4- البنيان المرصوص في الدليل على معرفة وجوده تعالى من طريق الخصوص.

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 12/10/2010 - 17:40

إعلم أن معرفة الخصوص هي الوصف بالتجريد والتنزيه ويختص بها فضلاء الناس وهم الحكماء والعلماء لأن الباحث عن الإهتداء إلى القدرة وللكشف عن خبايا الأسرار يحتاج إلى طريقين :
(الأول) : هو العقل المُجَرّد الخالي من الهوى.
(الثاني) : هو النفس الطاهرة البعيدة عن الشهوات.

ومعرفة الخصوص لا تخلو من أن تكون من طُرق ثلاث وهي:

- إما أن يكون الموجود بأحدى القوى الحساسة وذلك كما يستدل ( بالأثر على المؤثر ).
- و إما بإحدى القوى الباطنة التي هي ( الفكرة ) و ( الرواية ) و ( التمييز ) و ( الفهم ) و ( الوهم الصادق ) و ( الذهن الصافي ).
- وأما بطريق ( البرهان الضروري ).
وليس للإنسان طرق للمعلومات خلاف هذه الطرق الثلاث.

- فالإستدلال عليه تعالى من طريق ( الأثر ) : هو أننا كنا ولا زلنا نسمع العلماء العصريين يقولون إنّ عُمْرَ الكُرَة الأرضية كذا ملايين من السنين, و كذلك يقولون عن عمر الشمس و النجوم و الإنسانية و المقصود من أقوالهم هذه إنهم يريدون أن يفهموننا أنّ الوجود له أوّل, وهذا حق و يقين. و إن كل شيء في الوجود يدل على إنه مصنوع و إنه يقوم بوظيفة معينة مقصودة من صنعته بالذات كالعينين للنظر و الأذنين للسمع واللسان للتكلم وهلمّ جرّا, و كذلك الشمس والقمر و الكواكب و الأرض و النبات و الهواء و النار و الماء و ما سوى ذلك – و معلوم بالتجربة و المشاهدة إن كل صنعة تؤدي الغرض المقصود من صنعتها تدل دلالة يقينية على صانعها إذن فلا زالت عوالم الوجود كلها طارئة حادثة و لها أوّل فإن صانعها مستحيل أن يكون مثلها طارئاً و حادثاً وله أول إذ لو كان كذلك لكان مصنوعاً مثلها. و المصنوع لا بد أن يكون له صانع سبحانه و تعالى عما يصفون بل هو الخالق الأزلي الأبدي المعبود الحق بحق و هو الله السميع العليم.

و من هذا الدليل قول أبي القاسم الجُنَيْد القائل ( إنّ ) أول ما يحتاج إليه العارف من المعرفة أن يَعرف المصنوع صانعه و المخلوق كيف كان خَلقُهُ فيُفرّق بين صفات الصنعة و صفات الصانع و بين صفات المخلوق و صفات الخالق فمتى فرّق بينهما تخلص من عبادة المخلوقات و عرف خالقه.

- و أما الإستدلال عليه تعالى من طريق ( القوى الباطنة ): هو أنه لما كانت أكثر عوالم الوجود مجهولة الحقيقة و كان العلماء البالغون لا يُنكرون وجودها و يَجهلون حقيقتها و ذلك كالأرواح و الجاذبية – و مع ذلك لا يعلمون ما هي الجاذبية و قد آمنوا بوجود عوالم كثيرة مادية و معنوية و هي وراء ما كشفوا في مراصيدهم الفلكية – كان من ذلك أنهم لا ينكرون وجودها و حين إنهم لم يصلوا إلى معرفة شيء منها و هل أكبر من مظاهر الوجود الدالة على وجود الموجود.

غير أن عقول البشر محدودة الإدراك مثل أنظارهم فهل فيهم من ينظر بعينه و يرى الوجود كله و هذا من المستحيل و كذلك يستحيل أن يوجد من يُحيط عقله و علمه بكل الوجود المخلوق – إذن فمن باب أولى أن يعجز عن أن يحيط بكيفية موجد الوجود عز وجل و ما أعمق البيتين اللذين نسبا لعلي أمير المؤمنين (ع) :

كيفية المرء ليس المرءُ يُدركها   فكيف كيفية الجبار في القــدم
هو الذي أنشأ الأشيـاء مُبتدعــاً   فكيف يُدركه مُستحدث النسـم

و لما كان التصديق بوجوده تعالى من أجلى البديهيات كما قال تعالى ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) إبراهيم\10. كان تصور كنه الحقيقة أو ما يقرب من الكنه من أمْحَل المَحالات لا يُحيطون به عِلماً و كيف يكون ذلك و السيد الرسول (ص وآله) يقول: (ما عرفناك حق معرفتك) .

و قال عليه السلام : (إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار و إن الملاء الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم).

وما أحسن قول من قال :

تـــــاه الأنــــــام بسكرهــــم   فلذاك صاحي القوم عربـد
تــــالله لا موســـى الكليــــم
  ولا المسيـــح و لا محمــد
كـلا و لا جبريــــل و هـــــو
  إلى محـل القـدس يصعـــد
علموا و لا النفس البسيطة
  لا و لا العقـــل المجــــــرد
مـن كنـه ذاتــك غيـر أنـــك
  أوحــــديُّ الــذات سرمــــد
فـليخسأ الحكماء عن حـرم
  لـــــــه الأمــــــلاك سُجَّـــــد
من أنت يا أرسطـو و مــن
  أفـــلاط قبلــــك يـــا مبلـــد
ومن ابن سينا حين هـذب
  مـــا أتيـــت بــه وشيّــــد 1
مــا أنتـم إلا الفـراش رأى   الســــراج و قــــد توقــــــد
قدنـــا فــأحرق نفســـــــــه
  ولـو اهتـدى رشــداً لأبعــد

و الحاصل إن كل ما يتصوّره العالم الراسخ – فهو عن كنه الحقيقة بفراسخ – و عليه فلا يُلتفت إلى هذيان من يزعم أنه وصل إلى كنه الحقيقة لأنه ضَلَّ وغَوى و كَذب و افترى فإن الأمر أجَلُّ وأرفع و أعلى من أن يُحيط به عقلُ بشرٍ. فتقرر بهذا الدليل عند العلماء و الحكماء إنّ النظر لإدراك الكَنه الإلهي الذي ثَبُتَ إدراكُهُ بالعجز عن إدراكه بعد أن تضافرت الأدلة العقلية وأجمع عليه العلماء إلى أن كاد أن يكون الإعتراف به فطرياً ضرورياً في غير حاجة إلى دليل. و أوضح دليل على ذلك هو أنه إذا وَجّهنا النظر إلى الكَنه الإلهي من خزانة العقل فوجوده ظاهر, و إذا وَجّهنا النظر إليه من خزانة الحواس فوجوده باطنٌ. فينتج من هذا البُرهان أن الباري عز وجل ظاهرُ الوجود إن طُلبَ بالعقل و باطن الوجود إن طُلبَ بالحس. و من هذا الدليل يُطلق عليه إسم الظاهر والباطن و هما من أسمائه تعالى و لا يُقالان في صفاته تعالى إلا مزدوجين ومثالهما : الأول والآخر. و من هذا يُقال في المناجاة : يا من ظهر فيما بطن و بطن فيما ظهر.

- و أما الإستدلال عليه عليه تعالى من طريق ( البرهان ) : وهو أن نقول إنّ كل موجود يُقسم إلى قسمين إما ( ضروري ) وإما ( مُمكن ) وليس هناك ثالث لهذين القسمين.

ولما كان القسم ( المُمكن ) يَستدعي سبباً فُرض لوجوده و كانت سلسلة الأسباب لا يُمكن أن تكون بغير نهاية فقد تحقق أنه لا بد لنا من الإعتقاد لوجود كائن موجود بغير سبب و مكتفٍ بذاته و مالكٍ لأعلى درجات الكمال و مُمتلئ بالحقيقة الأزلية بلا تغييرٍ و لا تبديلٍ و هو بصفته عقلاً مُطلقاً و خيراً خالصاً و لا لزوم إلى إقامة الدليل على هذا الكائن لأنه هو التصديق و البرهان و لأنه العلة الأولى لكل الأشياء و فيه تجتمع الحقيقة و لأنه أكمل الكائنات فهو أحد فردٌ لا يتعدد و هذا الموجود المنفرد الحقيقي الوجود ندعوه ( الله ).

و أما القسم ( الضروري ) : إنه لما كان ما من صنعة إلا ولها صانعٌ فلا بُدّ إذن من علة فاعلة – و هي التي نسميها (الله) عز وجل. و من دليل آخر أنه لما كان لا سبيل إلى وجود ثان إلا بعد وجود أول و لا إلى وجود ثالث إلا بعد وجود ثان و ذلك أبداً - و هكذا لو لم يكن الأمر هكذا لم يعد عدداً و لا معدوداً - و لما كانت جميع الأشياء التي في العالم معدودة فيجب أن يكون ثالثاً لعددٍ ثانٍ و ثانٍ لعدد أول – و في صحة هذا البرهان وجب صحة وجود أول لهذا العالم ضرورة ( و هو الله عز وجل ) و بذلك يقول سبحانه: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) الجن\28. و من طريقٍ آخرٍ أنه لما كان الأول من باب المُضاف و كان الآخر آخر للأول والأول أول للآخر إذ إنه لو لم يكن الأول أولاً لم يكن له آخر و لو لم يكن الآخر آخر لم يكن له أولاً.
و مثال ذلك أن يومَنا هذا بما فيه آخر لكل يوم ما قبله و أولٌ لكل يوم يجيءُ بعده - فصَحَّ بالبُرهان أن الله سبحانه أول لكل أول وآخر لكل آخر و لا يدخل في طريق العدد – و أن العالم كله مُحدَثٌ و إنّ له مُحدِثٌ وهو (الله) عز وجل الواحد الأحد الفرد الصمد. من هذا الدليل رويَ في كتاب "إعلام الدين" لأبي محمد الحسن بن أبي الحسن الديلمي عن مقداد بن شريح البرهاني عن أبيه قال :

قام رجل يوم الجمل إلى علي أمير المؤمنين فقال : يا أمير المؤمنين تقول إن الله واحد – فحمل الناس عليه فقال : دعوه. ثم قال : يا هذا إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام :
فوجهان منها لا يجوزان على الله تعالى. ووجهان ثابتان له.
فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل هو واحد يقصد به باب الأعداد فهذا لا يجوز لأن ما لا ثاني له لا دخل في باب الأعداد أما ترى أنه كفر من قال أن الله ثالث ثلاثة.
و قول القائل هو واحد يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه جلّ ربنا عن ذلك.
و أما الوجهان اللذان يثبتان له : فقول القائل (واحد) يُريد به ليس في الأشياء شبه و لا مثل كذلك الله ربنا.

و قول القائل أنه تعالى (واحد) يُريد به أحديّ المَعنى يعني أنه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم كذلك الله ربنا عز و جَلّ.

هذا و قد أوردنا ما أوردنا مما لا يدع عند العاقل مجالاً للقول بأن هذا الكون نشأ عن المصادفة أو الإتفاق كما زعم الماديون, أو إنه نشأ عن موجد غير شامل القدرة و العلم و غير واسع الحكمة, بل نضطر بعد البحث إلى الجزم بأن قوّة قديرة مُدبرة مُحيطة بالأشياء إحاطة تامة هي التي نظمت هذا الكون وخلقت هذه السنين و هي القوة الإلهية.

وأوضح ما جاء و أبلغ ما قيل في الدليل على معرفة واجب الوجود سبحانه ما ورد عن علي أمير المؤمنين و قد سُئل ( هل ترى الله ) فقال : ( كيف أعبد يا هذا من لا أرى )
قيل له : كيف تراه ؟ فقال : بعظم قدرته وواسع حكمته وجميل صنعته و واسع فضله.
و قيل له صف لنا الله تعالى فتلا قوله عز وجل ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى\11.

و من هذا الدليل قيل (الله أكبر عن أن يوصف). و عليه يتقرر أن معرفة الإنسان بالخالق عز و جل مقصورة على معرفة العلة, كما قال بعض الحكماء: (إنها لا تُدرَك الحقائق إلا بقطع العلائق, و لا تُقطع العلائق إلا بهجر الخلائق, و لا تُهجر الخلائق إلا بالنظر بالدقائق, و لا يُنظر بالدقائق إلا بمعرفة الخالق, و لا يُعرف الخالق إلا بمعرفة العلة).

و العلة لَـعَلى نوعين ( حسيّة ) و ( عقلية ):
فالحسية ما تُعرف بالحواس.
و العقلية ما تُعرف بالعقل وهي الغيب المنيع الممنوع الإحاطة و الإدراك. و قال الإمام جعفر الصادق (ع) :
(من عبد ما لا يُرى فقد عبد مجهولاً غائباً, و من عبد ما يُرى فقد عبد محدوداً مُحدثاً, و من قال إنه من غير مشاهد فقد أحال على عدم, و من قال إن الأبصار تشاهده فقد مَثّله, و من وَصَفَهُ بما وقع عليه فِكره فقد وَصَفَ نفسه, و من قال إنه محتجب عن خلقه فإنما عنى غيره, و من قال إنه ظاهر لهم يَرَونه نظراً فإنّما عيّنه).

و أما أنا فأقول: إن من المجازفة و الجرأة و التهجم على جلاله سبحانه تعالى أن نعتقد أنه يُدرَك في ذهن أو يُتَصَوّر في وَهْمٍ أو تَقع عليه نِسبة بل نقول : تعاظم وتعالى واستكبر عن أن يُعلم أو يُنكر.
كما قال الإمام الرضا (ع) :
(العقلُ آلةٌ أُعْطِيناه لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية, فالله عز وجل كان أزلاً قبل خلق المخلوقات وليس من إدراكه سوى الإقرار بوجوده المُطلق المُجرد عن كلّ عِلّة يَعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يُحيطون به علماً وهو العليّ العظيم).

  • 1 قال الشيخ مجد الدين البغدادي: رأيت النبي (ص وآله) في المنام فقلت له ما تقول في إبن سينا ؟ فقال : هو رجل أراد أن يصل إلى الله بلا واسطتي فحجبته بيدي هكذا فسقط في النار.