المعرفة الأولى

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 15/09/2015 - 14:16

المعرفة الأولى


وَمِمّا يُوْهِمُ أَنّهُ تَمَيّزٌ، قَوْلُهُ :

(( وتارةً يعرضُ المكزونُ هذه القصة،قصةَ المعرفة الأولى،يوم التجلّي الأوّل، بصورة أخرى؛ فيتناولُ ما تناولهُ في الحالات السّابقة .. ثمَّ يعرضُ قيمة تلك المعرفة ، بالنسبة لأهل الإجابة، وبالنسبة له خصوصاً ؛ فتلك المعرفة الذريَّة جعلته مع الذات، يعرفُ معرفةً لا حدودَ لها ،ويرى سائر الأكوان في قبض بسطته :
 

وكنتُ بِها والقلبُ في قبضِ بسْطِها     أرى سائرَ الأكوانِ في قَبْضِ بَسْطتي ..

وبعد الحديث عن سعادته بتلك المعرفة التي قرَّبته إلى ذات خالقه، وأطلقته في فضاء القدرةِ يعرِفُ ويرى سائر الأكوان تحت تصرُّفه....)) 1


بَيَانُ الوَهْمِ

إِنَّ هَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي أَشْعَارِ الصّوفِيّةِ قَبْل المَكْزون وَبَعْده ، وَمِنْهُ قَولُ الإِمَام الجيلاني :

فَأَصْبَحْتُ بِالوَادِي المُقَدَّسِ جَالِسًا     عَلَى طُورِ سَيْنَا قَدْ سَمَوْتُ بِخَلْوَتِي
 
وَطَافَتْ بِيَ الأَكْوَانُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ     فَصِـرْتُ لَهَا أَهْلاً بِتَحْقِيْـقِ نِسْبَتِي
 
وَلِي عَلَـمٌ فِي ذُِرْوَةِ المَجْدِ قَائِـمٌ     رَفِيْـعُ البِنَـا تَـأْوِي لَهُ كُـلُّ أُمَّـةِ
 
فَلا عِلْـمَ إِلاَّ مِنْ بِحَـارٍ وَرَدْتُهَـا     وَلا نَقْـلَ إِلاَّ مِنْ صَحِيْـحِ رِوَايَتِـي
 
عَلَى الدّرّةِ البَيْضَـاءِ كَانَ اجْتِمَاعُنَا     وَفِي قَابِ قَوسَيْنِ اجْتِمَـاعُ الأَحِبَّـةِ
 
وَعَايَنْتُ إِسْرَافِيْـل وَاللّوحَ وَالرّضَا    وَشَاهَدْتُ أَنْـوَارَ الجَـلالِ بِنَظْرَتِـي
 
وَشَاهَدْتُ مَا فَوقَ السَّمَـواتِ كُلِّهَا     كَذَا العَرْشُ وَالكُرْسِيّ فِي طَيِّ قَبْضَتِي
 
وَكُـلُّ بِـلاد الله مُلْكِـي حَقِيْقــةً     وَأَقْطَابُها مِنْ تَحت حُكمـي وَطَاعَتِي
 
وُجُودي سَرَى فِي سِرِّ سِرِّ الحَقِيْقَةِ     وَمَرْتَبَتِي فَاقَـتْ عَلَى كُـلِّ رُتْبَـةِ
 
وَذِكْـري جَلا الأَبْصَارَ بَعْد غِشَائِهَا     وَأَحْيَى فُؤادَ الصَّـبِّ بَعْدَ القَطِيْعَـةِ
 
حَفِظْـتُ جَمِيع العِلْم صِرْتُ طرازه     عَلَى خلْعة التّشْريف فِي حسن خَلْوَتِي
 
قَطَعْتُ جَمِيْع الحُجبِ للحِبِّ صَاعِدًا     وَلا زِلْـتُ أَرْقَـى سَائِـرًا بِمَحَبَّتِـي
 
تَجَلّى لِيَ السّاقِـي وَقَـالَ إِلَيَّ قُـمْ    فَهَذَا شَرَابُ الحُبِّ فِي حَان حَضْرَتِي
 
تَقَـدَّمْ وَلا تَخْـشَ كَشَفْنَـا حِجَـابَنَا     تَجَلَّى بِحَانِي وَالشَّـرَابِ وَرُؤْيَتِـي
 
شَطَحـتُ بِهَا شَرْقًا وَغَرْبًا وَقِبْلَـةً     وَبَـرًّا وَبَحْـرًا مِنْ نَفَـائِس خَمْرَتِي
 
فَلاحَـتْ لِيَ الأَسْرَارُ مِنْ كُلِّ جَـانِبٍ     وَبَانَـتْ لِيَ الأَنْوَارُ مِنْ كُلِّ وِجْهَـةِ
 
وَشَاهَدْتُ مَعْنَى لَوْ بَـدَا كَشْفُ سِـرِّهِ     لِصُـمِّ الجِبَـالِ الرَّاسِيَـاتِ لَدَكَّـتِ
 
وَمَطْلـع شَمْس الأُفْق ثُمّ مَغِيبهَـا     وَأَقْطَـعُ أَرْض الله فِي حَال خطْوتِي
 
أُقَلِّبُهَــا فِي رَاحَتَـيَّ كَـكـورةٍ     أَطُوفُ بِهَا جَمْعًا كَأَسْـرَع لَمْحَـة 2


وَقَولُ ابن الفَارض :

وَمِنّي بَـدَا لِي مَا عَلَـيَّ لَبِسْتُـهُ     وَعَنّي البَـوَادِي بِي إِلَيَّ أُعِيْـدَتِ
 
وَفِيَّ شَهِـدْتُ السَّاجِدِيْـن لِمَظْهَري     فَحَقّقْـتُ أَنِّي كُنْـتُ آدَم سَجْدَتِـي
 
وَعَايَنْـتُ رُوْحَانِـيّةَ الأَرَضيـن فِي     مَلائـكِ عِلّيّيـنَ أَكْفـاء رُتْبَـتـي
 
وَمِنْ أُفْقيَ الدّانِي اجْتَدى رفْقي الهُدَى    وَمِنْ فَرْقيَ الثّانِي بَدا جَمْع وَحدَتِي 3


وَقَول عَامر البَصري :

أَنَا الكَوثَرُ العَذْبُ الّذِي مَاءُ عِلْمِهِ     يُبَدّلُ مِنْك الجَهْل مِنْهُ بِشربَةِ
 
وَمَنْبَـع ذَاك المَاء عَينُ حَقِيْقَـةٍ     عَلَيْهَا مَدَارُ الأَمْرِ فِي كُلِّ مَرّةِ
 
هُوَ القُطْبُ وَالنّفسُ النّفِيسُ الّذِي بِهِ     رَأَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا رَأَتْ مُسْتَعِدّةِ
 
وَإِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ عُلُومِـي طَرائِفًـا     لأُتْحِفَ مِنْهَـا أَهْل ودٍّ بِتُحْفَـةِ
 
وَأُبْـدِي مِنِ اسْتِعْدَاد ذَاتِـي غَرَائِبًا     كَمَا يَقْتَضِيْه حَالُ نِسْبَةِ رُتْبَتِي
 
لِتَأْتِـيَ فِي التّابُـوت مِنّي سَكِيْنةٌ     عَلَيْهَا وَقَارٌ ضِمْنَهُ فَيْضُ رَحْمَةِ
 
فَأُظْهِـرَ فِي قَعـرِ البُطُونِ عَجَائِبًا     مُشَاهَدةً بِالعَقْلِ مِنْ غَيْر خُفْيَةِ
 
وَأَخْلـق مِنْ طِيْنِي بِنَفْخِـي طَائِرًا     يَطِيْرُ بِأَسْرَاري إِلَى كُلِّ دَوْحَةِ
 
وَأُحْيِي كَمَا أَحْيَى ابنُ مَرْيم أَنْفُسًا     مُطَرَّحَةَ الأَبْدَانِ صَرْعَى مَنِيّـةِ
 
عَلَى أَنّنِي مِنْـهُ اسْتَفَدْتُ وَلَسْتُهُ     وَلَكِنّـهُ قَـدْ خَصّنِـي بِوَصِيّـةِ
 
أَرُدُّ لَهَـا أَرْوَاحَهَـا بَعْدَ مَوْتِهَا    وَقَدْ دُثِرَتْ فِي تُرْبِهَا فَاضْمَحَلَّتِ
 
فَتُصْبِحُ أَحْيـاءً كَمَـا كَانَ أَوَّلاً     بِقُدْرَةِ عَلاّمٍ وَسِـرِّ نُبُـوءةِ 4


وَفِي جَوَاهِر المَعَانِي :

(( وَأَمّا قَولُ السّائِل : مَا مَعْنَى قَول الشّيخ عَبد القَادر الجيلاني رَضِي الله عَنه : (( وَأَمْرِي بِأَمْرِ اللهِ إِنْ قُلْتُ كُنْ يَكُنْ)) وَقَول الشّيخ زروق رَضِي اللهُ عَنه : (( فِي طَيِّ قَبْضَتِي ))، وَكَقَول بَعْضِهم : (( يَا رِيح اسْكُنِي عَلَيْهِم بِإِذْنِي )) إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَقَاوِيل السّادَات رَضِي الله عَنْهم، مِثْل هَذا .

قَال رَضِي الله عَنه : مَعْنَى ذَلِكَ : إِنَّ اللهَ مَلَّكَهُم الخِلافَةَ العُظْمَى، وَاسْتَخْلَفَهُم عَلَى مَمْلَكَتِهِ تَفْوِيْضًا عَامًّا، أَنْ يَفْعَلُوا فِي المَمْلَكَةِ كُلَّ مَا يُرِيْدُوْنَ، وَيُمَلِّكُهُم اللهُ تَعَالَى كَلِمَةَ التّكْوِيْنِ، مَتَى قَالُوا للشّيءِ : كُنْ ، كَانَ مِنْ حِيْنِهِ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ بُرُوْزُهُ بِالصُّوْرَةِ الإِلَهِيّةِ المُعَبَّرِ عَنْهَا بِالخِلافَةِ العُظْمَى، فَلا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِم شَيءٌ عَنِ الوُجُوْدِ. قَال عَلِيّ بنُ أَبِي طَالب ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ (( أَنَا مُبْرِقُ البُرُوقِ، وَمُرْعِدُ الرّعُود، وَمُحَرِّكُ الأَفْلاكِ، وَمُدِيْرُهَا )). يُرِيْدُ بِذَلِكَ أَنّهُ خَلِيْفَةُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، فِي جَمِيْعِ مَمْلَكَتِهِ .))
5


 


  • 1معرفة الله والمكزون 1\360ـ361.
  • 2فتوح الغيب 191 ـ 192ـ 193، والبيت الرابع فيه : ولا نقل من صحيح روايتي، فأثبتّ (( إلاّ )) لاقتضاء السياق، وهذا التنبيه توخياً لأمانة النقل .
  • 3ديوان ابن الفارض 90 ـ 91.
  • 4أربع رسائل إسماعيلية ص 90.
  • 5جواهر المعاني 279 ـ 280 .