حرّة سليمة؟
  • أليس من واجبنا أن نُخرج كنوزنا، ونُبرز ما في التراث الإسلامي من روعة وجلال؟

إننا بين أحد أمرين :

  • إما أن ندخل الميدان بكل قوتنا فننجوا من أحابيل دِعة الفرقة.
  • وإما أن نتخاذل ونتواكل فيُجهز علينا أعداء الإسلام.
وقال فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف دراز مدير الأزهر والمعاهد الدينية وأحد الأعضاء المؤسسين لجماعة التقريب

انطلق المسلمون الأولون يحملون هذه الراية، وينشرون هذه الرسالة، ففُتِحَت أمامهم أبواب العالم، وانطوت فيهم المدنيات، وتمثلت في ثقافتهم الثقافات، كما تتمثل في جَني النحل أزاهير النبات، وأعاصير الثمار، وولجوا بالقرآن كل باب، واستجلوا بالسنة المُطهرة كل غامض، وكانت عقولهم صافية، وقلوبهم صافية، فلم تعبث الأوهام والخرافات بالأولى، ولم تفسد الأضغان والأحقاد أمر الثانية، فكانوا في العلم والفكر هداة راشدين، وفي التعاون والتضاف على الحق والخير مثلاً عليا للمتقين، ووقف العالم ينظر إليهم مذهولاً مشدوهًا، وأحس أرباب السلطان وأعوان الطغيان بالأرض تميدُ من تحتهم، وتضطرب بهم، وأدرك الباطل والفساد أن قوّة لا تُقاوم تزلزل عليهما عرشهما، وتقوّض بناءهما، وأن مصيرهما أمام هذه القوة هو الإنهزام والإنحدار، أو التسليم والإستخزاء، فآثر الأخرى على الأولى، وخفضا رأسيهما إلى حين، حتى إذا واتتهما الفرصة حين أثمرت عوامل التفرّق الأول بين المسلمين ثمارها، وتقطّعت الأواصر واستلت سيوف الأخوة على الأخوة، بدا قرن الفتنة، وتحركت الأفاعي الكامنة المتلبدة، وانطلقت من مكانها، تلبس لباس يُواري سوأتها، وتظهر في صور شتى وألوان مُختلفة، مرة في السياسة بإثارة الأحقاد، وبث الفتن والمكائد، وإذكاء نيران العصبية، وتخويف كل فريق من الآخرين، ومرة بإفساد العلم والفكر، عن طريق الوضع والإفتراء والتأويل الفاسد، وإثارة الشبه، والخوض فيما نهى الله ورسوله عنه، وتُحرج المسلمون الأولون منه، وبهذا وُجِدَت الأحزاب السياسية، وانبعثت العداوات القديمة والإحن الماضية من مراقدها.

وتفرقوا شيَعاً فكل قبيلـــة   فيها أمير المؤمنين ومنبـــر

وبهذا وُجدَت الفرق الدينية، واشتغل الناس عن المُثمر من العلم والنظر فيما لا يُغني ولا يُجدي، وامتلأت البلاد من أقصاها إلى أقصاها بالفتن السياسية والعلمية وشُحِنت الكتب بآثار هذا الخلاف فاختلط الحق بالباطل، وشيب الصالح بالفاسد، وتوالت على ذلك القرون والأجيال، والضعف يتبع الضعف، والداء يسري من جانب إلى جانب، حتى أفضى الضعف السياسي إلى تلك النكبات التي يُلاقيها المسلمون على أيدي المستعمرين، وأفضى الضعف الفكري إلى تبلبل أفكار الأمة، وتفاوت النظر فيها، فمن عالم يُنادي بأن كذا هو الحق، وما سواه باطل، بل هو الدين وما سواه كفر وإلحاد، ومن آخر يعكس القضية ويَزري على الأولين، ومن طائفة تعكف على نفسها، وتؤمن بما عندها، وتخاف من كل طائفة سواها، إلى طائفة تظن بها الظنون، وتفرض فيها السوء، وتحمل عليها، وتنبذ علماءها، وتحقـّر أهلها.

وقد غُذّيَت هذه الخلافات، وهذه السياسات بكثير من الروايات الملفقة، والأحاديث الموضوعة، والأخبار المفتراة، وامتلأت كتب التفسير والمغازي والمناقب بما لا يُحصى من الأكاذيب، وأصبح بجوار كل آية في كتاب الله رواية من الروايات تحمل عليها، بل تلوي إليها، وفُسِّرَ القرآن بما يوافق أصحاب الآراء، وقيل من الأحاديث ما يؤيدهم، وطُعِن فيما يخالفهم، واشتبه الأمر فيما يُقبل وفيما يُرفض، وفيما يصح وفيما لا يصح، ليس على الوسط من الناس فحسب ولكن على بعض ذوي العقول الراجحة والذكاء الألمعي أيضًا، ولم يسلم ذلك إلا من عصم الله وقليلٌ ما هُم.

* * *

هذه جملة من الأقوال الصادقة لبعض العلماء المنصفين وبها يُشخّصون الواقع الإسلامي في الماضي وما نتج عنه في الحاضر من المآسي التي اكتوى بها الكثيرون ومن أكثر الفرق التي هوجمت بضراوة، وبشدة هذه الطائفة المسلمة العلوية والتي اتهمت بعقائد وعادات لا تمت إليها بصلة.

فرأيت من واجبي الديني، وحقي الشرعي، أن أبيّن للقارئ الكريم المُنصف الذي يَبغي الحقيقة من أقلام أصحابها لا من أقلام غيرهم، أصل العلويين العربي والإسلامي الذي يفتخرون به، مُستنداً في ذلك على أقوال علمائنا، وعلماء الفرق الأخرى، ومُستشهداً بالواقع الصحيح الثابت الذي لا يُنكره إلا كل مُتحامل ومُتعصب يُنكر الحقائق الثابتة، مع وضوحها وجلائها .

قال السيد محمد جواد مغنية

فإذا أراد الكاتب أن ينسب لأحد المذاهب أصلاً أو فرعًا يجب عليه قبل كل شيء أن يكون على معرفة بأقوال علماء المذاهب واصطلاحاتهم وطريقتهم في تقرير الأصول، واستنباط الفروع، وأن ينقل عمّن يُعَبِّر عن عقيدة الطائفة دون تعصب لها أو على غيرها من الطوائف.

قال أيضاً :

إنّ العالم المُنصف إذا تكلم عمّا تدين به طائفة من الطوائف اعتمد على الكتب المعتبرة عندها، وما ثبت من مذهبها، أما النقل عن خصومها، وبخاصة خصومة العقيدة والمذهب، فهو تمامًا كالحكم على المُدّعى عليه بمُجَرّد إقامة الدعوى، وقبل الإستماع إلى الشهود والبيّنات.

وهذه هي حال العلويين فما كَتَبَ عنها كَاتِبٌ إلا واعتمدَ على أقوالِ خصومها من التُجّار المُرتزقين ، ورُسُل الإستعمار المستشرقين .