الخفاء لشدة الظهور

أُضيف بتاريخ الخميس, 20/08/2015 - 13:38

الخفاء لشدة الظهور


وَمِنْ أَوْهَامِهِ قَوْلُهُ :

(( ومرَّةً يشرح قصةَ معرفته ومحبّته لسائلٍ يسأله عن بدء هذه القصّةِ، وعن كيفية التجلِّي، وعن الغاية أو الحكمة منه ... فيقول :

قال متـى همـتَ بـه ؟   قُلـتُ : والأكـوانُ ذَرْ
قال : اختفى . قلت : بدا   قَال : بدا . قلت اختمر
قال : فلِمْ . قلْـتُ : ليُبْد   ي العدلَ منه في القَدَرْ
هذا ومنه الفضـلُ للعـد   لِ على الكـلِّ غَمَـرْ ...


فبدءُ القصّةِ ، قديمٌ ، ذريٌّ ؛ منذ كانت الأكوان الموجودة ذراتٍ متفرّقة غير مجموعةِ المادّة .....ولعلَّ فكرة التجلّي ، أو كيفيَّته ، لم تكن ظاهرة للسّائل ، لذلك شرحها له ، بهذا الأسلوب الحواري المركّز: فالله كانَ في البدءِ ظاهراً بذاتهِ، وظهوره بالذات جعلَه باطناً عن مخلوقاته ، لعجزها عن رؤيته بالذات ؛ هذا معنى قوله : (( قال : اختفى . قلت : بدا )) ، أي أنَّ ظهوره بالذات يُسبِّبُ الاختفاء عن المخلوقات ... كما أنَّ تجلِّيه بصوره ، أي اختمارهُ بحجابٍ ، يجعله ظاهراً لمخلوقاته ؛ تماماً كالشمس ، لا يمكن النظر إليها إذا كانت ساطعةً بقوّتها ، ويمكن ذلك إذا احتجبت بطبقة من الغيم ، الذي يلطِّف حرارتها ، ويعدِّل نورها ، فيصبح ملائماً لرؤية العيون، كما يقول المكزون من قصيدةٍ أخرى :

محجـوبـةٌ يُظهرُهـا حجـابُهـا     كالشَّمس يجلوها على الطَّرفِ الطّفَلْ .)) 1

بَيَانُ الوَهْمِ

مَا نَسَبَهُ المُؤَلِّفُ إِلَى المَكْزُوْنِ، ضَرْبٌ مِنَ الخَيَالِ ، لأَنّهُ مِنَ الشّائِعِ فِي كُتُبِ الصّوفِيّةِ، فَلا يُعَدُّ دَلِيْلاً عَلَى إِبْدَاعٍ فِي شَرْحٍ، وَلا تَمَيُّزٍ فِي أُسْلُوبٍ، إِلاّ أَنْ يُمَيِّزَ أَوَّلَ رَجُلٍ قَالَهُ مِمّنْ جَاءَ بَعْدَهُ، وَمِنْهُ فِي البُرْهَانِ المُؤَيّد :

(( وَإِنّمَا خَفِيَ لِشِدّةِ ظُهُوْرِهِ، وَاحْتَجَبَ لإِشْرَاقِ نُورِهِ، فَقَدْ بَطَنَ فِي ظُهُوْرِهِ لِشِدّةِ الظُّهُورِ، وَبَعُدَ فِي قُرْبِهِ لإِفْرَاطِ القُرْبِ، وَظَهَرَ بِذَاتِهِ فِي بُطُوْنِهِ.... )) 2

وَفِي الإِسْفَارِ عَنْ رِسَالَةِ الأَنْوارِ لاِبنِ عَرَبِيّ :

(( وَلَو احْتَجَبَ عَنِ العَالَمِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لَفَنِيَ العَالَمُ دُفْعةً وَاحِدَةً، فَبَقَاؤهُ بِحِفْظِهِ وَنَظَرهِ إِلَيْهِ، غَيْر أَنّهُ مَنِ اشْتَدَّ ظُهُورهُ فِي نُوْرِهِ بِحَيْثُ تَضْعُفُ الإِدْرَاكَاتُ عَنْهُ، يُسَمّى ذَلِكَ الظُّهُورُ حِجَابًا .))

وَمِنْ شَرْحِ الشّيْخ الجيلي :

(( وَاعْلَمْ أَنَّ ظُهُوْرَ الأَسْمَاءِ هُوَ فِي الحَقِيْقَةِ ظُهُورُ الذّاتِ، لأَنّهَا أَي الأَسْمَاء أُمُورٌ عَدَمِيّةٌ، وَالظّهُورُ وُجُوْدِيّ، وَبُطونُ الذَّاتِ هُوَ عَيْنُ ظُهُورِ الأَسْمَاءِ، فَظُهُورُ الحَقِّ عَيْنُ بُطُوْنِهِ وَبُطُوْنُهُ عَيْنُ ظُهُوْرِهِ، مِنْ حَيْثِيّة وَاحِدةٍ، لأَنّهُ وَاحِدٌ مِنْ جَمِيْع الوُجُوه ... )) 3

وَفِي مَشَارِق أَنْوار القُلُوب لابنِ الدّبَّاغ :

(( وَلْنَعْتَبِرْ فِي الدّلالَةِ عَلَى ذَلِكَ بِمِثَالٍ : وَذَلِكَ أَنّ الشّمْسَ مَحْسُوسَةٌ كُلّمَا قَوِيَ نُوْرُهَا، لا يَتَمَكّنُ البَصَرُ مِنْ رُؤْيَتِهَا عَلَى الكَمَالِ دُونَ وَاسِطةٍ، وَالنُّوْرُ ظُهُورٌ لَهَا، فَقَدْ صَارَتْ شِدّةُ ظُهُوْرِهَا حِجَابًا لَهَا، وَلَيْسَ الحِجَابُ عَلَى الحَقِيْقَةِ مِنْهَا، فَإِنَّ الظّاهِرَ لِذَاتِهِ لا يُحْجَبُ مِنْ ذَاتِهِ، وَإِنّمَا الحُجُبُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالحُجُبُ هَا هُنا ضَعْفُ البَصَرِ عَنْ مُقَاوَمَةِ فَيَضَانِ النُّوْرِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ النّظَرُ إِلَيْهَا بِوَاسِطَةِ الأَشْيَاءِ الشّفّافَةِ كَالمَاءِ الصّافِي أَوِ الصّقِيْلَةِ كَالمَرَايا المَجلُوّةِ، فَإِنّا إِذَا نَظَرْنَا فِيْهَا رَأَيْنَا صُوْرَةَ الشّمْسِ بِلا كُلْفَةٍ . فَالحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُحْتَجِبٌ عَنْ خَلْقِهِ بِشِدّةِ ظُهُوْرِهِ، فَلا يُمْكِنُ رُؤْيَتهُ إِلاّ بِالوَسَائِط، إِلاَّ أَنّ تِلْكَ الوَسَائط لَمّا كَانَ لا وُجُودَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا، بَلْ وُجُوْدُهَا مِنَ الحَقِّ تَعَالَى، كَانَتْ بِالإِضَافَةِ إِلَى ذَاتِهَا عَدَمًا مَحْضًا، فَلا يُعْرَفُ الحَقُّ إِلاَّ بِالحَقِّ ..)) 4

وَفِي كِتَاب المشَارع والمُطَارحَات للسُّهْرَوَرْدِيّ:

(( ذَاتُهُ نُوْرِيّةٌ، لا أَنَّ النّوْريّةَ زَايِدَةٌ عَلَى ذَاتِهِ ، ثُمَّ شِدَّةُ نُوْرِيّتِهِ كَمَالِيّتهَا، وَتِلْكَ الشّدّةُ الّتِي هِي الكَمَالِيّة غَيْرُ مُتَنَاهِيةٍ، أَي لا يَصِحّ أَنْ يُدْرَكَ مُدْرَكٌ أَتَمّ مِنْهَا وَأَكْمَل، وَلا يَصِحّ أَنْ يَكُونَ بِجِهَةٍ مِنَ الجِهَاتِ تَمَامِيّةٌ وَرَاءهُ، وَشِدّةُ نُوْرِيّتِهِ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَبْدَأً لِمَا لا يَتَنَاهَى مِنَ الأَنْوَارِ المُدْركة، وَهُوَ قَاهِرٌ بِنُوْرِيّتِهِ جَمِيْع الأَنْوَار، وَشدّةُ نُوْرِيّتِهِ حِجَابٌ لِنُورِيّتِهِ، فَاخْتِفَاؤهُ عَنّا لِشِدّةِ ظُهُورِهِ، كَيْف وَالشّمس مَع جرميّتها احْتَجَبتْ بِظُهُورهَا عَنِ الأَبْصَار ...)) 5

وَفِي إِيْقَاظِ الهِمَمِ لابِن عجيبة :

(( وَمِنْ مَظَاهِرِ قَهْرِهِ، احْتِجَابُهُ فِي ظُهُوْرِهِ، وَظُهُورُهُ فِي بُطُوْنِهِ، وَبُطُوْنُهُ فِي ظُهُوْرِهِ، وَمِمّا يَدُلّكَ أَيْضًا عَلَى وُجُوْدِ قَهْرِهِ، أَنِ احْتَجَبَ بِلا حِجَابٍ، وَقَرُبَ بِلا اقْتِرَابٍ، بَعِيْدٌ فِي قُرْبِهِ، قَرِيْبٌ فِي بُعْدِهِ، احْتَجَبَ عَنْ خَلْقِهِ فِي حَالِ ظُهُورِهِ لَهُم، وَظَهَرَ لَهُم فِي حَالِ احْتِجَابِهِ عَنْهُم، فَاحْتَجَبَ عَنْهُم بِشَيءٍ لَيْسَ بِمَوْجُوْدٍ وَهُوَ الوَهْمُ، وَالوَهْمُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ مَفْقُود ، فَمَا حَُجَُبَُهُ إِلاّ شِدّةُ ظُهُورِهِ، وَمَا مَنَعَ الأَبْصَارَ مِنْ رُؤْيَتِهِ إِلاّ قَهّارِيّة نُوْرِهِ، فَتَحَصّل انْفِرَادُ الحَقِّ بِالوُجُوْدِ، وَلَيْسَ مَعَ اللهِ مَوْجُوْدٌ ....)) 6

وَمِنْهُ تَعْرفُ غَلَط المُؤَلّفِ فِي قَوْلِهِ : (( ولعلَّ فكرة التجلّي ، أو كيفيَّته ، لم تكن ظاهرة للسّائل ، لذلك شرحها له ، بهذا الأسلوب الحواري المركّز ...))

فَإِنّ هَذَا (( الأسلوب الحواري المركّز )) أَمْرٌ جَلِيٌّ لا خَفَاءَ بِهِ، وَلَيْسَ فِي شَرْحِهِ مَا يُقِيْمُ وَيُقْعِدُ مِنَ التّفَكّرِ وَالتّأَمُّلِ وَالتّعَمُّق، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا وَصَفَهُ، فَقَدْ شَرَحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَمَنْ سَبَقَ كَانَ أَحَقَّ بِالقَولِ : (( الأسلوب الحواري المركّز )) .


 


  • 1 معرفة الله والمكزون 1\358ـ 359.
  • 2 البرهان المؤيد 299.
  • 3 الإسفار عن رسالة الأنوار 56 ـ 58. وانظر إحياء علوم الدين 3\351، وعلم اليقين للكاشاني 1\46.
  • 4 مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب 124.
  • 5 المشارع والمطارحات 465.
  • 6 إيقاظ الهمم في شرح الحكم 75.