الهجرة النبوية والموازنة بين حال القوم في الماضي والحاضر.. أصنام هذا العصر وخطر احتلال عقول الأجيال فيه. الجمعة في 26 آب 2022م

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 18/07/2023 - 03:49

الهجرة النبوية والموازنة بين حال القوم في الماضي والحاضر..
أصنام هذا العصر وخطر احتلال عقول الأجيال فيه.

في هذا الشهر الكريم، شهر المُحَرَّمِ، حَدَثانِ جليلان، أحدُهُما، من أعظم ما جاء في التاريخ، له من التاريخ أعظَمُهُ، والآخر، له من الألم أشدُّهُ وأبلَغُهُ.

هِجرة رسول الله  التي اصطُلِحَ على أن تكون في هذا الشهر، وأن يكون رأس السنة الهجرية فيه.

هِجرة رسول الله  انت مرحلةً من مراحل السيرة النبوية، ولكنّها احتَمَلت معانيَ لا تزال ظاهرةً في كُلِ عَصْر.

إذا أراد أحدٌ أن يوازن بين حاله اليوم وبين حالِ القوم الذين أُرسل إليهم رسول الله  فإنّه يجِدُ وصفهم في قول جعفر بن أبي طالب  حينما هاجر إلى الحبشة، وحينما تبعهُ وفدُ قُريش من أجلِ استرجاعهِ واسترجاع من هاجر معه، فماذا وصف حينئذٍ حال القوم؟! قال لملك الحَبَشَة: 

أيُّها الملك، كُنَّا قومًا أهلَ جاهليّة، نعبُدُ الأصنام، ونأكُلُ المَيْتَةَ، ونأتي الفواحِشَ، ونقطعُ الأرحام، ونُسيءُ الجِوار، ويأكُلُ القويُّ مِنَّا الضعيف، فبعث الله عز وجل إلينا نبيًّا ورسولًا منَّا، دعانا إلى الله عز وجل لنعبُدَهُ ونُوَحِّدَهُ ونخلعَ ما كُنّا نعبُدُ نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، نعرف نَسَبَه وصِدقهُ وأمانته وعَفافَهُ، فدعانا إلى عبادة الله، أمرنا بصِدقِ الحديث، وأداء الأمانة، وكَفِّ الأذى، والكَفِّ عن المَحارِمِ، وأكلِ مالِ اليتيم، وقَصفِ المُحصَنات، وإساءَةِ الجِوار.

هذه هي الأحوال التي كان عليها القوم قبل أن يبعث الله عز وجل إليهم خاتم النبيين، فرسول الله إنما جاء مُذَكِّرًا ومُنذِرًا ومُبشّرًا.

إذا نظرنا في تلك الصفات ووازنَّا بينها وبين أحوالنا اليوم، وجدنا فيها كثيرًا منها، قومٌ يعبدون الأصنام، والأصنام ليست مقتصرة على الحجر والخشب، إنما هي كل شيء يذهب بعقل الإنسان ولقد سمّاها العلماء اليوم من الفلاسفة بالأصنام العَصريّة.

كُلُّ شيءٍ يستولي على عقل الإنسان إذا أفرط الإنسان في استخدامه أخرجه من حريّة العقل إلى تبعِيَّةِ عبادة الأصنام.

الهاتف الذي يُمسكه أحدُنا فينشغِلُ به عن واجباته، وعن أعماله، حتى إنّه أصبح لا يعتمد على عقله اعتماده على تلك الأجهزة من تلفازٍ ومن غيره، هذه أصنام هذا العصر.

كل شيء يذهبُ بعقل الإنسان هو صنمٌ، وما كان الصنم ليُسَمَّى صنمًا إلًا لأنّه جامدٌ صنعه الإنسان ثم خضع له وقدّمه على عمل عقله، فإذا نظرت كيف كان هؤلاء القوم يعبُدون الأصنام مع أنهم كانوا أهل بلاغةٍ وأهل فصاحةٍ وأهلَ شجاعةٍ، ولولا ذلك ما نزل القرآن الكريم بتلك البلاغة العالية وتلك الفصاحة المتينة، فما كانوا أهل جاهلية لأنهم يجهلون ولكن لأن الأحوال التي كانوا فيها كانت أقربَ إلى الغاب من شريعة البشر. يعبُدون الأصنام ويأكلون المَيتَةَ، ويأكل القوي الضعيف، ويُسيئونَ الجِوار.

لننظر في هذه الأحوال إنّنا في أغلب أحوالنا بمثل هذه الحال، وعلى مثل هذه الصفات، قد أهملنا عقولنا، وعطّلنا شرائعها، وخضعنا لألوانٍ من الاستعباد.

لا يَظُنَّنَّ أحدٌ أنَّ المُحتلَّ إذا خرج من أرضٍ، أنّ ذلك يعني أنها أصبحت مُحرّرةً خاليةً من التَبَعِيَّة.

فأنّى غادرَ المُحتَلُّ أرضًا***إذا ما أوسَعَ العقلَ احتِلالا

إذا كان العقل مُحتلا فإنَّ ذلك أشدُّ من احتلال الأرض.

المحتل إذا دخل إلى أرضٍ دمّر أبنيتها ودمّر أرضها وأحرق مواسمها، ولكنّ المُحتلّ الثقافي إذا دخل إلى عقلٍ دمّر أجيالا برمّتها، وقطع أنسابًا، وألغى تاريخًا، ومزّقَ حضارةً.

هذا ما هو أشد من احتلال البلدان. إنّ احتلال العقول، وإنّ ايفاد ثقافةٍ بعيدةٍ عن القِيَم والأخلاق لهُوَ أشدُّ من أن تكون مُحتلًّا في أرضِكَ أو في داركَ أو في مواسِمِك، إذا كان المُحتلّ سابقًا يَقهَرُكَ على طعام أولادك ليُميتهُم جوعًا، فإنَّ الذي يحتلُّ عقلكَ بثقافته يُدمّر آلافًا من الأجيال التي ستأتي.

إذا كان هذا يقتُلُ جسدًا، فإنَّ هذا يقتُلُ آلافًا من الأجيال والأُمم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم مِمَّن عَرَفَ قَدرَ نبيِّهِ، ووقفَ على حقيقةِ بِعثَتِهِ، وانتقل من ظُلمة الجهل والتبعيَّةِ لغيرهِ إلى نور الحق والهُدَى، وانقادَ إلى طاعةِ الله، مكانَ انقيادِهِ إلى طاعة غيره.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم مِمَّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون ﴿النحل 90

اللهم اجعلنا ممّن ذكّرته فتذكّر، وزجرته فانزجر، وأسمعته فسمع وبصّرته فأبصر.

أقول قوليَ هذا وأستغفر الله لي ولكم.

هذه كانت الخطبة الأولى من صلاة الجمعة في 26 آب 2022م
لفضيلة الشيخ تمّام أحمد حفظه الله
مسجد الإمام جعفر الصادق (ع) \ قرية عين حفاض \ صافيتا