3- السر المكتوم في الدليل على معرفته تعالى من طريق العموم.

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 12/10/2010 - 17:40

إعلم أن الإستدلال على واجب الوجود عز وجل من طريقين :الأول (عموم) والآخر (خصوص).

فالعموم هو معرفة الغريزية التي في طبائع الإنسان وذلك أن الناس بأجمعهم العالم والجاهل والمؤمن والكافر - ( ما عدا الماديين ) المعطلة أعني الدهريين القائلين نموت و نحيا وما يهلكنا إلا الدهر – و ما عدا ذلك فهم يعترفون بالصانع الأول و يفرغون إليه بالرغبة و الدعاء في كل المواضيع حتى الحيوان أيضاً إذ قيل أنها في سنين الجدب ترفع رؤوسها إلى السماء تطلب الغيث, و بذلك قوله تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) الإسراء\44.

ومن المحسوس المشاهد الملموس أن الصنعة لا توجد بدون صانع فوجود الصانع مما لا بد منه , فالإنسان حينما ينظر إلى هذا الوجود بمجموع عوالمه المتناثرة في أبعاد الفضاء سواء كانت مادية كالأجرام المترامية في الفضاء أو كانت معنوية كالكهرباء و المغناطيسية و الجاذبية و الأرواح و القوى العامة الكائنة في كل ذرة, يعلم بالبداهة المشاهدة و التجربة أن لها صانعاً أوجدها ووضع لها أنظمتها و قوانينها, ذلك هو الله عز و جل.

و من دليل آخر أنه لما كان الإنسان بفطرته و بخلقته فُطر على أن يفكر فيما حوله من المخلوقات و الكائنات و هو إذ يُقلّب طرفه في النجوم و السماء و الخضرة و الماء و الجبال و الأنهار و الليل و النهار لا بد و أن يخطر في باله من الذي أبدع هذه الكائنات ليَهديه تفكيره -إن كان سليم الفكرة- إلى أن هناك قوة تحرك هذا العالم ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار) الحشر\2.
و قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ) الأعراف\185.
إذ ساق في الآية الأولى وجوب الإستفادة مما يقع تحت الحواس, وأوجب في الآية الثانية البحث والتفكير في مخلوقات الله, والبحث لا يكون إلا بالعين المجردة والفكر السليم وبالفطرة وحدها يخرج الباحث من مقدمات ومقاييس إلى نتائج, وكل آيات القرآن بُنِيَت على هذا المنطق العظيم, وهذا هو المعروف عند العلماء بـ ( علم الظاهر ) وأتباعه يسمّون ( أهل الظاهر ), مثال ذلك :
أنّ من كان له إلمام في علم تراكيب الأفلاك و تداخلها و دَوَام دورانها على اختلاف مراكزها ثم أفلاك تداويرها و البُون من حركة أفلاك التدوير و الأفلاك الحاملة لها و دوران الأفلاك كلها من غرب إلى شرق و دوران الفلك التاسع الكُلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب و إدارته لجميع الأفلاك مع نفسه كذلك فحَدَثَ من ذلك حَركتان مُتعارضتان في حركة واحدة فبالضرورة نعلم أن لها مُحَرّكاً على هذه الوجوه المختلفة وهو الله سبحانه.

و من كان له إلمام في علم تشريح الأعضاء و رأى تراكيب أعضاء بَدَن الإنسان و الحيوان من إدخال العظام المُحَدّبة في المقعرة و تركيب العَضَل على تلك المداخل و الشَد على ذلك بالعَصَب و العروق يتبيّن له أنها صناعة ظاهرة لا شك فيها لا ينقصها إلا رؤية الصانع فقط و هو الله عز وجل.
و من ذلك ما يظهر في الأصباغ الموضوعة في جلود كثير من الحيوان و ريشه و وَبْرِه و شَعره و ظِفره و قِشره على رُتبة واحدة و وَضَعٌ واحد لا تخالف فيه كأصباغ الحَجَل و الشغانين ( اليَمام ) و السَّمَان و البزاة و كثير من الطير و السلاحف و الحشرات لا يختلف تنقيطُه البَتة و لا تكون أصباغه موضوعة إلا وضعاً واحداً كأذناب الطواويس و في السمك و الجراد و الحشرات نوعاً واحداً كالذي يُصَوّره المُصَوّر, فتعيّن أن لها صانعاً مُفكراً. ثم منها ما يأتي كأصباغ الدجاج و الحمام و البط و كثير من الحيوان فبالضرورة والحس نعلم من ذلك أنها صنع صانع مُختار يفعل ذلك كله كما يشاء ويحصيها إحصاء لا يَضطرب أبداً عمَّا شاء من ذلك فسبحان الله الخلاق العليم.

و لا يمكن البتة في حس العقل أن تكون هذه المختلفات المضبوطة ضبطاً لا تفاوت فيه من فعل الطبيعة لأنه لا بد لها من صانع قاصد إلى صنعة كل شيء.

و من علم ما بالطبيعة علم أنها قوة موضوعة في الشيء تجري بها صفاته على ما هي عليه فقط فبالضرورة يعلم أن لها واضعاً و مرتباً و صانعاً لأنها لا تقوم بنفسها و إنما هي محمولة على ذى الطبيعة.
و منها ما ترى في ليف النحل و الدوم من النسيج المصنوع يقيناً بنيرين و سدىً كالذي يصنعه النسّاج ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط و ليس هذا البتة من فعل طبيعة و لا نسج ناسج و لا بصنع صانع أصباغ مُرَتبة بل هو صنعة صانع مختار قاصد إلى ذلك غير ذي طبيعة لكنه قادر على ما يشاء (و هو الله سبحانه ).
وهذا معلوم بضرورة العقل – وبالفحص والتبصر في كل ما يقع تحت ألحاظنا - فذلك يساعدنا جداً بما نحن في درسه للنظر:

(ها) الأفق يظهر مع بزوغ النهار باسماً إلى الطبيعة الزاهية و إلى كل ناظر إليه ما أجمله و ما أبهاه من صنع هذا المشهد الجميل.

(ها) الشمس بدورها البديع تبزغ من وراء ما بين السحاب و فوق الجبال و الأشجار و الغابات مُرسلة أشعتها الذهبية اللامعة على المروج و الحقول و المياه و الأزهار العديدة الألوان و ما أبهاها و ما أجملها و ما أفيد حرارتها نحو كل خليقة و كل نبات و كل حيوان و كل إنسان و عندما تكمل دورها اللطيف المفيد الفتان العجيب - أي عند نهاية النهار ووقت الغروب - نتأمل برهة من الزمن في ذلك المشهد العجيب لننظر إلى تلك السحابة المتلونة بألوان تُحَيّر العقول كالجبال و القمم المرصعة بأثمن الحجارات, ثم كيف الشمس تنحدر و تغرب رويداً رويداً و من وراء الجبال و الأشجار و البحار و في برهة قليلة يَعُمّ الظلام و لا نعود نرى شيئاً من تلك المناظر الخلابة, لكن هناك يبدأ مشهد جديد في تلك القبة الزرقاء إنها تحولت إلى قبة سوداء مُرَصّعة و مملوءة من النجوم و الكواكب و السيارات العديدة في كبد السماء كالقناديل الموقدة و ما أحلى تلك السَيَّارات التي نسميها القمر عند بزوغها كالشمس من وراء الجبال و الأشجار و المياه و إنارتها سيارتنا هذه الأرض الحقيرة الصغيرة – أليست كل تلك المشاهد و الغرائب والكائنات تبرهن على صحة (المُبدع) والخالق الكامل لها – و إلا كيف وُجدت و من أوجدها و لماذا وجدت.

نعم هذا كله عمل الله سبحانه وتعالى.

و لنبحث في سبب آخر هو سبب تعاقب الفصول كيف الربيع بأزهاره العطرة الجميلة العديدة الألوان, ثم كيف بعد ذلك بثلاثة أشهر يأتي الصيف فتتغير حرارة تلك الشمس فتصبح غير مُحتملة لشِدّة حرارتها, ثم كيف بعد ثلاثة أشهر أخرى يأتي الخريف فتتغير حرارة الشمس فتأتي الغيوم و تظهر الطبيعة بمظهر الحزن و تأخذ الأشجار تتعرى من أوراقها, ثم بعد ثلاثة أشهر أخرى يأتي الشتاء بأيامه المُتَجَهّمة و عواصِفه الشديدة و رياحه القاصفة المؤلمة وثلوجه الباردة و تلفت ألحاظنا و أفكارنا تلك الحوادث الجَوّية كالرعد و البرق و الأمطار و قوس قزح و ما أشبه ذلك من الآثار العلوية التي تبهر الأنظار وتحيّر العقول (أليس كلها من صنع الله).
ما أروع تلك الجبال الجليدية التي ماهي إلا سوى قطعة من ثلوج القطب الشمالي التي قد انحلت بواسطة حرارة الشمس و أخذت تسير على سطح الأرض و تسبب بعض الأحيان المهالك و الأضرار نحو البواخر الأكثر صلابة و أكبرها قوة ما عدا هذه الكوارث الطبيعية التي ذكرتها و التي تَحوي أسراراً و عجائب غير قابلة التغيُّر بمعظم المدارك و العقول.

يوجد أيضاً في الإنسان أسراراً و قوى أعظم من التي وصفناها إذ أخذنا بدرسها و نراقب أحوالها و أسبابها فسبحان الله أحسن الخالقين.
لنأخذ في البدء ذلك الطفل المولود حديثاً و لنتأمل كيف تَكوَّن و خُلق في أحشاء والدته و كيف أخذ الحياة و كيف بعد ذلك أخذ يتحرك و ينمو و يكبر رويداً رويداً بدون هواء و لا تنفس و كيف بعد خروجه يضطر إلى الهواء و التنفس حتى يبلغ سن القوة و الرجولة, ما هو سر ذلك أليس هذا من فعل فاعل وإرادة مُريد ؟.
و بعدما درسنا بالمختصر هيئته الظاهريّة الخارجية لندرس قليلاً كونُه و تركيبُه الداخلي, كيف بألحاظه و نظره و سمعه و شمّه و ذوقه و ما هو بالأحرى كيف كُوّن الدماغ الذي هو سبب و علة شعوره و تذكاراته و أفكاره.
ما أغرب هذه الدورة الدموية التي تجري في عروقه بصورة متواصلة و تُنَقي الدم في كل نسمة و عند كل تنفس.
ما أعظم جهاز مجموع أدوات الهضم كيف يتحول الطعام إلى دم, كيف هاتان الرئتان بواسطة التنفس يَمُر مرتين في الدقيقة كل دم الجسم بهما يحوّل الدم الفاسد إلى دم طاهر.
و ما أغرب هذا القلب أيضاً الذي هو العضو الأساسي لسير الدم و مع هذا إن كل ما وجدناه في عالم الملكوت فإنا نراه في الأعضاء والأجهزة التي في الإنسان كما سيجيء في تعريف الإنسان.
انظر إلى العين الباصرة التي تطلق على الحدقة التي هي عبارة عن مجموع طبقات تسعة محيطة بعضها بالبعض فهي الطبقة :
( المشيمية ) و ( الصلبية ) و ( الشبكية ) و (الزجاجية ) و ( الجلدية ) و (البيضية ) و ( العنكبوتية ) و (العينية ) و ( القرنية ).
وجعل بعضهم القرنية أربع طبقات فيُصبح عدد الطبقات ثلاثة عشرة على عدد طبقات العناصر والأفلاك و الجفن هو الغلاف المحيط بالحدقة.

و مع هذا كله إننا عندما ننظر إلى هذا الكون فإننا نرى فيه آثار الصانع الحكيم ونرى في كل مظاهر وجوده جمالاً رائعاً و فناً ناطقاً و هتافاً عالياً بالحكمة و الإتقان و القصد و الإرادة و الفكر و التدبر و الغرض و الغاية فهذه الظواهر تحكي عن سرٍّ خالدٍ سرمديٍّ و هو الذي ذكره أمير المؤمنين علي عليه السلام في كثير من خطبه و كلماته فالله سبحانه لا يقوم تدَيّنٌ إلا على التصديق بوجوده و معرفة صِفاته الثبوتية و السلبية.

فالصفات الثبوتية منها صفة القدرة و العلم و هما الصفتان اللتان ترجع إليها سائر الصفات.
قال العلماء : إن الباري سبحانه لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا يجري مجرى خلقه في معنى و لا حكم و لا يُقال بتسمية الباري حياً أو حكيماً أو قادراً أو غير ذلك من الصفات من جهة الإستدلال عليه. حاشا. أربعة فقط وهي : ( الأول ) و ( الأحد ) و ( الحق ) و ( الخالق ), و هذه الأسماء هي التي لا يستحقها شيء في العالم غيره, فلا أول سواه البتة و لا خالق سواه البتة و ليس كمثله شيء و هو العلي العظيم.

وأوضح ما قيل في الدليل على وجود الله عز وجل هو أن نقول فما بالك بأجسام الكائنات الحية جميعاً من نبات وجماد و حيوان وما بالك بما لا يُحصى من المُرَكبات المُعقدة الأخرى و ما بالك بنشأة الحياة و بملكوت السموات و الأرض إنه يستحيل عقلاً أن يكون ذلك قد تم عن طريق المُصادفة العَمياء أو الخَبطة العشواء لا بد لكلٍ ذلك من خالق مبدع عليم خبير أحاط بكل شيء علماً و قدّر كل شيء هدى.

و من هذا الدليل ذهب بعض الحكماء إن بالإنسان حاجة بيولوجية تدفعه إلى الإيمان بالله و هي فطرة الله التي فطر الناس عليها و ليس ذلك فحسب بل إن الكتاب يذهب ليُبَيّن كيف إن الإيمان بالله هو أصل الفضائل الإجتماعية و الأخلاقية و الإنسانية جميعاً, فبدون هذا الإيمان يصبح الإنسان غالباً حيواناً تحكمه الشهوة و لا يَرُدّه ضميرٌ خصوصاً إذا لقّن بعض الحالات الخالية من الإنسانية.