خُطبتا صلاة الجُمُعة في 10 تشرين أوّل 2014م

أُضيف بتاريخ الجمعة, 09/10/2015 - 13:38
خُطبتا صلاة الجُمُعَة في 10 تشرين أول 2014م + (فيديو)

  موضوع الخطبتين: (التوبة تردّ عن التائب العذاب - توبة قوم يونس ع وقبول الله توبتهم - كيف ندفع شر المُجرمين المُكفّرين - قول الإمام الباقر ع لنا جميعاً [يا أشباحاً بلا أرواح] - وقوله ع [وإلى كأنّما أنت لِصٌّ من لصوص الذنوب].. مواعظ )



  الخُطبة الأولى:

  جاء في وصف ما جرى في قصة نبيّ الله سيدنا يونس عليه السلام، قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الأنبياء (87) صدق الله العلي العظيم.

  في هذه الآية عِبرَة ينبغي لنا أن ننظُر فيها وأن نعمل بها بعد تمَثُّل حقيقتها التي كانت في ذلك الوقت، إنّها تدلنا على أنّ الله عز وجل إذا تاب العبد إليه توبةً نَصوحاً خاليةً من الإصرار على الذَنب، وخليةً من العزم على الرجوع إلى الذُنوب، فإنّ الله سُبحانه وتعالى يدفعُ عنه البَلاء مهما كان هذا البلاءُ عظيما.
فإنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن قضى العذاب على قوم يونس رَدّ عنهم العذاب، لأنهم استغفروا الله عز وجل وتابوا إليه وخرجوا إليه يتواضعون، فكيف يظُنّ ظانٌّ أنّ في الأرض قوّة تغلِبُ قوّة الله عز وجل؟! أو أنّ في الأرض من إذا ملك من القوة ما مَلك نعجز إذا قُمنا إلى الله عز وجل عن ردّه ودفعِهِ.

  الذي نراه اليوم من هؤلاء المُجرمين المُكفّرين الذين لا يرحمون صغيراً ولا كبيراً لِما يُؤوّلون القرآن برأيهم وبِهَواهم فيعملون بأهوائهم .. هؤلاء مهما بَلغوا من القوة ومهما بلغوا من سفك الدماء لن يكونوا ولن تكون قوّتهم أعظم من قوة الله عز وجل والله أشدّ بأساً وأشد تنكيلاً.

  الذي أهلك فرهون الذي كان يدّعي الأُلوهيّة والذي أهلك قارون الذي آتاه من المال... فهل يظُنّ ظانٌّ أنّ الله عز وجل يعجز عن هؤلاء، وأنّ هؤلاء يكونون من الذين يُعجزون في الأرض؟! لكن لو أنّ التوبة كانت صادقة لله عز وجل فإنّ الله سبحانه وتعالى دفع العذاب الذي كان قضاه على قوم يونس، دفعه لمّا تابوا إلى الله عز وجل.

  وذلك أنّ يونس عليه السلام مكث في قومه ثلاثين سنةً يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى فلم يؤمن بكلامه ولم يتّبعه إلّا رجُلان. رجُلان كان أحدهما عالماً وكان الآخر عابداً، كان العالم اسمه روبيل وكان العابد اسمه تَنوخا، كان العالم زيادةً على علمه يرعى بعض الأغنام ويأكل ممّا يأتيه من خيرها، وكان ذلك العابد حطّاباً يحمل الحطب ويبيعُه.

  لمّا غضِبَ نبيّ الله يُونُس عليه السلام من قومه بعد ثلاثين سنةً دعى الله سبحانه وتعالى أن يُهلكهم وأن يُعذّبهم وأوحى الله تعالى إليه أنّي لا أؤاخِذُ ولا أُعاقبُ الصغار بذنوب الكبار، لمّا ألحَّ سيدنا يونس على طلبه أن يُنزل الله سبحانه وتعالى العذاب بقومه لأنهم لم يُؤمنوا به، حدّدَّ له يوماً سينزل به العذابُ على قومه وكان كما جاء في بعض الأخبار في شهر شوّال، سينزل العذاب في يومٍ من أيام شهر شوّال هو يوم الأربعاء فقُل لقومك هذا.
ثم استشار نبيّ الله وأطلع على هذا الرجلين الذين كانا يُؤمنان بكلامه فخرج عليه السلام وخرج معه تَنوخا وبقيَ روبّيل. قال لقوم يونس: إنّ الله سبحانه وتعالى سيُرسل إليكُمُ العَذاب فاخرجوا وأخرجوا نساءكم وفرّقوا بين النساء والأطفال وفرّقوا بين الدَواب وبين صِغارها واجعلوا كُل واحد من هؤلاء في مكان، ثم اخرجوا وتضرّعوا وابكوا وعُجّوا إلى الله سبحانه وتعالى فإنّه يدفع عنكم العذاب، فلما كان الفجر ذلك اليوم الذي سينزل به العذاب بوعد الله سبحانه وتعالى لنبيّه، كان نبيّه عليه السلام خلف القرية ينظُرُ ماذا سيحصل للقوم فخرج هؤلاء القوم لمّا رأوا العذاب قد أحاط بهم جعلوا الحبال في أعناقهم والرماد على رؤوسهم وفرّقوا بين النساء وبين الصِبية الصغار وأقبلوا يتضرّعون ويبكون لله سبحانه وتعالى حتى أقبلت ريحٌ صفراء لها صَرير، كادت تذهب بهم، ولما عَجّوا إلى الله سبحانه وتعالى دفع الله عنهم العذاب لأنهم خرجوا تائبين إلى الله سبحانه وتعالى وفي ذلك كان قوله تعالى {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ} يونس (98) صدق الله العلي العظيم.

  فمهما كانت قوّة هؤلاء، ومهما كان جبروتهم، ومهما كان استكبارهم في الأرض، وعُلوّهم وعُتُوُّهم، وفسادُهُم، وإفسادُهُم، وقتلُهُم، وتنكيلهُم، وتعذيبهم، لن يكونوا بقوّة الله الذي خلقهم، الذي دفع العذاب بعدما قَضاه، إذ تاب الناسُ إليه، فلا يستصغرنّ أحدٌ إذا قيل له إنَّ التوبة إلى الله عز وجل تدفعُ عذاب الله، لا يستعظمنَّ إذا قيلَ لهُ إنّ هؤلاء المُجرمين إذا تُبتَ إلى الله عز وجل وكُنتَ ممّن يطلُبُ وجهَ الله سبحانه وتعالى في قِتالهم، إذا كُنتَ مُقاتلاً أو في طلب التوبة من الله وأنتَ من غير الذين يُقاتلون، فثِق بأنّ نصرَ الله سُبحانه وتعالى سيكون قريباً، لأنَّ هؤلاء مهما بلغوا لن تكون قوّتُهُم أعظَمَ من قوّة الله عز وجل، وهذا بدليل ما جرى في زمن سيّدنا يُونُسَ عليه السلام.

  إذا كان الله سبحانه وتعالى رَدَّ العذابَ الذي قَضاه، فكيف يظُنُّ أحدُنا أنَّ في الأرض من البشر من يُعجِزُ الله عز وجل، مهما كان عظيماً.

  هذا قارون، يقول الله سبحانه وتعالى فيه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } القصص (81) هذا لمّا عُذِّبَ قومُ لوط كانت أصواتُهُم تصِلُ إلى السماء وجعل الله سبحانه وتعالى عاليَها سافلها فأهلكهم.

  وهذا فِرْعَوْن بعدما كان لهم من الجاه والسُلطان والمُلك حتى كذّبَ موسى وحتى قال {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي} فأذَلَّهُ الله وأهانَهُ وجعله حَصيداً خامدا.

  فمهما كان هؤلاء إذا كانت التوبة إلى الله عز وجل توبةً نَصوحاً خالصةً وكُنّا صادقين بها فواللهِ لن تكون لهُمُ الغَلَبَة، أمّا إذا كُنّا إلى اليوم مع ما هُم عليه من التجبّر والتكبّر والفساد والإفساد، لا نزال نُؤيّدُهُم من حيث نعلم ومن حيث لا نعلم، فليُبشِر كُلُّ من يستبشرُ بقُرب الخَلاص فليُبشِر بِبُعدِهِ، لأنّ هذه الفتنة شديدةُ الوقع لن تُبقِيَ ولَن تَذَر حتّى نرجِعَ إلى الله تائبين مِمّا أسلفنا من الذنوب ومن المعاصي.

  وللتائب علاماتٌ كما جاء في حديث رسول الله ص وآله وسَلَّم، ما هي علامة التائب؟ كيف نستدلُّ على أنَّ هذا الرجُلَ من التائبين؟
كيف يُستدلُّ؟
يُستدلُّ بعلاماتٍ أوّلُها النصيحة لله في عمله، (الإخلاصُ لله، أن يكون هذا الرجُلُ مُخلصاً لله عز وجل في عمله، وتركُ الباطِلِ ولُزومُ الحَق، والحِرصُ على الخَير).
أن تكون مُخلصاً لله في كُل عمل تعمله.
إذا كُنتَ تحرِثُ الأرض ينبغي أن تكون مُخلِصاً لله (لا تأكُلوا المال من غير حِلِّه).
إذا كُنتَ مُعَلّماً في مَدرسةٍ ينبغي أن تبذِلَ وُسْعَكَ وطاقَتَكَ لتُؤَدِّيَ الأمانة التي فُرِضَت عليك إلى من تُعَلِّمُه.
وإذا كُنت عاملاً في مكانٍ، ما في كُلّ شيء يجبُ أن تكون مُخلصاً لله عز وجل، تكون بهذا من التائبين.
هذه علاماتُ التائبِ إلى الله كما جاء في حديثِ رسول الله ص وآله وسلم. (وأمّا علامة ُ التائبِ فأربع)، ثم ساقَ هذا الحديث الذي ذكرناه من النصيحة لله في عمله، ومن ترك الباطِلِ ولُزومُ الحَق، ومن الحِرص على الخَير.

  ولكنَّ التسويف الذي نعيشُ فيه هو الذي أوصلنا إلى هذه الحال:

حتّى متى يا نفسُ تغترّينَ بالأملِ الكَذوبِ
يا نفسُ توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبكِ الرحمن غفّارَ الذُنوبِ

  نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُبَلّغَنا وإيّاكُم درجةَ التائبين، الذين يستغفرون الله عز وجل بقلوبهم ولا يكتفي أحدُهُم أن يستغفر الله بلسانه وشفتيه حتى يُتبِعَ ذلك بالحقيقة كما قال مولانا أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام ....

  الخُطبة الثانية:
  طالما وُعِظنا وطالما لَهَونا، طالما نُبِّهنا وطالما نَسينا، وما زلنا إلى اليوم يُخَيَّلُ إلينا أنّنا إذا أردنا شيئاً فتعسّرَ علينا بُلوغُهُ في طاعة الله عز وجل طلبناه في غير طاعتِه، وتركنا الوَجهَ الذي أمَرَنا الله سُبحانه وتعالى أن نمضِيَ فيه.

  كان الإمام الباقِرُ عليه السلام ينصحُ لجماعةٍ من أتباعِهِ وشيعته ويعِظُهُم، وقلوبُهُم تقسو، وقال لهم: (إنَّ كلامي لو وقعَ طَرَفٌ منه في قلب أحَدِكُم لصارَ ميّتاً، ألا يا أشباحاً بلا أرواح، وذُباباً بِلا مَصباح، كأنَّكُم خُشُبٌ مُسَنَّدَة، وأصنامٌ بليدَة، ألا تأخُذون الذهب من الحجر، ألا تقتبسون الضِياءَ من النّورِ الأزهَر، ألا تأخُذونَ اللؤلؤَ من البَحر، خُذوا الكلمةَ الطيّبَةَ ممّن قالها، وإن لَم يَعمَل بها، فإنّ الله تعالى يقول {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} الزمر (18).

  لا يلتفتُ إذا سمع الكلمةَ الطيبة أن يأخُذَها ممّن قالها وإن لم يكُن يعمل بها، فكيف إذا كان الذي يقول طيّباً مِن طَيّب، إماماً من إمام، كيف يُهمَلُ كلامُهُ وتُترَكُ آثارُهُ، ليُقاس الدين بآرائنا وبأهوائنا، وبما يُوافقُ مصالحنا ومنافِعَنا حتى في التحيّة وفي السلام. رحم الله الذي قال:

حَيّاكَ من لم تكُن ترجو تحيّتَهُ   لولا المَصالحُ ما حَيّاكَ إنسانُ

  بتمام وصيّة الإمام الباقرِ عليه السلام، (ألا تأخذون اللؤلؤ من البحر، خُذوا الكلمةَ الطيّبَةَ ممّن قالها، وإن لَم يَعمَل بها، فإنّ الله تعالى يقول {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ}).

  لمن يَدَّخِرُ مالهُ يقول في وصيّتِهِ:
( وَيْحَكَ يا مَغرور، ألا تَحْمَدُ مَن تُعطيه فانياً ويُعطيكَ باقيا؟! دِرهَمٌ يَفنى بعَشَرَةٍ تَبقى إلى سبعِمِئَةِ ضِعفٍ مُضاعفةٍ من جَوَادٍ كريم، آتاك الله عند مُكافأة، هو مُطعِمُكَ وساقيك وكاسيك ومُعافيك وكافيك، وساتِرُكَ ممّن يُراعيك، من حَفِظَكَ في ليلك ونَهارِك، وأجابك عند اضطرارك، وعَزَمَ لكَ على الرُّشدِ في اختبارِك، هنا لتّذكُر ما كُنتَ فيه كأنَّكَ قد نَسيتَ ليالِيَ أوجاعِكَ وخَوفِك، دعوتهُ فاستجابَ لكَ فاستوجبَ في جميلِ صُنعِهِ الشُكر، فنسيتَهُ فيمن ذَكَر وخالفتَهُ فيما أَمَر)

  ليذكُر كُلٌّ منا كم استجاب الله سُبحانه وتعالى دُعاءهُ، وكم فَرَّجَ من هُمومِهِ ومن غُمومِهِ لكن إذا تجاوزَ هذا الغَمَّ وهذا الهَمّ وقُضِيَت له تِلكَ الحاجَة، نَسِيَ الله عز وجل، يوم كان يتوجّع كأنَّكَ قد نَسيتَ لياليَ أوجاعِكَ وخَوفِك، كُلٌّ مِنّا إذا نزل به أمر، إذا كان يقطعُ في طريقٍ يخشى فيه ممّا يراه من الظلام سأل الله عز وجل الأمان لكنّه إذا قطع تلك المسافةَ نسيَ الله!!! (فنسيتَهُ فيمن ذَكَر، وخالفتَهُ فيما أَمَر).

  (وإلى كأنّما أنت لِصٌّ من لصوص الذنوب)، من الإمام الباقِرِ عليه السلام إلى كُل واحدٍ فينا، وإلى كُلّ من قسى قلبُهُ عن قَبُولِ المَواعِظ، (وإلى كأنّما أنت لِصٌّ من لصوص الذنوب) .
لِصٌّ من لُصوص الذنوب. لماذا؟
لأننا نخاف أن يرانا فُلان أوفُلان فلا نفعلُ المعصية، ولا نخاف أن يرانا الله عز وجل!!
لا نخاف أن يرى الله سُبحانه وتعالى معصيتنا ولا نخاف أن نُغضِبَهُ ولكن يُخيفنا أن يغضبَ فُلانٌ أو فُلان!!!!.
فنحن حين نعملُ على المعصية نسرقها سرقةً (وإلى كأنّما أنت لِصٌّ من لصوص الذنوب، كُلّما عَرَضَت لك شهوةٌ أو ارتكابُ ذَنبٍ أسرَعْتَ إليه، وأقدَمْتَ بجهلكَ عليه، فارتكبتهُ، كأنّكَ لستَ بعين الله، أو كأنّ الله ليس لك بالمرصاد. يا طالبَ الجنّة ما أطوَلَ نومَك! وأَكَلَّ مَطِيَّتَكَ، وأوهَى هِمَّتَكَ، فلله أنتَ مِن طالبٍ ومَطلوب، يا طالباً للجنّة ويا هارباً من النار، ما أَحَثَّ مَطِيَّتَكَ إليها، وما أسرَعَكَ لِما يوقِعُكَ فيها).

  كُلُّنا يطلُبُ الجنّة ولكنّه ينامُ عن طاعة الله وينام عمّا تكون فيه المَشَقَّةُ في سبيل الله. تطلُبُ الجَنَّة بلا عمل، ونطلب الجنّةَ بلا عِلم، كما قال شيخنا الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه.

النائمينَ وما في الحَيِّ ذو سِنَةٍ   كأنَّ عِبءَ المَعالي عنهُمُ طُرِحَ

  (يا طالبَ الجنّة ما أطوَلَ نومَك! وأَكَلَّ مَطِيَّتَكَ، وأوهَى هِمَّتَكَ.. ويا هارباً من النار، ما أَحَثَّ مَطِيَّتَكَ إليها، وما أسرَعَكَ لِما يوقِعُكَ فيها، انظروا إلى هذه القُبور، سُطوراً بأفناء الدور، تَدانَو في خِطابِهِم، وقََرُبُوا في مَزارِهِم، وبَعُدوا في لِقائهم، عَمَروا فخُرِبوا، وآنَسوا فَأَوْحَشوا، وسَكَنوا فأُزعِجوا، أُرغِموا على الرَّحيل، وقطنوا فرحلوا، فمن سمِعَ بِدانٍ بَعيد، القبرُ جِوارَ القَبر).

  (فمن سمِعَ بِدانٍ بَعيد)، القبرُ جِوارَ القَبر، قبران مُتجاوران، لكن لا يستطيع أحد منهما أن يعرف عن الآخرِ شيئاً (قرُبوا في مَزارِهِم، وبَعُدوا في لِقائهِم) . (فمن سمِعَ بِدانٍ بَعيد)، قريبٍ بعيد، جارٌ لك في الأرض، ليس بين قبرك وقبره إلاّ ما يُقاسُ بالأصابِع، ولكن كأنَّ كُلاً في أرضٍ وكأنَّ كُلاًّ في عالمٍ آخر.
(فمن سمِعَ بِدانٍ بَعيد، وشاحِطٍ قريبٍ، وعامرٍ مَخروبٍ، وآنِسٍ موحِشٍ، وساكِنٍ مُزعَجٍ، وقاطِنٍ مُرْحَلٍ، غيرِ أهلِ القبور، يا ابن الأيّام الثلاث)

  تأمّلوا قول الإمام الباقِر عليه السلام (يا ابن الأيّام الثلاث) كُلٌّ مِنّا يعيش من دهره ثلاثةَ أيّام .

  (يا ابن الأيّام الثلاث: يومِكَ الذي وُلِدتَ فيه، ويومِكَ الذي تنزِلُ فيه قَبْرَك، ويومِكَ الذي تخرُجُ فيهِ إلى رَبّك، فيا له من يومٍ عظيمٍ يا ذوي الهَيئَةِ المُعجِبَة والإبِلِ المُعطَنَة) أي التي أصابها مِن شِدَّةِ العَطَش ما جعلها هائمة.
(فيا له من يومٍ عظيمٍ يا ذوي الهَيئَةِ المُعجِبَة، والإبِلِ المُعطَنَة، مالي أرى أجسادكُم عامِرَةً وقُلوبَكُم دامِرَة، لو عاينتُم ما أنتُم إليه صائرون لقُلتُم يا ليتنا نُرَدُّ ولا نُكّذِبُ بآياتِ ربّنا، ونكون من المؤمنين.) قال الله جلّ جَلالُهُ: {بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} الأنعام (28)

  نسألُ الله سُبحانه وتعالى أن تكون هذه المَواعِظ من الكلام الذي يقرعُ القُلوب، ومن الكلام الذي يسكُنُ الصُدور، ومن الكلام الذي نتذكَّرُهُ كُلَّما هَمَمنا بمعصيةٍ لله.

  اللهم صلّ على محمد وآل محمد......