سلوك الفقهاء في عصر المماليك

أُضيف بتاريخ السبت, 06/11/2010 - 18:44

جاء المماليك 1 ومعهم فقهاؤهم وورثوا عن الأيوبيين مذهب الأشعري في العقيدة والشافعي في الفقه الذي فرضهما صلاح الدين كما أسلفنا وذلك بعد تصفية الوجود الشيعي.

ففي سنة 665 هـ أصدر الملك الظاهر بيبرس مرسومأً ملكياً بقصر التعامل في مجال الفتوى على أحد المذاهب الأربعة ، وفي مجال العقيدة على مذاهب الأشعري .

ولمّـا كان الحُكّام المماليك أصولهم من الرقيق كانت حاجتهم إلى الشرعية أشدّ من حاجة غيرهم من الحكام ، ولهذا فقد احتضنوا الفقهاء وقرّبوهم وأنعموا عليهم بالمناصب والعطاء فأصبحوا ظلهم الدائم لا يقطعوا أمراً دونهم ، وكان فقهاء الشافعية هم الأقرب دوماً من السلطان وأكثر المتولين لمناصب القضاء على مستوى مصر والشام دائرة حكم المماليك.

وكان حكام المماليك يمارسون سُنّة الأيوبيين والعباسيين من قبلهم في اختيار السلطان ومبايعته بشهادة الفقهاء ومباركتهم .

وقد شهد ذلك العصر حالة وئام وتعايش بين الفقهاء والحكام ، ولم تبرز حالة صِدام بينهم رغم وجود شبهات شرعية حول تولي الرقيق أمر المسلمين ، ورغم أن الحاكم كان شديد التعسف والظلم للرعية ، إلا حالة واحدة من الصِدام وقعت وهي من قِبل العز بن عبد السلام حينما تصدّى للرسوم المالية التي كان يفرضها المماليك على الناس كما أنه طالب ببيع المماليك في الأسواق ثم تحريرهم 2 .

وحينما سقطت الدولة العباسية على يد التتار عمل الظاهر بيبرس على إحياء الخلافة العباسية في مصر فاستقدم أحد أبناء العباسيين وهو أحمد بن الخليفة الظاهر بن الخليفة الناصر والذي كان قد فرّ هارباً من وجه التتر .
وخرج الظاهر بنفسه ومعه وزيره ، وقاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز والفقهاء والأمراء لاستقباله وأسكنه قلعة الجبل ثم أشهد قاضي القضاة والفقهاء بأنّ نَسَبَهُ يتّصل بالعباس بن عبد المطلب وأقر بذلك القضاة والفقهاء ، فقام السلطان بيبرس فبايعه وتبعه القضاة والفقهاء ولُقِّبَ بــالمستنصر بالله .

ولم تكن فكرة نقل الخلافة العباسية إلى مصر سوى واجهة لحكام المماليك يستمدّون منها الشرعية التي افتقدوها بسبب انتسابهم إلى الرق .
والدليل على ذلك أنّه في نفس العام الذي وصل فيه المستنصر العباسي إلى مصر سنة (659هـ ) قام بيبرس بجمع القضاة والفقهاء وجاء بالمستنصر ليخلع عليه خلعة السلطنة ويُقلّده حكم البلاد وتمّ ذلك في حفل كبير كما جاء في تاريخ الخلفاء ومع هذا فقد عايش الفقهاء هذا الوضع المتناقض والمُخالف لقواعد الفقه التي ورثوها عن طريق السلف والتي تنص على أن الخليفة يجب أن يكون قرشياً .

وكان الخليفة العباسي في ظل حكم المماليك لا يملك من الأمر شيئاً فهو ليس إلا مُجرّد صورة ، وتنحصر مُهمّته في تقليد السلاطين المماليك وتفويضهم لحكم البلاد ، وإذا ما بَدرت منه بادرة أثار ريب السلطان فإنه لا يتردّد في عزله وحبسه أو قتله وتولية الخلافة لمن يشاء من أبناء العباسيين في مصر .

وقد حصل ذلك مع المُستعين حينما اجتمع القضاة الأربعة : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي بأمر من كاتب سر السلطان (المؤيد شيخ) واتفقوا على خلعه ، بالإضافة إلى أنّ الخليفة عينه قبل أن يُخلع اجتمع مع الفقهاء من مصر والشام وكتبوا محضراً يحكمون بمقتضاته على الناصر فرج بالخروج عن الدّين واستباحة دمه وذلك بإيعاز من الأمراء الذين استبدلوا بالحكم بعد إطاحتهم به وقبل ذلك فقد ناصر الفقهاء السلطان الناصر فرج على نفس الأمراء .

ويُذكر أن المُستعين قام بعزل جلال الدين البلقيني قاضي الشافعية لتحالفه مع الناصر فرج ، وكان للبلقيني دور بعد ذلك في التآمر على المُستعين .

وهذا من أدل دليل على أن فقهاء ذلك الزمان كانوا أداة بيد السلطان الجائر يُحرّكهم كما تقتضي مصلحته الخاصة ولم يكن تعيينه لهم إلا تبريراً لجرائمه المنافية لعدالة الإسلام وسماحته .

وكان حكم المماليك إذا ما خرجوا لحرب أخذوا الفقهاء معهم ضمن عناصر الجيش ، فلقد كان تقي الدين ابن تيميّة على رأس الحملة الكسروانية التي فتكت بالعلويين في لبنان بعد أن أفتى لصديقه السلطان محمد بن قلاوون بإباحة دمائهم الزكية ، ولكن صديقه المملوكي ضحّى به في النهاية تحت ضغط بعض الفقهاء والقضاة ، وحبسه حتى مات.

  • 1 يقول العالم الشيخ محمد حسن شعبان (ق):
    جاء المماليك الذين تأنّقوا   في سحق أمّة يعرب وتفنّنوا.
  • 2 مدافع الفقهاء : صالح الورداني.