ثَقَافَةُ الانْتِمَاءِ فِي الأَدَبِ العَلَوِيِّ
ثَقَافَةُ الانْتِمَاءِ فِي الأَدَبِ العَلَوِيِّ، ثَقَافَةٌ أَرْكَانُهَا: الدِّينُ، وَاللُّغَةُ، وَالوَطَن، وَلِكُلِّ ثَقَافَةٍ قَوَاعِدُ وَقَوَانِينُ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَعْرَافٌ تُومِئُ إِلَى ثَقَافَتِهَا.
وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ حُسين سَعّود:
((.. لِكُلِّ دِينٍ مِنَ الأَدْيَانِ تَعَالِيمُ وَأَنْظِمَةٌ، تُنِيرُ للمَرْءِ طَرِيقَهُ المُؤَدِّي إِلَى الغَايَةِ المَقْصُودَةِ، وَتَجْعَلُهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ تَرَجْرُجِ الفِكْرِ وَاجْتِذَابِهِ بِقُوَّةِ كَهْرَبَائِيّة الأَدْيَانِ المُتَنَوِّعَةِ.
وَتُعْطِيهِ الإِشَارَةَ اللاّزِمَةَ عِنْدَ مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ إِلَى النَّاحِيَةِ التّي يَجِبُ أَنْ يَنْتَحِيَهَا، وَالجَادَّةِ التّي يَجِبُ أَنْ يَسْلُكَهَا...))2
ثَقَافَةٌ: هَذَّبَهَا الإِسْلامُ، فَكَانَ الحُبُّ أَدَبَهَا، وَالوَفَاءُ كِتَابَهَا، فَمَنْ أَدَّبَتْهُ كَانَ بَعِيدَ الهِمَّةِ شَرِيفَ المَقْصَد.
وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ مَحْمُود سُلَيمَان الخَطِيب:
ثَقَافَةٌ، رَأْسُهَا: الأَخْلاقُ، وَيَدُهَا: الرَّحْمَةُ، وَلِبَاسُهَا: العِطَاءُ، وَسَيرُهَا: المَوَدَّةُ، وَمَنْطِقُهَا: السَّلامَةُ.
وَفِي هَذِهِ الثَّقَافَةِ قَولُ الشّيخ كامل الخطيب:
وَفِيهَا قَولُ الشَّيخ عيسى سعّود:
وَعلَى ذَلِكَ مَضَتِ العُصُورُ حَتَّى غَلَبَ الانْتِمَاءُ إِلَى العُرُوبَةِ كُلَّ انْتِمَاءٍ، وَقَهَرَ الانْتِسَابُ إِلَى الإِنْسَانِيَّةِ كُلَّ نِسْبَةٍ.
وَفِي هَذِهِ الثَّقَافَةِ قَول الدّكتور وَجِيْه مُحْي الدِّين، سَنَةَ 1938 م:
(( مَا يَتَطَلَّبُهُ الشَّبَابُ العَلَوِيُّ... أَنْ تَنْصَهِرَ العَشَائِرُ وَالأَحْزَابُ فِي بَوتَقَةِ الوَطَنِيَّةِ الجَامِعَةِ.
فَلا يَبْقَى صَوتٌ إِلاَّ صَوتُ العَرُوبَةِ، وَلا يَبْقَى دِيْنٌ إِلاَّ دِيْنُ الوَطَنِيَّةِ....
أَمَّا بَرْنَامجُ الشَّبَابِ العَلَوِيِّ...فَهُوَ:
تَحْطِيْمُ كُلِّ مَا هُوَ عَثْرَةٌ فِي سَبِيْلِ تَفَاهُمِ الإِخْوَانِ فِي العَقِيْدَةِ وَالمَبْدَأِ.
وَتَهْشِيْمُ كُلِّ حَاجِزٍ فِي سَبِيْلِ الوَحْدَةِ وَالاسْتِقْلالِ.
وَنَبْذُ كُلِّ تَفْرِقَةٍ أَيًّا كَانَ مَصْدَرُهَا.
وَإِنْشَاءُ جَامِعَةٍ كُبْرَى لا دِيْنَ لَهَا إِلاَّ دِيْنُ الإِخْلاصِ، وَلا هَدَفَ لَهَا إِلاَّ تَحْقِيْقُ الجَامِعَةِ العَرَبِيَّةِ الكُبْرَى..))3
فَمَنْ قَالَ: إِنَّ ثَقَافَتَنَا مَبْنِيّةٌ عَلَى الثَّالُوثِ، فَقَدْ صَدَقَ، لأَنَّهُ ثَالُوثُ الإِسْلامِ وَالعُرُوبَةِ وَالوَطَن.
وَفِي هَذَا قَولُ الشَّيخ مُحَمّد حَمْدَان الخَيِّر:
الدِّيْنُ وَالعُرُوبَةُ وَالوَطَنُ: ثَالُوثٌ مَا فَارَقَ أَدَبَنَا بِالأَمْسِ، وَلا أَرَاهُ مُفَارِقًا فِي يَوْمِنَا.
وَمِنْ هَذَا تَجِدُهُ فِي أَدَبِنَا مَقْرُونًا بِالدِّينِ وَمُتَّصِلاً بِالعِبَادَةِ، وَبِهَاتَينِ يُمْدَحُ المُخْلِصُونَ.
وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ عبد اللّطيف إِبراهيم:
ثَقَافَةٌ : تَجَاوَزَتِ الاخْتِلافَ المَذْهَبِيَّ إِلَى وَحْدَةِ الغَايَةِ، إِبَاءً أَنْ تَضِيقَ عَلَى الفِكْرِ البَشَرِيِّ، فَطَارَتْ فِي فَلَكِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَحَلَّقَتْ فِي آفَاقِ الرَّحْمَةِ التّي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ.
وَمِنْ هَذِهِ الثَّقَافَةِ قَولُ الشَّيخ مَحْمود سُلَيمَان الخَطِيب:
ثَقَافَةُ العَفْوِ وَالتَّسَامُحِ، فَإِنَّ العَفْوَ فِي مَنَاهِجِ أَئِمَّتِهَا: زَكَاةُ الظَّفَرِ، وَمِنْ هَذِهِ الثَّقَافَةِ قَولُ الشَّيخ مَحمود عَلي سَلمى:
ثَقَافَةُ العَمَلِ، فَإِنَّهُ عُنْوَانُ التَّقَدُّمِ، وَلَيسَتْ ثَقَافَةَ التَّعَلُّلِ بِالأَعْذَارِ، وَمِنْ هَذَا قَولُ العَلاّمةُ الشَّيخ سُلَيمان أَحْمد:
ثَقَافَةٌ : يَحْمِلُ الانْتِمَاءُ فِيهَا إِثَارَةَ الشُّعُورِ الإِنْسَانِيِّ لِكُلِّ حَدَثٍ، فَلا يُطْفِئُهُ مَيلٌ مَذْهَبِيٌّ، وَلا تَحْكُمُهُ عَاطِفَةٌ غَيرُ الإِنْسَانِيّةِ.
وَلَو كَانَ فِيهَا شَيءٌ مِنَ التَّعَصُّبِ لِغَيرِ الحَقِّ، لَمَا كَانَ فِي تُرَاثِهَا شَيءٌ مِنَ الاهْتِمَامِ بِمَظَالِمِ الشُّعُوبِ، وَلا فِي أَدَبِهَا شَيءٌ مِنْ مُنَاصَرَةِ الإِنْسَانِ فِي قَضَايَاه.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ لِيبيا كََانَتْ مِنْ البُلْدَان التّي احْتَلَّهَا العُثْمَانِيُّونَ، وَلَكِنَّ الغَزْوَ الإِيطَالِيّ الذّي سَفَكَ دِمَاءَ أَبْنَائِهَا، حَرَّكَ الشُّعُورَ الإِنْسَانِيَّ حُزْنًا عَلَى ضَحَايَاهَا، وَإِنْكَارًا عَلَى المُحْتَلِّ اعْتَدَاءَهُ وَطُغْيَانَهُ.
فَكَانَ فِي التُّرَاثِ العَلَوِيِّ مِنَ التّعْبِيرِ عَنْ نَكْبَةِ الإِنْسَانِيَّةِ بِظُلْمِ أَبْنَائِهَا، مَا لَمْ يَمْنَعْهُ اخْتِلافُ المَذَاهِبِ الدِّينِيَّةِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ كُرْهُ السِّيَاسَةِ العُثْمَانِيَّةِ الجَائِرَة.
قَالَ العَلاّمةُ الشَّيخ سُلَيمان أَحْمد، فِي وَاقِعَةِ الاحْتِلالِ الإيطاليّ لليبيا:
فَانْظُرْ كَيفَ جَعَلَهَا مُصَابَ الإِسْلامِ وَالإِيمَانِ، إِذْ قَسَتِ القُلُوبُ، وَقَلَّتِ الرَّحْمَةُ، وَبَغَى الإِنْسَانُ عَلَى أَخِيهِ.
وَمِنْهُ:
وَفِي هَذِهِ القَصِيدَةِ مِنْ ثَقَافَةِ الانْتِمَاءِ فِي الأَدَبِ العَلَوِيِّ مَا لا يَصْدُرُ عَنْ مُتَعَصِّبٍ لِفِئَةٍ دُونَ فِئَةٍ، وَلا مُتَحَيِّزٍ إِلَى مَذْهَبٍ دُونَ مَذْهَبٍ.
فَكَمَا شَكَا تَعَسُّفَ الاحْتِلالِ الإِيطَالِيّ، فَكَذَلِكَ رَقَّ لأَلَمِ الشَّعْبِ الإِيطَالِيِّ، إِذْ أَشَارَ إِلَى مَا نُكِبَتْ بِهِ مَدِينَة ( Messina ) إِحْدَى مُدُنِ إِيطاليا مِنَ الزَّلازِلِ التّي دَمَّرَتْهَا سَنَة 1783، وَسَنَة 1908م.
وَفِيهَا يَظْهَرُ الوَعْيُ القَومِيُّ الذّي يُمَيِّزُ هَذِهِ الثَّقَافَةَ، بِإِدْرَاكَ كُنْهِ وُعُودِ الأَجْنَبِيِّ، وَالتَّفَطُّنِ لِحِيَلِهِ، وَالتّنْبِيهِ عَلَى خَدِيعَةِ العَدُوِّ مَهْمَا أَظْهَرَ مِنَ التَّوَدُّدِ وَتَظَاهَرَ بِالعَطْفِ وَالمُنَاصَرَةِ.
وَفِيهَا يُعَلِّلُ ضَعْفَ الأُمَّةِ التّي فَتَكَتْ بِهَا المُنَازَعَاتُ الدِّينِيَّةُ، فَأَوْهَنَتْهَا، حَتَّى غُزِيَتْ، وَاسْتُبِيحَ ترَاثُهَا وَنُهِبَتْ ثَرَوَاتُهَا، وَسُلِبَتْ أَرْضُهَا وَضَاعَ قَرَارُهَا، وَطُمِسَتْ مَعَالِمُ هُوِيَّتِهَا الجُغْرافِيّة وَالتَّارِيخِيَّة.
وَبِذَلِكَ تَقَدَّمَ عَلَيهَا المُحْتَلُّ، إِذْ شَغَلَهَا بِالتَّنَاحُرِ الدِّينِيِّ، فَأَخَّرَهَا، وَأَغْرَاهَا بِالتَّصَارُعِ المَذْهَبِيِّ فَشَتَّتَهَا، فَإِذَا دَعَا قَومَهُ إِلَى الرُّقِيِّ وَالرِّفْعَةِ دَعَاهُم إِلَى نَبْذِ التَّعَصُّبِ فِي الدِّينِ وَالتَّشَدُّدِ فِي الآرَاء.
فَقَدْ جَمَّدَ التَّعَصُّبُ العُقُولَ، وَعَطَّلَ المَشَاعِرَ، فَكَانَ تَشْبِيهُنَا بِالأَمْوَاتِ مِنْ حَيثُ تَوَهَّمْنَا أَنَّ الحَيَاةَ تَعَصُّبٌ وَتَنَازُعٌ وَاخْتِلاف.
فَإِذَا دَعَا إِلَى مُقَاوَمَةِ المُحْتَلِّ، دَعَا إِلَى الاسْتِعْدَادِ لَهَا، بِبَذْلِ الأَنْفُسِ وَالأَمْوَالِ، لا بِابْتِذَالِ الشِّعَارَاتِ وَالأَقْوَالِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَولُهُ:
وَفِي وَقَائِعِ خَلْعِ السُّلْطَانِ عَبد الحَميد الثَّانِي، انْقَسمَتِ الآرَاءُ عَلَى قِسْمَينِ:
- قِسْمٍ وَصَفَ خَلْعَهُ بِالمُؤَامَرَةِ لإِسْقَاطِ الخِلافَةِ الإِسْلامِيَّةِ وَتَحْطِيمِ دَولَتِهَا.
- وَقِسْمٍ وَصَفَهُ بِالحَرَكَةِ الدُّسْتُورِيّةِ التّي جَاءَتْ رَدًّا عَلَى ظُلْمِهِ وَاسْتِبْدَادِهِ بَعْدَ إِغْلاقِهِ مَجْلِس المبعُوثان ( مَجْلس الشّعب) وَتَعْطِيل الأَحْكَام الدّستوريّة سَنَة 1878م.
وَاضْطَرَبَتِ الأَحْوَالُ حِينئذٍ حَتَّى اخْتَلَطَتْ عَلَى النَّاسِ، فَمِنْهُم مَنْ وَصَفَ الضَّابِطَينِ العُثْمَانِيَّينِ (نيازي وأنور) اللذّينِ أَعْلَنَا عِصْيَانَ السُّلْطَان عَبد الحَمِيد الثَّانِي وَمَنْ مَعَهُم بِالضّبَاطِ الأَحْرَارِ، وَمِنْهُم مَنْ اتَّهَمَهُم بِالخِيَانَةِ.
فَكَانَ مَوقِفُ شُيُوخِنَا تَأْيِيدًا لَهُمَا لِِرَفْعِ الظُّلْمِ بِالثَّنَاءِ عَلَى المُطَالَبَةِ بِإِعَادَةِ العَمَلِ بِالدُّسْتُور، اسْتِبْشَارًا بِإحْيَائِهِ وَاسْتِقْرَارِ الحَالِ وَهُدُوءِ الفِتَنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَولُ العَلاّمَة الشَّيخ سُلَيمان أَحْمَد:
فَذَلِكَ المَقْصُودُ مِنْ تَأْيِيدِهِمَا، فَلَيسَ تَأْيِيدًا لِشَخْصِهِمَا إِذَا أُخِذَ عَلَيهِمَا شَيءٌ مِنَ العُنْفِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا لأَنَّ هَذِهِ المَبَادِئَ مِنْ مَذْهَبِهِ الإِنْسَانِيِّ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَا بِالدَّعْوةِ إِليهَا، فَمَا اتَّخَذُوهُ شِعَارًا مِنَ الوَحْدَةِ وَالمُسَاوَاةِ وَالحُرِّيَّةِ ، لَيسَ بِغَرِيبٍ عَنْ مَذْهَبِهِ وَلا بِجَدِيدٍ فِي ثَقَافَتِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَولُهُ:
وَعَلَى هَذَا كَانَ قَولُهُ بَعْدَ خَلْعِ السُّلْطَانِ عَبد الحَمِيد فِي التّنْبِيهِ عَلَى مُحَاوَلَةِ إِفْسَادِ الحَرَكَة الدّستورِيّةِ فِيمَا عُرِفَ حِينئذٍ بِالحِزْبِ المُحَمَّدِيِّ الذّي أَثَارَ العَاطِفَةَ الدِّينِيَّةَ فَأَشَاعَ بَينَ النَّاسِ أَنَّ العَمَلَ بِالدّستُور يُخَالِفُ الإِسْلامَ.
وَفِي وَصْفِ هَذِهِ الحَالِ، قَالَ الأستاذ مُحَمّد كرد عليّ: ((وَقُتِلَ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ أُنَاسٌ مِنَ النُّوَّابِ وَغَيرِهِم مِنَ الدّستُورِيِّينَ وَعَامَّةِ النَّاسِ فِي شَوَارِعِ العَاصِمَةِ...))16
وَمِنْ ذَلِكَ قَولُهُ:
ثُمَّ وَصَفَ الاعْتِدَاءَ عَلَى مَجْلِس المبعوثان وَمُعَارَضَةَ الدُّستورِ بِدَعْوى التَّعَصُّبِ للإِسْلامِ، بِعَمَلِ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ، وَإِنْ تَظَاهَرُوا بِالغَيرَةِ عَلَى الدِّينِ وَالانْتِصَارِ للشَّرعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَولُهُ:
وَذَلِكَ فِي رِثَائِهِ الأَمِير مُحَمّد أرسلان النّائِب عَنِ اللاّذِقِيّة الذّي اغْتِيلَ فِي أَثْنَاءِ مُحَاصَرةِ مَجْلس المبعوثان سَنَة 1909م.
وَمِنْهَا قَولُهُ:
وَفِي أَحْدَاثِ ثَورة الشَّريف حُسين، وَزَوَالِ وُلاةِ العَهْدِ العُثْمَانِيِّ الذّينَ كَانَ أَكْثَرُهُم بَطْشًا وَبَغْيًا جَمال باشا السّفّاح، قَولُ الشَّيخ أحمد حيدر:
وَاخْتِلافُ المُؤَلِّفِينَ فِي مِثْلِ هَذَا لَيسَ بِالغَرِيبِ عَنْ طَبِيعَةِ البَشَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِكُلٍّ اتِّجَاهًا فِي تَفْكِيرِهِ، وَطَرِيقَةً فِي تَقْويمِه، وَاعْتِدَادًا بِرَأْيِهِ.
قَالَ الإِمَامُ الصَّادِقُ : ((ثَلاثُ خِلالٍ يَقُولُ كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّهُ عَلَى صَوَابٍ مِنْهَا: دِينُهُ الذّي يَعْتَقِدُهُ، وَهَوَاهُ الذّي يَسْتَعْلِي عَلَيهِ، وَتَدْبِيرُهُ فِي أُمُورِهِ))21 .
وَجِهَةُ المُتَكَلِّمِ بِحَسَبِ فَهْمِهِ، وَلِذَلِكَ تَتَبَايَنُ االآرَاءُ بِحَسَبِ المَفْهُومِ الذّي يَثْبتُ فِي ذِهْنِهِ.
فَمِنْهُم مَنْ يَرَى إِسْقَاطَ الخِلافَةِ العُثْمَانِيَّةِ اعْتِدَاءً عَلَى الإِسْلامِ، كَأَنَّ زَوَالَ الخِلافَةِ يَعْنِي زَوَالَ الإِسْلامِ؛ لأَنَّهَا تُمَثِّلُ سُلْطَتَهُ، فَكُلُّ تَجْدِيدٍ فِي طَرِيقَةِ الحُكْمِ طَعْنٌ فِي الإِسْلامِ.
وَلِذَلِكَ لا يَقْبَلُ دُسْتُورًا للدَّولَةِ لأَنَّهُ حُكْمٌ بِغَيرِ مَا جَاءَ بِهِ الإِسْلامُ؛ لأَنَّهُ يَعُدُّهُ دِينًا وَدَولَةً وَسُلْطَةً.
وَمِنْهُم مَنْ يَرَى الإِسْلامَ دِينًا رُوحِيًّا، وَللنَّاسِ أَنْ يَخْتَارُوا المَبَادِئَ التّي تَحْكُمُهُم فِي الحُقُوقِ وَالوَاجِبَاتِ.
وَلِذَلِكَ تَجِدُ مِنَ المُؤَلِّفِينَ مَنْ يَصِفُ إِلْغَاءَ الخِلافَةِ بِالمُؤَامَرَةِ اليَهُودِيَّةِ لِتَحْطِيمِ سُلْطَةِ الإِسْلامِ التّي تُمَثِّلُهَا الخِلافَةُ العُثْمَانِيَّةُ، وَتَجِدُ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَذَا الرَّأْي.22
وَالفَرْقُ بَينَ هَذَينِ:
- أَنَّ فِئَةً تَرَى الإِسْلامَ دِينَ السَّيفِ وَالإِكْرَاهِ وَالقَسْوَةِ وَالتَّشَدُّدِ.
- وَفِئَةً تَرَاهُ دِينَ الكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالاخْتِيَارِ، وَدِينَ حُرِّيَّةِ الاعْتِقَادِ، وَدِينَ اللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ.
فَمَنْ رَأَى مُوَاكَبَةَ العِلْمِ وَمُسَايَرَةَ الحَضَارَةِ وَاتِّفَاقَ الدِّينِ وَالعِلْمِ، لَمْ يَجِدْ حَرَجًا فِي أَنْ يَأْخُذَ الإِنْسَانُ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ فِي زَمَنِهِ، وَذَلِكَ لاخْتِلافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَوَسَائِلِ العَيشِ وَأَلْوَانِ العَمَلِ.
وَمَنْ رَفَضَ مُسَايَرَةَ التَّقَدُّمِ العِلْمِيِّ أَنْكَرَ التَّطَوُّرَ وَعَدَّ كُلَّ تَجْدِيدٍ مُخَالَفَةً للدِّينِ.
وَمِنْ هَذَا الفَرْقِ تَعَلَّقَ بَعْضُهُم بِتَاريخِهِ تَعَلُّقَ مَنْ لا يَرَى لِغَيرِهِ فَضْلاً فِي تَقَدُّمِهِ، فَقَسَمَ النَّاسَ بِمَا فَهِمَ مِنَ الإِسْلامِ عَلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِر.
وَمَفْهُومُ الإِسْلامِ فِي هَذِهِ الثَّقَافَةِ: مَفْهومُ الانْقِيَادِ للحَقِّ بِالإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَالعَمَلِ بِالجَوَارِحِ.
ثَقَافَةٌ: الإِسْلامُ فِيهَا مَا تُثْبِتُهُ الأَعْمَالُ التّي يَنْتَفِعُ بِهَا الخَلْقُ، فَلا تَكْفِي الأَقْوَالُ فِي إِثْبَاتِهِ.
فَمَنْ شَهِدَتْ أَعْمَالُهُ بِحُسْنِ أَخْلاقِهِ، صَدَقَ إِسْلامُهُ بِالشَّهَادَتَينِ، وَمَنْ لَمْ تَرْدَعْهُ الشَّهَادَةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ عَمَّا يُكْرَهُ مِنَ الأَذَى، كَانَ إِسْلامُهُ لَغْوًا بِلِسَانِهِ.
ذَلِكَ أَنَّ ثَمَرَةَ الإِسْلامِ فِي الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ: (( العَمَلُ الصَّالِحُ ))23 .
مَفْهُومٌ يُلَخِّصُهُ قَولُ رَسُولِ اللهِ : (( الإِسْلامُ: حُسْنُ الخُلُقِ ))24 .
وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ مُحَمّد حَسَن شَعْبَان:
وَالجِهَادُ فِي هَذِهِ الثَّقَافَةِ: مَا هَذَّبَ الأَخْلاقَ وَأَرْشَدَ النَّفْسَ إِلَى الفَضَائِلِ، وَحَمَى الوَطَنَ مِنَ المُعْتَدِينَ.
وَمِنْ هَذِهِ الثَّقَافَةِ قَولُ الشَّيخ عَبد اللّطيف إِبْرَاهِيم:
ثَقَافَةٌ: لا تُقَيِّدُ الإِسْلامَ بِالزَّمَنِ، فَهُوَ دِينُ مُسَايَرةِ الإنْسَانِيَّةِ فِي كُلِّ تَطَوُّرٍ، وَمُوَاكَبَةِ الإِنْجَازِ العِلْمِيِّ فِي كُلِّ عَصْرٍ، ثَقَافَةٌ فِيهَا الدِّينُ وَالعِلْمُ شَقِيقَانِ فِي خِدْمَةِ البَشَرِيَّةِ.
وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ مَحمود سُلَيمَان الخَطِيب:
ثَقَافَةٌ: تَرَى تَقَدُّمَ الأُمَّةِ فِي تَقَدُّمِ الكَشْفِ العِلْمِيِّ وَالاسْتِفَادَةِ مِنْ الطَّاقَةِ المُنْتَشِرَةِ فِي الكَونِ.
وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ كَامل الحَاجّ:
ثَقَافَةٌ: لا تَرَى فِي اخْتِلافِ تَعْلِيلِ الظَّوَاهِرِ الكَونِيَّةِ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللهِ وَإِنَّمَا تَرَاهَا دَلالَةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَعَجِيبِ صُنْعِهِ، وَإِتْقَانِ خَلْقِهِ، فَلا تُكَابِرُ المَنْطِقَ العِلْمِيَّ؛ لأَنَّ قُدْرَةَ الخَالِقِ مُحِيطَةٌ بِكُلِّ شَيءٍ.
وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ العَلاّمة الشَّيخ سُلَيمان أَحمد:
ثَقَافَةُ تَأَمُّلِ القَوَانِينِ الكَونِيَّةِ، وَتَعْلِيلِ الحَوَادِثِ بِأَسْبَابِهَا، وَالظّواهِرِ بِعِلَلِهَا، فَلَيسَ فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرَرٍ بِالدِّينِ وَلا مِنِ جُحُودٍ بِحَقِّ الخَالِقٍ وَلا مِنْ كُفْرَانٍ بِنِعَمِهِ.
سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِالتّفْسِيرِ الغَائِيِّ، أَم بِالتّفْسِيرِ الآلِيّ الميكانيكيّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُفَسَّرًا بِالغَائِيَّةِ المُحَايثةِ أَم بِالغَائِيّة الخَارِجِيَّةِ، عَلَى اخْتِلافِ الاصْطِلاحَاتِ العِلْمِيَّةِ، سَوَاءٌ عَلَى مَفْهُومِ الاعْتِمَادِ الوَظِيفِيّ أَم عَلَى مَفْهُوم السَّبَبِ وَالنَّتِيجَةِ.
وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ العَلاّمَة الشَّيخ سُلَيمَان أَحمد:
وَعَلامَةُ إِسْلامِ الإِنْسَانِ بِالشَّهَادَتَينِ: لاتَحْظُرُ عَلَيهِ طَلَبَ العِلْمِ مِنْ عَالِمٍ تَبَعًا لِدِينِهِ، وَلا تُخَوِّلُهُ السَّيْطَرَةَ عَلَى أَحَدٍ أَسْلَمَ أَمْ لَمْ يُسْلِمْ، وَلا إِكْرَاهَ أَحَدٍ عَلَى شَيءٍ مِنَ الاعْتِقَادِ، وَلا مُحَاسَبَةَ أَحَدٍ بِمَا يَعْتَقِدُ مَادَامَ اعْتِقَادُهُ لا يَبْلُغُ إِلَى دَرَجَةِ الاعْتِدَاءِ عَلَى غَيرِهِ، وَلَيسَ لَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِهِ بِغَيرِ الكَلِمَةِ الحُسْنَى، وَاللِّينِ وَالنَّصِيحَةِ وَالرِّفْقِ.
فَإِنَّ قِيمَةَ الإِنْسَانِ بِمَا يَنْفَعُ بِهِ غَيرَهُ، وَلَيسَتْ قِيمَتُهُ بِمَذْهَبِهِ وَلا بِجِنْسِهِ وَلا بِلَونِهِ وَلا بِحِزْبِهِ، تَصْدِيقًا بِقَولِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ : (( كُلُّكُم لآدَم وَآدمُ مِنْ تُرَابٍ )).
وَمِنْ هَذَا قَولُ الشَّيخ عَبْد اللّطِيْف إِبْرَاهِيْم:
تِلْكَ الثَّقَافَةُ التّي لا تَخْتَصِرُ الإِسْلامَ بِأُمَّةٍ، وَلا تَقْصُرُ النَّبِيَّ عَلَى فِئَةٍ، وَلا تُقَيِّدُ الدِّينَ بِلَونٍ مِنْ أَلْوَانِ العِبَادَةِ.
قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) [سورة الغاشية]
ثَقَافَةٌ تَأْخُذُ مِنَ التَّطَوُّرِ العِلْمِيِّ كُلَّ مَا يَنْفَعُ الإِنْسَانَ، وَتَرُدُّ مَا فِيهِ ضَرَرُهُ؛ لأَنَّ الإِسْلامَ فِي مَفْهُومِهَا مَا حَفِظَ سَلامَةَ النَّاسِ، مَع قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الوَسِيلَةِ التّي تُبَلِّغُهُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ قِيمَةُ العِلْم فِي ثَقَافَةِ الفِكْرِ العَلَوِيِّ.
وَفِي هَذِهِ الثَّقَافَةِ قَولُ الشَّيخ عبد اللّطيف إِبراهيم:
ثَقَافَةٌ: تُوجِزُ الاخْتِلافَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الاصْطِلاحَاتِ؛ لأَنَّ الإِسْلامَ فِي أَدَبِهَا دِينُ الرَّحْمَةِ وَالحِكْمَةِ، لا يَضُرُّهُ تَطَوُّرُ البَشَرِيَّةِ، وَلا يَعِيبُهُ إِلْغَاءُ الخِلافَةِ؛ لأَنَّ الغَايَةَ مِنَ الدِّينِ ارْتِقَاءُ الإِنْسَانِ فِي أَخْلاقِهِ، فَكُلُّ شَيءٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى تَكْرِيمِ الإِنْسَانِ فَهُوَ دِينُ اللهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالخِلافَةِ أَمْ بِغَيرِهَا مِنْ طَرَائِقِ الحُكْمِ.
وَصَلاحُ الإِسْلامِ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لا يَقْتَضِي رَفْضَ التَّطَوُّرِ وَالحُكْمَ عَلَى الحَاضِرِ بِالمَاضِي، وَإِنَّمَا صَلاحُهُ بِالتَّبَصُّرِ فِي أَحْكَامِهِ وَاخْتِيَارِ الأَصْلَحِ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
عَاشَتِ الأُمَّةُ العَرَبِيَّةُ الخَالِدَةُ
عَاشَتِ الصِّلَةُ الإِلَهِيَّةُ التّي تَرْبُطُ كُلَّ عَرَبِيٍّ بِأَخِيهِ
بيان مشايخ العلويّين
15\تموز\1945
- 1الأستاذ حامد حسن، الأعمال الشعرية الكاملة، قصائد الرثاء، ج1\مج2\ 301.
- 2من كتابٍ له إِلى جمعية أنصار الدّين سَنة 1936م (الدّينُ وَأثَرُهُ فِي الهَيئَةِ الاجْتِمَاعِيّة).
- 3مجلة النهضة، العدد التاسع آب 1938 . ص 413.
- 4ديوان الشاعر الشيخ محمد حمدان الخير 1\342.
- 5التراث الأدبي للعلامة الشيخ عبد اللطيف إبراهيم 1\91.
- 6ديوان الخطيب 251.
- 7ديوان المراثي في تأبين المغفور له الشيخ حسن محمود ضحية 80.
- 8كتاب الإمام الشَّيخ سُليمان الأحمد 171.
- 9كتاب الإمام الشَّيخ سُليمان الأحمد 100.
- 10كتاب الإمام الشَّيخ سُليمان الأحمد 100.
- 11كتاب الإمام الشَّيخ سُليمان الأحمد 100.
- 12كتاب الإمام الشَّيخ سُليمان الأحمد 100.
- 13كتاب الإمام الشَّيخ سُليمان الأحمد 100.
- 14كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 96.
- 15كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 102.
- 16خِطَطُ الشَّام 3\119.
- 17كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 102.
- 18كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 95.
- 19كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 95.
- 20النغم القدسي ص 129.
- 21تحف العقول، نثر الدرر.
- 22الأسرار الخفيّة وراء إلغاء الخلافة العثمانيّة، د. مصطفى حلمي، دار الكتب العلمية\بيروت\ط1\2004م، الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة، روحي الخالدي، مؤسسة هنداوي.
- 23ميزان الحكمة 3\1342.
- 24ميزان الحكمة 3\1343.
- 25نفحات العرفان 189.
- 26التُّراث الأَدبيّ للعلاّمة الشّيخ عبد اللّطيف إبراهيم 1\199.
- 27ديوان الخطيب 275.
- 28ديوان الشيخ كامل الحاج 72.
- 29كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 122.
- 30كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 122.
- 31التُّرَاثُ الأَدَبِيُّ للعَلاَّمَةِ الشَّيْخ عَبْد اللَّطِيْف إِبْرَاهِيْم 1\92.
- 32التُّرَاثُ الأَدَبِيُّ للعَلاَّمَةِ الشَّيْخ عَبْد اللَّطِيْف إِبْرَاهِيْم 1\426.
- 110 مشاهدات