5- الدليل على معرفة الإله المعبود من طريق الكون و الوجود.

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 12/10/2010 - 17:40

إعلم إن أقرب دليل و أوضح سبيل إلى معرفته تعالى الإستدلال عليه بعلم الكون 1 و الوجود 2 .
لأن علم الكون يُعَلمنا أنّ الكون جميعه مُرتبط بناموس لا يَتعدّاه إلا صانعه, و من هذا قيل إنّ دراسة الكون عبادةٌ صامتةٌ و تسبيحٌ عِلمي, وإنّ نظامه البديع يَدُلّ على قوة و إرادة و حكمة أبدعته و سوّته العناية الربانية و القدرة الإلهية.

وأما علم الوجود فهو العلم الصحيح الذي يَهدينا إلى الحدود التي لا يُستطاع تجاوزها و يُرينا أننا عاجزون عن إدراك حقيقة الكنه الإلهي إلا ما خصنا الله به من كتاب الوجود, و من ذلك قول بعض العلماء :
إنّ هذا الوجود هو كتاب الله سبحانه الذي لا تنتهي كلماته و لو كانت البحار مَداداً لكلماته لنفذت قبل أن تنفذ كلماته.
فكتاب الوجود ( هو السبيل الوحيد لمعرفة عظمة الخالق عز وجل و سِعَة عِلمه و رحمته وحكمته ) و من هنا مما يجب على العالم العارف أن يعلم بعلم اليقين أن لا مُؤَثر في الوجود إلا واجب الوجود سبحانه, وإنه يستحيل عليه التجزيء و الإنقسام فلا مثل له ولا نظير و لا تشبيه, شهدت به الأدلة القطعية و البراهين و البيّنات الدالة على إثبات وجوده تعالى واضحة غير أنه لا يُبصرها إلا بصير, و من هذا قيل العجب كل العجب من الشّاك في وجود الله تعالى و هو يرى خلقه.

و قد أصاب أبو حنيفة النعمان بقوله حيث قال :(لو لم يبعث الله رسولاً لوجب على الخلق معرفته بعقولهم لما يرى في الآفاق).

وهناك ضروب أخرى من طريق العموم و الخصوص لمعرفته تعالى منها :
- هداية الإلهام و الفطر و هداية المشاعر و الحواس, و هاتان الهدايتان تشملان أنواع الحيوان.
- وهناك هداية العقل الذي يُصحح خطأ الحواس ويُعلل الأشياء ويَستنبط و يَقيس, و هي خاصة بالإنسان إذ زلّل أسرار الطبيعة و فسّر كتاب الوجود.
- و منها هداية الدين و هي لطف عظيم من الله سبحانه اختص بها الإنسان حيث أرشده إلى ما لا يستطيع بعقله أن يُدركه إدراكاً صحيحاً و أزال حيرته.
لولا أن هناك مذاهب ابتدعت في الدين للضلال والإضلال قد انفجرت عن المادة و هيمنت على مشاعر كثير من النفوس الإنسانية و سدّت في وجهها سبيل الإيمان بالله و الوحي و الأنبياء و أسرار العوالم و اليوم الآخر و لا يزال يتفاقم شرها المستطير يوماً فيوماً و ينزل بالطامة الكبرى و إننا لا ندري أَشَراً أُريدَ بمَن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً.

و خلاصة القول من هذا الفصل هو أن نقول :
إنّ من رأى هذا الكون أي السماوات السبع و الشمس المستمرة و القمر المنير و الكواكب المتوهجة و الأرض الغنية بأنواع الحياة فمن البداهة يعلم أنها دليل واضح على أنها أصل الكون أو أساسه المرتبط بزمان بدا من لحظة معينة فإذا يعلم أنه حدث من الأحداث, و معنى ذلك أنه لابد لأصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية عليم محيط ليس لقدرته حدود و لا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه.
و من وجه آخر أنك لترى هذه الأرض اليابسة بيئة ثابتة لحياة كثير من الكائنات الأرضية فالتربة تحتوي العناصر التي يمتصها كثير من المعادن قريباً من سطح الأرض مما هيأ السبيل لقيام الحضارة الراهنة و نشر كثير من الصناعات و الفنون و على ذلك فإن الأرض مهيأة على أحسن صورة للحياة و لا شك أن كل هذا من تيسير حكيم و ليس من المعقول أن يكون مجرد مصادفة أو خبط عشواء. و لقد كان أشعيا على حق عندما قال مشيراً إلى الله : لم يخلقها باطلاً بل للسَكن صَوّرها.
وعلى ذلك فإن النتيجة الحتمية التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على أن لهذا الكون خالقاً فحسب بل لا بد أن يكون هذا الخالق حكيماً عالماً قادراً على كل شيء حتى يستطيع أن يخلق هذا الكون و يُنظمه و يُدبره و لا بد أن يكون هذا الخالق دائم الوجود تتجلى آياته في كل مكان و على ذلك فإنه لا مفر من التسليم بوجود الله خالق هذا الكون و مُوَجّهه كما أشرنا في بداية هذا الباب.

ومن دليل آخر روي أنه سئل العالم ( فرانك السن ) عالم الطبيعة البيولوجية ماجستير و دكتوراه من جامعة كردتل أستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا أخصائي في أبصار الألوان و البصريات الفسيولوجية و إنتاج الهواء السائل و حائز على وسام نوري الذهبي للجمعية الملكية بلندا ( عن نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد)؟!.
فأجاب أن كثيراً ما يُقال إن هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق و لكننا إذا سَلّمنا بأنّ هذا الكون موجود فكيف نُفَسّر وجوده و نشأته.
هنالك أربعة احتمالات للإجابة عن هذا السؤال :
(الأولى) : فأما أن يكون هذا الكون مُجرّد وَهمٍ و خيال و هو ما يتعارض مع القضية التي سَلّمنا بها حَول وجوده.
(ثانياً) : و أما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم.
(ثالث) : و أما أن يكون أبدياً ليس لنشأته بداية.
(رابعاً) : و أما أن يكون له خالق.

أما الإحتمال الأول فلا يُقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور و الإحساس فهو يعني أنّ إحساسنا بهذا الكون و إدراكنا لما يحدث فيه لا يَعدوا أن يكون وَهماً من الأوهام ليس له ظِلٌ من الحقيقة و قد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيراً ( سيرجيس جينز ) الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي و إنه مجرد صورة في أذهاننا.
وتبعاً لهذا الرأي نستطيع أن نقول إننا نعيش في عالم من الأوهام – فمثلاً القطارات التي نركبها و نلمسها ليست إلا خيالات وبها رُكاب وَهميون و تَعبر أنهاراً لا وجود لها و تسير فوق جسور غير مادية و هذا رأي وَهمي لا يَحتاج إلى مناقشة أو جدال.

أما الرأي الثاني القائل إنّ هذا العالم بما فيه من مادة و طاقة قد نشأ هكذا وحده من العدم فهو لا يَقل عن سابقه سُخفاً و حَماقة و لا يستحق هو أيضاً أن يكون موضعاً للنظر و المناقشة.

والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي 3 ليس لنشأته بداية إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون و ذلك في عنصر واحد هو الأزلي و إذن فنحن إما أن ننسب صفة الأزلية إلى عالم ميت و إما أن ننسبها إلى إله حي يخلق و ليس ذلك صعوبة فكرية في الأخذ.
و معنى ذلك أنه لا بد لأصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية عليم مُحيط بكل شيء, قوي ليس لقدرته حدود, و لا بد أن يكون هذا الكون صُنعه والحق أنه هو الذي نظم هذا الكون فأحسن تنظيمه و أبدعه أيما إبداع كما أبدع الطبيعة.

قال (إسحق واطسن) إنّ الطبيعة تحمل كتابها المفتوح وتُسَبّح بحمد الله وجلاله ومع ذلك فإن دراسة الطبيعة لا تكشف لنا إلا عن قدرة الخالق و نظامه المُحكم رغم أنها لا تستطيع أن تكشف عن حكمته و مقصده.

و هنالك أمر واحد لا شك فيه فبقدر ما بلغ الإنسان من معرفةٍ و ما لديه من ذكاء و قدرة على التفكير لم يشعر في وقت من الأوقات بأنه كامل في ذاته و الناس على اختلاف أديانهم و أجناسهم و أوطانهم قد عرفوا منذ القِدم و بصورة تكاد أن تكون عامة مبلغ تصور الإنسان عن إدراك كنه هذا الكون المُتسع كما عجزوا عن إدراك كنه صانعه المُبدع و عن إدراك سر الحياة و طبيعتها في هذا الوجود.

و الحق أن نقول فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمةٍ و تصميمٍ سابقٍ فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة و كيف يتسنى لنا أن نُفَسّر ما لا يُحصى من عجائب هذا الكون. و لهذه العمليات المعقدة المنظمة تفسيراً يقوم على أساس المصادفة و كيف يعمل هذا الكون دون أن يكون له خالق مُدَبّر و هو الذي خلقه و دَبَّره و دَبَّر سائر أموره.

و نتيجة الإختلاف بين الإلهيين و الماديين هو أن الماديين غَرّتهم الظواهر و لعِبت في أفكارهم الحركة الطبيعية فقالوا إن مُوجد هذا الكون هي الطبيعة – و إذا أمعنا النظر في معتقداتهم نجدها مفاسد أرادوا بها هدم ما بناه موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام, و ما نزل به القرآن و الأنجيل و التوراة و ذلك ليُغيّروا بها لون المجتمع المَبني على التعاضد المُنبعث من الحنان الروحي بين البشرية جمعاء. ومن ذلك قولهم إنّ العالم نتيجة صدفة و إتفاق و هذا خلافاً لقول الإلهيين الذين استنبطوا من بدائع نظام الكون و من أسرار الحياة و من اللاهوت معرفة وجود الإله و حصل لهم بذلك علم ضروري بأن الله تعالى هو الموجد لهذا الكون, و إن نتيجة إيجاد العالم إرادة إلهية و حكمة ربانية, و إن الإنسان إذا تجرد عن تأثير المحسوسات و لم يلتفت إلى محيطها الإجتماعي بل جعل العقل مرشداً و اقتدى بنوره يجد موجده فوق الطبيعة و قادراً فوق المادة فحينئذ يعلم علماً ضرورياً بأن مُدبر هذا الكون (إله) واجب الوجود و بهذه الدلائل يتحقق إن جميع مافي الكون يشهد على وجود الله سبحانه و يدل على قدرته و عظمته عز و جل.

  • 1 الكون باللغة الحادث كالكينونة و الكائنة الحادثة و كوّنه أحدثه و الله الأشياء أوجدها و المكونات الدنيا والآخرة (قاموس).
  • 2 الوجود نقيض العدم و له مراتب و فروع منها الوجود الذهني, الوجود الخارجي, والوجود المطلق. وفي الكليات أبي البقاء الوجود فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق لأنه لا بقاء للبشرية عند ظهور سلطان الحقيقة. وقال الجنيد : علم التوحيد مباين لوجوده و وجود التوحيد مباين لعلمه فالتوحيد بداية و الوجود نهاية.
  • 3 الأزلي نسبة إلى الأزل و هو ليس لنشأته بداية و الغير مسبوق بالعدم.