خُطبتا صلاة الجُمُعة في 24 تشرين أوّل 2014م

أُضيف بتاريخ الخميس, 10/12/2015 - 11:00
خُطبتا صلاة الجمعة في 24 تشرين أوّل 2014م + (فيديو)

  مُلَخّص الخُطبتين:

- قال الإمام : (وهل الإيمان إلّا الحُبُّ والبُغض؟!) ثم تلا قوله تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ
- وقال  (مَن أحَبَّ لله، وأَبغَضَ لله، وأعطى لله، فهو ممّن كمُل إيمانُه).
- إذا أعطيتَ فلا ترجو ثوابًا مِنَ الخَلق، إنّما تُعطي ابتغاء وَجه الله عز وجل.. ولا يُعَلّم أحدٌ أحدًا شيئًا من العِلم وهو يرجو أن ينتفعَ منه بشيءٍ من الدنيا..
- الصلاةُ عظيمةٌ، وكبيرةٌ، والصِيام عظيمٌ وجَليلٌ عند الله عز وجل ولكن إذا أحبَبْتَ في الله كُنتَ حينئذٍ مِمَّن كَمُلَ إيمانُه، لماذا؟ لأنَّ الإيمان يُوجِبُ عليك أن تُؤثِرَ الحَق وإن كان فيه ضرر، وأن تجتنبَ الباطِل وإن كان فيه نَفْعُك، هذا هو الإيمان.
- إنّها لم تَفْقِدْ أُمَّةٌ حضارتها، ولم يفقِد مُجتمعٌ تماسُكَهُ وتراحُمَهُ، إلاّ حين فقدَ الحُبَّ في الله، وصار الحُبُّ حُبَّ مَنافِعِ ومَصالِحٍ في الباطِلِ، ووغُلِّبَ الباطِلُ على الحَق، حينئذٍ تسقُطُ القِيَم، وحينئذٍ تضيعُ الأخلاق، فيكون الهَلاك قريبًا..
- قول الشيخ عبد الكريم محمد وقول الشيخ سليمان الأحمد في الحب والبغض في الله.
- (إذا أردتَ أن تعرِفَ نِعمَةَ الله عليك فأغمِض عَينَيك). لو تأَمَّلَ أحَدُنا حالَ الأعمى، لعرف فَضلَ اللهِ  عليه، فلا يستعمل نِعمَةَ الله في مَعصِيَتِه.
- فليتأمَّل مُتأمِّلٌ ما يَصِلُ إليه إذا فَقَدَ الحُبَّ في الله، وإذا فَقَدَ البُغْضَ في الله، والعَطاءَ في الله، والمَنع. هذه حالُهُ تَفْضُلُهُ البهائمُ..


-- ما هي العَصَبِيَّةُ التي نُهينا عنها؟ سُئِلَ الإمام عليُّ بن الحُسين  عن العَصَبِيَّة فقال: (ليس من العصبية أن يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، ولكن العصبية التي يأثَمُ عليها صاحِبُها أن يَرى الرَّجُلُ شِرار قومِهِ خيرًا مِن خِيارِ قومٍ آخرين).
-- (انصُر أخاكَ ظالمًا أو مَظلومًا) عرفنا كيف ننصُرُهُ وهو مظلوم، فكيف ننصُرُهُ وهو من الظالمين؟
-- مَن أراد أن يتعصّب لشيء فليتعصّب لمحاسِن الأخلاق، فليتعصّب لمَكارم الأخلاق، فليتعصّب لمَحامد الأفعال. ليكُن شديدًا في حِفظِ جارِهِ، ليَكُن مُتعصّبًا في إكرام أهلِهِ، ليكُن متعصبا في حِفظِ عُهُودِهِ. هذا هو التعصّب الواجِب.
-- قول مولانا أمير المؤمنين  في التعصّب.. وقول الشيخ سليمان الأحمد في التعصّب.
-- الذي يتنَطَّعُ ويتعصّب هو كالمُلحِد الذي مالَ إلى شيءٍ فآثرهُ على غيره...




الخُطبة الأولى:

كان فيما وَرَدَ عن الأئمّة الطاهرين آل بيتِ رسول الله  فيما سُئلوا منه به عن الحُبّ والبُغض، أهوَ من الإيمان؟ فقال الإمام : وهل الإيمان إلّا الحُبُّ والبُغض؟! ثم تلا قوله تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ الحجرات 7.

الحُبُّ والبُغضُ هُما ما أراده الله سبحانه وتعالى من عِباده وهو ما يَكْمُلُ بِهِ الإيمان، أن يكون الرّجُلُ إذا أَحَبَّ أحبَّ مُنصِفًا، لا يُحِبَّ لمَنفَعَةٍ ولا لشيءٍ من الدُنيا، وإذا أَبْغَضَ أن يكون مُنصِفًا، لا يُبغِضُ من أجل مَصلحَةٍ ولا لشيءٍ من الدنيا، لذلك جاء عنهم عن الإمام الصادق وعن غيره من الأئمّة  (أنّ مِن أوْثَقِ عُرى الإيمانِ بالله أن تُحِبَّ في الله وأن تُبغِضَ في الله).

وقال (مَن أحَبَّ لله، وأَبغَضَ لله، وأعطى لله، فهو ممّن كمُل إيمانُه). يَكمُلُ الإيمان بهذه الأشياء، أن تُحِبَّ إذا أحببتَ أحَدًا أن يكون حُبُّكَ له لله  يعني أن يكون ذلك الحُبُّ خاليًا ومُجرّدًا من شوائبِ المَنافِع ومن شوائبِ المَصالِح. وأنّكَ إذا أبغَضتَهُ أبغضتَهُ أيضًا من أجلِ هذا الأمر.

ولا تكُن مِمَّن يُؤثِرُ هَواكَ على الحَق، فإذا وَجَدتَ مَن يُسمِعُكَ كلمةً قاسيةً، وكانت هذه الكلمة ممّن يُنَبّهُكَ ويَردَعُكَ عمّا أنتَ فيه فإنّ الواجبَ أن تُحِبَّهُ لله، وليس لأنّه أزعجكَ أو قال لك كلمةً هي ممّا يدُلُّكَ على الخير.

وأنّكَ إذا أعطيتَ أعطيتَ لا ترجو ثوابًا مِنَ الخَلق، إنّما تُعطي ابتغاء وَجه الله ، هذا مَن أحَبَّ ومَن أبغَضَ ومن أعطى لله، لذلك جاء في الحديث: (لا تُعطي العَطِيَّة تلتَمِسَ أكثرَ مِنها)، لا يُنفِق أحدٌ شيئًا من المال وهوَ يرجو أن يأتيهُ أكثر ممّا أنفَق، ولا يُعَلّم أحدٌ أحدًا شيئًا من العِلم وهو يرجو أن ينتفعَ منه بشيءٍ من الدنيا، ينبغي أن يكون هذا لله  والله سبحانه وتعالى هو الذي تكفّل بالرزق، وهو الذي تكفّل بالثواب، فلا يظُنَّنَّ أحدٌ أنّهُ حين يعملُ عملاً ما يبتغي به غيرَ وجه الله أو يُريدُ به منفعةً أو ثوابًا أنّه بهذا يكون ممّن يُرضي ربّهُ.

ما كان من الحُبّ في الله فعلى الله ثوابُه، -كما جاء في الحديث- وما كان في الدنيا فليس بشيء إنّما يُرَدُّ ذلك العمل إلى صاحبه.

الحُبُّ في الله هو الذي يُمَيّزُ الإنسان، هذا معنى أن تكون ما استطعت مُتجرّدًا من الباطِل، ومِن طلب المَنفَعَة، ومِن إرادةِ مَتَاعِ الدُنيا باسمِ الدّين. هذا هو الأمر الذي يجبُ أن تكونَ عليه، هذا هو الأمر الذي فرضهُ الله .

ومَن تأمَّلَ في حديث رسول الله  وقد سألَ مَن سألَهُ عن أوثَقِ عُرى الإيمان فقال قوم: الصلاة، وقال قوم: الزكاة، وقال قوم: الحج، وجاء في أخبارٍ كثيرة أنَّ هذا عظيمٌ وهذا كبيرٌ، ولكن لِكُلٍّ فضلٌ ممّا ذكرتُم ولكن (أوثَقُ عُرى الإيمان بالله هو الحُبُّ في الله والبُغضُ في الله).

الصلاةُ عظيمةٌ، وكبيرةٌ، والصِيام عظيمٌ وجَليلٌ عند الله  ولكن إذا أحبَبْتَ في الله كُنتَ حينئذٍ مِمَّن كَمُلَ إيمانُه، لماذا؟ لأنَّ الإيمان يُوجِبُ عليك أن تُؤثِرَ الحَق وإن كان فيه ضرر، وأن تجتنبَ الباطِل وإن كان فيه نَفْعُك، هذا هو الإيمان.

لا يظُنَّنَّ أحدٌ أنَّ شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنَّ مُحمّدًا رسول الله كافيةٌ في أن تُثبِتَ إسلامَهُ، هذه ليست بكافيةٍ في إثباتِ إسلامِه، فكثيرٌ من الناس كما ذكرنا يقول: لا إله إلاّ الله ومحمد رسول الله، ثم يذبحُ ويقتُلُ ويغتصِبُ النّساء وينتهكُ الأعراض، فهل هذا يكون مِنَ الإسلام؟! إذا رجَعْتَ إلى تعريف رسول الله في المُسلِم أنّه: (مَن سَلِمَ النّاس من يديه ولسانِه وعينه وأنَّ المُؤمن إنّما هو مؤمِن لأنّ الناس تأمَنُهُ على أموالهم وعلى دِمائهم وعلى أعراضِهِم)، عَرَفْتَ حينئذٍ ما مَعنى أن تُحِبَّ في الله وأن تُبغِضَ في الله.

إنّها لم تَفْقِدْ أُمَّةٌ حضارتها، ولم يفقِد مُجتمعٌ تماسُكَهُ وتراحُمَهُ، إلاّ حين فقدَ الحُبَّ في الله، وصار الحُبُّ حُبَّ مَنافِعِ ومَصالِحٍ في الباطِلِ، ووغُلِّبَ الباطِلُ على الحَق، حينئذٍ تسقُطُ القِيَم، وحينئذٍ تضيعُ الأخلاق، فيكون الهَلاك قريباً، لذلك نَبَّهَ كثيرٌ من عُلمائنا أصحابِ الفَضل رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليهم على هذا الأمر. في هذا يقول الشيخ عبد الكريم مُحمدّ رحمه الله :

الحُبُّ في الله فرضٌ واجبٌ أبدًا***والبُغضُ في الله فيه الأجرُ للرّجُلِ
مَن يَبتَغي البَغيَ أو يَبْسُطْ بِهِ يَدَهُ***لا بُدَّ يُعقَبُ ذاكَ البَسطُ بالشَّلَلِ

كثيرًا ما ينظُرُ أحَدُنا إلى رجُلٍ أُصيبَ بشيءٍ مِن الدّاء، أو قُطِعَت يدُهُ أو فُقِئَت عينُهُ، أو أصابَهُ شيءٌ لا يتمنّى ولا يستحِبُّ أن يُصابَ بِهِ، فليَذكُر حينئذٍ أنَّ ليَدِهِ عليه حَقّاً، وأنَّ لقَدَمِهِ عليه حَقًّا، ولكُلّ شيءٍ من هذا الجسد الذي جعلهُ اللهُ سُبحانه وتعالى في أحسَنِ تقويم، لكُلّ شيءٍ حَقّ.

فمَن وَضَعَ يَدَهُ في غيرِ حَقِّهِ ومَن مَشى برجليه في غَيرِ حَقِّهِ، ومَن جَعَلَ لِسانَهُ في غير المَوضِعِ الذي أمر الله  أن يكون فيه سيكون له ما يُشعِرُهُ بزَوالِ تِلكَ النِّعمَة التي أنعَمَها الله  عليه، وكثيرًا ما سمعنا (إذا أردتَ أن تعرِفَ نِعمَةَ الله عليك فأغمِض عَينَيك).
لو تأَمَّلَ أحَدُنا حالَ الأعمى، ما الذي ينفَعُهُ ما هُو فيه لو كان يملِكُ من المال ما يملك، إنّه ليَرغَبُ أن يُذهِبَ مالَهُ كُلّهُ وأن يعودَ إليه نظرُهُ لو كان ساعة، وكيف بالذي فَفَدَ سَمعَهُ أو فقد عُضوًا مِن أعضاءِ جَسَدِه، لينظُر حينئذٍ في أمثالِ هؤلاء، ليَعْرِفَ فَضلَ اللهِ  عليه، ولا يستعمل نِعمَةَ الله في مَعصِيَتِه.

الحُبُّ في الله أنّك إذا أحببت لا تبتغي ثَوابًا، ولا تُحِبُّ من أجلِ مَنفَعَةٍ مِن مَنافِعِ هذه الدنيا، الذي أوصَلَ الحال إلى ما نحن فيه هو: غَلَبَةُ الباطِل، والعَمَلُ بالأهواء، وتركُ الحُبِّ في الله، إنّما صارَ الحُبُّ في الدُّنيا، وصار البُغْضُ في الدُّنيا، وليس مِن أجلِ موقفٍ صحيح ولا مِن أجل كلمةٍ صحيحة، وليس مِن أجلِ شيء يُطلَبُ فيه ثَوَابُ اللهِ . يقول في هذا العَلاّمةُ الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه في مَن خاطَبَهُ في هذه الحال، فقال رحِمَهُ الله:

[ وَا حَسْرَتَاه، أُمَّةٌ فَقَدَت عِزّها وَمجْدَها، وزَعامَتَها الدّينيّةَ والدّنياوِيّة، وجَميعَ مُقَوِّماتِ الحَياةِ القَومِيَّة، ولَم يبقَ لها مِنها إلاّ الحُبُّ في الله عزاءً عَن مَصائِبِها الفادِحَة، فيا وَيلَ الشيطان أَنَفِسَ علينا هذه أيضًا.]

هذه الكلمةُ تعني أنّ الشيطان لَم يرَنا أهلاً لهذا الحُبِّ في الله. (أَنَفِسَ علينا) أي ضَنَّ وبَخِلَ ولَم يرَ الناس أهلاً لهذا الأمر.

[فيا وَيلَ الشيطان أَنَفِسَ علينا هذه أيضًا، فجاءَ يَسلُبْنَاها في عُرسِهِ المَشؤوم، قاتلهُ الله، وماذا نَكونُ والعِياذُ بالله لو فقدناها، أَفَلا تَفْضُلُنا البَّهائِم؟!

بلى، إنَّ البهائمَ يُحافَظُ عليها لِما فيها مِنَ المَنافِع، وتبقى ببقاءِ ذويها، أمّا نحنُ فنُقرَضُ لِيَحِلَّ مَكاننا مَن يستحِقُّ الحياة، ولا جَرَمَ - أي لا رَيبَ ولا شَكّ- فالعُضْوُ الأشَلّ يَجِبُ قَطعُه].

فليتأمَّل مُتأمِّلٌ ما يَصِلُ إليه إذا فَقَدَ الحُبَّ في الله، وإذا فَقَدَ البُغْضَ في الله، والعَطاءَ في الله، والمَنع.
هذه حالُهُ تَفْضُلُهُ البهائمُ، والبهائِمُ يُحافَظُ عليها لِما فيها من منافع، أمّا مَن فَقَدَ الحُبّ في الله ففقد إنسانيّته فإنّه سيُقرَضُ من أجلِ أنّه سوف يَحِلُّ مَحَلّهُ مَن يستحِقُّ الحياة، الذي لا يُحِبُّ في الله، ولا يُبغِضُ في الله لا يستحقُّ الحياة. وسوفَ يأتي زمنٌ يُقطعُ فيه ويُبتَر، ويُستأصَل، ولن يبقَ لهُ أثرٌ في الدنيا.

هذا هو الحُبُّ في الله الذي يُكمِلُ الإيمان، وهذا هو الحُبُّ في الله الذي به يَكمُلُ الإيمان، لا يكونُ أحَدُنا مِمّن يُحِبُّ وإذا أحَبَّ تَمَسَّكَ بمن يُحِبُّ وإن كان على باطِل، فإنَّ هذا ليس حُبًّا لله .

ولا يظُنَّنَّ أحدٌ أنّ اللهَ  مُحتاجٌ إلى خلقِه، إنّهُ  غنيٌّ عن طاعةِ مَن أطاعَهُ، إنّه لا تنفَعُهُ طالعةٌ، ولا تَضُرُّهُ مَعصِيَة، فمَن عَمِلَ فإنّما يعمَلُ لنَفسِه، ومَن جاهَدَ فإنّما يُجاهِدُ لنفسِه، ومَن أساءَ فإنّا يُسيءُ إلى نفسه.

فلنسألِ اللهَ سبحانه وتعالى أن نكون ممّن يعرف طريق الحُبّ فيه، وممّن يسلِكُ طريق البُغضِ فيه، ومِمّن إذا أعطى أعطى ابتغاء وجهه الكريم، لا يطلُبُ أجرًا ولا يطلُبُ ثوابًا مِن غير الله . عباد الله إنّ الله يأمُرُ بالعدل والإحسان......



الخُطبة الثانية:

كثيرًا ما نُعاني مِنَ التشبُّثِ بالرّأي، ومن التَّمَسُّكِ بِما يَحْلو لنا وهو في الباطِلِ أكثَرَ ممّا هو في الحَق، ذلك التمسّكُ يكونُ في الباطِلِ أكثَرَ مما يكون في الحّق، ونرى أنَّ غيرنا وإن كان خَيِّرًا، نراهُ ممّن يجبُ أن يُبخَسَ حَقَّهُ فيما يفعَلُه!.

والذي جاء في حديث رسول الله  وبالأئمّة الطاهرين (أنَّ مَن تَعَصَّبَ أو تُعُصِّبَ له، فقد خَلَعَ رِبْقَةَ الإيمانِ مِن عُنُقِه والرِّبقةُ كما تعلمون هي الحَبْلُ ذو العُرى، شُبِّهَ الإيمان الذي يَحوطُ الإنسان بهذا الحَبل (فمَن تَعَصَّبَ أو تُعُصِّبَ له، خَلَعَ رِبْقَةَ الإيمانِ مِن عُنُقِه) وخرجَ مِن ذلك الذي يَدَّعيه.

ولكن ما هي العَصَبِيَّةُ التي نُهينا عنها؟

سُئِلَ الإمام عليُّ بن الحُسين  عن العَصَبِيَّة فقال: (ليس من العصبية أن يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ) كُلٌّ يستطيع ويُجازُ له أن يُحِبَّ قومَهُ، وهذا ليس تعصّبًا. أينَ تكون العصبية بعد هذا؟

(ليس من العصبية أن يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، ولكن العصبية التي يأثَمُ عليها صاحِبُها أن يَرى الرَّجُلُ شِرار قومِهِ خيرًا مِن خِيارِ قومٍ آخرين).

ليس من العصبية أن يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ، العصبية أن يُعين قَومَهُ على الظُّلم، مَن أعانَ أحدًا على الظُلم وإن كان مِن قومِهِ، فقد تعصّبَ ومن تَعَصَّبَ أو تُعُصِّبَ له كان حالُهُ كما ذكرنا.

لذلك جاء في حديث رسول الله  وأكثَرُنا يحفَظُ هذا الحديث من أيّام المدرسة: (انصُر أخاكَ ظالمًا أو مَظلومًا وكيف يُنصَرُ وهو ظالم؟ عرفنا كيف ننصُرُهُ وهو مظلوم، فكيف ننصُرُهُ وهو من الظالمين؟
أن تَرُدَّهُ عن ظُلْمِهِ. أن تردَعَهُ عن ظُلمِهِ، أن تُوَبِّخَهُ، أن تُعَنِّفَهُ على ظُلمِهِ لئلاّ يقعَ في الهَلاك، هذا هو نصرُكَ لأخيك إذا كان ظالمًا.
وإذا كان مَظلومًا فأن تأخُذَ له بحَقِّهِ.

فمن مِنّا نَصَرَ أخاه ظالمًا أو مَظلومًا؟

إنَّ أكثَرَنا يُعينُ أخاهُ على الظُلم من غَير أن يَدرِِيَ، تَعَصّبوا للتعصُّبَ الذي لا يعرفوا له سببًا.

يقول مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب :

(لقد نظرتُ فلم أجِد أحَدًا مِن العَالَمين يتعصّبُ لشيءٍ مِنَ الأشياء إلاّ عن عِلّةٍ تحتَمِلُ تمويه الجُهلاء، أو حُجّةٍ تليق بعقول تليط بعقول السفهاء غيرَكم، فإنكم تتعصبون لشيءٍ لا يُعرفُ لهُ سببٌ ولا عِلّة.

أما إبليس فتعصب على آدم لأصلِهِ، وطَعَنَ عليه في خِلقَتِهِ، فقال: أنا ناريٌّ وأنتَ طينيّ.

وأما الاغنياء من مُترَفَةِ الأُمَم، فتعصبوا لآثار مواقع النِّعَم، فـقالوا: نحن أكثرُ أموالاً وأولادًا وما نحن بمُعَذّبين.

فإن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصُّبُكُم لمَكارم الخِصال، ومَحَامِد الأفعال، ومَحَاسِنِ الأُمور.)

مَن أراد أن يتعصّب لشيء فليتعصّب لمحاسِن الأخلاق، فليتعصّب لمَكارم الأخلاق، فليتعصّب لمَحامد الأفعال. ليكُن شديدًا في حِفظِ جارِهِ، ليَكُن مُتعصّبًا في إكرام أهلِهِ، ليكُن متعصبًا في حِفظِ عُهُودِهِ.

هذا هو التعصّب الواجِب.

والتعصّبُ على ما أوردنا مَنهِيٌّ عنهُ ومَأمورٌ بِهِ: فالمنهيُّ عنه أن تُعينَ الناس على الظلم، أو أن ترى رجُلاً يُخالفُكَ في الرأي ويكون خيرًا وصالحًا، فترى شرارَ قومِكَ خيرًا مِن خِيارِ قومٍ آخرين. هذه هي العصبيّة التي يأثَمُ عليها صاحِبُها، وهي العَصبيّةُ التي نَهى الله  عنها، وكفى. ولا تبخسوا الناس أشياءهُم.

العصبيّةُ إذا رأيتَ رجُلاً مُخلصًا صالحًا كريمًا أمينًا ثمّ رأيتَ مَن هو مِن أقربائكَ وهو لا يلتفِتُ إلى شيءٍ من المَكارِم ومِن المَحاسِن، أن تُفضّل ذلك الرجُل الذي لا يفعلُ من المًحامِدِ شيئًا على ذلك الرجل الصالح الخَيّر، من أيّ مذهبٍ كان، ومِن أيّ فِئةٍ كانت هذه عصبيّةٌ تأثَمُ فيها وعليها، وتُحاسَبُ عليها.

ما نَصَرَ التَّعَصُّبَ مَن تمسّكَ بالحَق، وما نصَرَ التعصُّبُ ولا أن تعصّبَ دينًا ولا حَقًّا.

يقول العلاّمة الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُه عليه:

هيهات لا يَنصُرُ الدّينَ الحَنيفَ فتًى***على تعَصُّبِهِ والجَهلِ يستنِدُ

ويقول أيضًا رحمه الله:

كَم عُصبَةٍ قد أوْغلوا في نُسكِهِم***فَتَنَكَّبوا سنا الطّريقِ وحَادوا
فَدَعِ التَّطَرُّفَ بالأُمورِ تَعَقُّلاً***إنَّ التنطُّعَ صِنوُهُ الإلحادُ

الذي يتنَطَّعُ ويتعصّب هو كالمُلحِد الذي مالَ إلى شيءٍ فآثرهُ على غيره، وهذا الإلحادُ كما تعلمون أصلُهُ في اللغة : المَيل. ومن هنا جاءت كلمةُ لَحْدِ المَيّت أي إمالتُهُ على جانبه الأيمن. فالمُلحِدُ الذي يميلُ لرأي يتمسّكُ فيه من غير أن يَنظُرَ بنور عقله ولا بنور قلبه فيُفضّل مَن لا خيرَ فيه لأنه من قول الآخرين على مَن هو دون ذلك من قوله. يترُكُ الرّجُلَ الصّالح ليُفضّل عليه شرِّيرًا أو رجُلاً ليس من أهل التفضيل، فهذه عصبيةٌ يُحاسَبُ عليها.

نسأل الله عز وجل أن يَجعَلَنا ممّن إذا تعصّبَ تعصّبَ إلى مَكارِم الأخلاق، ولِمَحامِدِ الفِعال، ولمَحاسِنِ الأمور، ولا يكونُ تعصّبُنا لشيءٍ لاخير فيه في الدنيا ولا في الآخرة....