الحكم بالإعدام على المجاهد الشيخ صالح العلي من قبل محكمة غورو.. اختفاء الشيخ حوالي سنة كاملة وعجز الفرنسيين في العثور عليه.. صدور قرار العفو وعودة الشيخ إلى عرينه في الجبل...

أُضيف بتاريخ السبت, 17/12/2011 - 04:06

أين الشيخ:

لقد مَنّى الفرنسيون أنفسهم بالقبض على الشيخ فأحاطوا عرينه الحصين من جميع الجهات وهم لا يجرؤون على ولوجِه حتى ولا الإقتراب منه، ودامت الحال أيامًا، وإذا بالأخبار ترِدُهُم بأنّ الشيخ في غير ذلك المكان، وكانت الصدمة عنيفة استشاطت لها نفوسهم غيظًا واضطربت لها ألمًا، وبقيت جيوشهم الجرّارة في الجبل مُعسكرة توزّع الجنود في كل مكان مُحاولة القبض على الشيخ لأنّ بقاء قائد الثورة حُرًّا قد يُعيد لَمَّ الصفّ وتأمين السلاح وإشعال الثورة من جديد، ولما فشل الفرنسيون بإلقاء القبض على الشيخ إلتأمَت محكمتهم العسكرية برئاسة الجنرال غورو وقرّرت الحُكم عليه بالإعدام وهذا نصّ الحًكم:

(يُسار مُكبّلاً بالقيود مُصفّدًا بالأغلال إلى باريس، ويُطاف به شوارع باريس على هذه الهيئة، ويُعدم في ساحة الشانزيليزيه شنقًا حتى الموت، ورميًا بالرصاص تشفيًا للأمّهات الفرنسيات الثكلى اللاتي فقدن أولادهُنّ في حربه).

ثم أذاعوا هذا الحُكم في مناشير كانت تُلقيها الطائرات في كل مكان، ولم تمضِ أيامٌ حتى طبقت في الجبل من أدناه إلى أعلاه أخبار الحُكم بإعدام الشيخ صالح، فأمسك الناس قلوبهم بأيديهم واستولى عليهم الذعر والرعب والهلع والقلق على حياة شيخهم ومُجاهدهم وقائد ثورتهم الصاخبة، ووَدّ كُل مُخلص أن يكون بيته ملاذاً للشيخ ليُخفيه من الأعداء والمتجسسين ولو أدّى الأمر بصاحبه إلى التضحية بنفسه وذويه.

إختفاء الشيخ:

ولكن الشيخ كان في مكان لا يحصيه الفكر ولا ينفذ إليه البصر، بل إنه كان في مكان غير مستقر وغير معروف يدأب على التنقل من هنا إلى هناك حتى أصبح في مأمنٍ من معرفة الناس واشتباههم به، وحتى أصبح منظره يشتكل على أقرب الناس إليه ويلتبس على أعزّهم وأخلصهم لديه، وقد صدف مرّات عديدة أن التقى به الجنود الفرنسيون ولكنّ سُرعة خاطره ورباطة جأشه كانت سببًا في خلاصه.

وقد روى أنّه أقام على جبل (الشيخ حيدر الضهر) أيامًا يختبئ وراء صخوره المنيعة وأشجاره الكثيفة، وأنّه علم في صبيحة أحد الأيام أنّ كتائب فرنسية هائلة تُحيط بالجبل من جهاته الأربع، وأنّه لم يعد هناك أملٌ بالنجاة مهما تعدّدت المسالك ومهما تنوّعت السُبُل، وأنّ الفرنسيين على علمٍ بوجوده في ذلك الجبل فساقوا إليه تلك القوى الكبيرة، فقام الشيخ وتوضّأ وصلّى ثم سلك الطريق الرئيسيّة المؤدية إلى قرية قريبة من الجبل وبادا الجند بالسلام من بعيد وسألهم: ماذا تفعلون هنا يا إخوان؟

فأجابوه: لقد بَلغَنَا أنّ الشيخ مُختبئ في هذا الجبل فجئنا للقبض عليه ومُقاضاته الحساب.

فقال لهم: كلنا نبحث عن الشيخ والذي يتفوّق منا يكون أسعد حظًا من الجميع.

ثم تركهم ومشى فلم يعترضه أحد، والفضل في ذلك إلى: رباطة جأشه وسرعة خاطره ومباداتهم بالحديث، وهذا لعمري مُنتهى الإقدام.

لقد دام اختفاء الشيخ سنة كاملة والفرنسيون يجدّون في أثره ويتعقّبون خُطاه وهُم في حَيرة دائمةٍ من هذا الإختفاء، وقَلّبَ الفرنسيون الأمر من جميع وجوهه فوجدوا أنّ لا طاقة لهم بالبقاء على هذه الحال، لِما يتكبّدون من نفقات كبيرة في سبيل القبض على الشيخ دون جدوى، فقرّروا إصدار قارٍ بالعفو عن الشيخ وإذاعة قرار العفو بالطائرات، وإنّنا نذكر كلمة العفو ونفوسنا تتنزّى ألمًا وحزنًا فالشيخ من غير الجُناة وهذه الكلمة لا تُستعمل إلاّ بحق المجرمين والشيخ لم يكن مُجرمًا.

وألقت الطائرات مناشير تحمل توقيع الجنرال غورو وهو يُقسم بشرفه العسكري أنّه لن ينال الشيخ أذى ولن يَمَسّه سوء، وبلغت الشيخ أنباء العفو المُذاعة وهو يومئذٍ في قرية بشراغي عاصمة الثورة في الشمال.

وكان الشيخ على علمٍ تامٍ بكل ما يجري من قِبَل الجيش وعلى صِلة وثيقة بحركات جنوده وما يقومون به في شتى نواحي الجبل من أعمال البطش والفتك والتخريب، حتى أنّ القومندان (رساك) كان يقذف بمن يشتبه بهم من أعلى بُرج صافيتا والذي يُقارب ارتفاعه الخمسون مترًا، وحتى إنّ قرى كثيرة أُحرقت بمُجرّد الإشاعات أنّ الشيخ لجأ إليها واختبأ فيها، ومن هذه القُرى قرية (عين الذهب) و(المعمورة) في صافيتا، وأدرك الشيخ أنّ لا خلاص للسكان من تعذيب الفرنسيين وانتقامهم إلا باستسلامه إلى أعدائه الموتورين، وأيقن أنّ ذلك هو الوسيلة الوحيدة للتخفيف عن كاهل الشعب المُرهق وإراحته ممّا يلقى من مظالم الإحتلال، وحينئذٍ ورحمةً بالمُضطهدين والمُعذّبين قرّر الشيخ الإستسلام، وكان قرارًا رهيبًا، وأرسل الشيخ من يُخبر مُستشار جبلة بهذا القرار، وأسرع المُستشار ومعه المرحوم أحمد الحامد إلى قرية (بشراغي)، فأدّى المُستشار التحية العسكرية للشيخ وانحنى أمامه في كثيرٍ من الخضوع، وذهب الشيخ والمُستشار معًا لمقابلة الجنرال (بيلوت) في اللاذقية، واستقبل الجنرال سماحة الشيخ بما يليق به من الحفاوة والترحاب، وسأل الشيخ: عن الدافع إلى تلك الثورة والباعث على تلك الحرب الضروس، واختصر الشيخ الجواب فقال:

حُبُّ الوَطَن

وسأله الجنرال عمّا أخَّرَهُ عن الإستسلام؟ فقال: (لم يكن ذلك خوفًا من الإعدام ولكن صونًا لكرامة الجهاد).

ثم قال: (والله لو بقيَ معي عشرة رجالٍ مُجهّزين بالسلاح والعِتادِ لما تركتُ القتال).

وأُعجِبَ الجنرال بهذه الصراحة وعَرضَ عليه أن يُقيم إلى جانبه في السراي ويُساعده في الحُكم ويتقاضى عن ذلك راتبًا ضخمًا، فرفض الشيخ، واستغرب الجنرال هذا الرفض وسأله عن السبب فأجاب الشيخ في صراحته المعروفة: إنّ الله يقول في كتابه العزيز  وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ  .

وانتفض الجنرال من الغيظ وسأل الشيخ: هل نحن ظالمون؟

فقال الشيخ: نعم، لولا أنّكم ظالمون لما جئتم إلى هذه البلاد.

وأبلغه الجنرال آخر الأمر أنّ الفرنسيين سيحترمون قرارهم بالعفو عنه ولا يمسّونه بأيّ أذى أو مكروه، ولكنّه طلب من الشيخ أن لا يُغادر الجبل إلاّ بإذنٍ خاصٍ من قيادة الجيش.

وعاد الشيخ إلى عرينه في الجبل بعد أن استقبلته في الطريق جبلة وبانياس وطرطوس استقبال الملوك الفاتحين، وانزوى فيه وفرض على نفسه عُزلة لم يخرج منها إلاّ في المواقف الوطنية الحاسمة التي تتطلّب الجهر بمصالح البلاد:

  • وحينما احتدمت معركة الوحدة والإنفصال سنة 1936م كان الشيخ أول من استنكر ذلك وأوّل من لَبّ صرخة الضمير الوطني للقيام بثورة جارفة ضد الغاصب المُحتل.
     
  • ولما قام الفرنسيون سنة 1944م باعتداءاتهم المُنكرة على دمشق وهَبّت الأُمّة غاضبة حانقة ثائرة، وكان الشيخ أوّل من لبّى نداء الأمّة الهدّار فأبرق إلى المراجع الرسمية: ((سيوف المجاهدين تتململ في الأغماد، ونفوسهم في غليانٍ واضطراب، لا نقبل أن تُمتهن كرامة الأُمّة، وتُخرق حُرمة الإستقلال، إنّنا للمُعتدين بالمرصاد، وسيرى الظالمون أيّ مُنقلبٍ ينقلبون)).

وكان لهذه البرقية صدًى هائلاً في سائر البلاد السورية، وأبرق المرحوم السيد (سعد الله الجابري) رئيس المجلس النيابي حينئذ يقول:

(إنّ برقيتكم النبيلة هذه قد هزّت الضمير الوطني، وأيقظت الشعور القومي، وهيّجت في نفوس المُخلصين رُغبة الجهاد وحُب الإستشهاد).

وجمع الشيخ من حوله المُجاهدين، وحاول الزحف على الثكنات العسكرية في مصياف وطرطوس وبانياس، ولكن ظروف المحافظة السياسية آنذاك أرغمت الحكومة الوطنية على إرسال السيد (صبحي المحتشم) قائد سرية طرطوس معقل الشيخ ليُبلغه بأنّ الظروف لا تسمح الآن بإشعال نار الثورة، فتقبّل الشيخ الأمر وأوقف هذا الزحف.

بعد هذا نأتي على ذكر مُختارات من قصائد المجاهد الكبير الشيخ صالح العلي والتي يُخلّد بها بعض المعارك التي قاوم بها الإحتلال الفرنسي، وقِسمٌ منها توسّلات لله جَلّ جلاله، والله وليّ التوفيق.