خُطبتا صلاة الجُمُعة في 31 تشرين أوّل 2014م

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 23/12/2015 - 09:46
خُطبتا صلاة الجمعة في 31 تشرين أوّل 2014م + (فيديو)

  مُلَخّص الخُطبتين:
- كُلّ مَن يأمُرُ بمعروف ويَنهَى عن مُنكَر فعليه أن يَكون عاملاً به قبلَ أن يأمُرَ النّاس به، مّن أَمَرَ النّاس ثُمّ قَعَدَ عَمّا أمَرَ به كان فِعْلُهُ يُدخِلُهُ في عِداد الذين يُشَكُّ في صِدْقِ أقوالِهِم، إن لم نَقُل أنّهُ يُدخِلُهُ في عِدادِ الكاذِبين.
- وللأمرِ بالمعروف وللنّهي عن المُنكَر شُرُوطٌ جاءَ التّنبيهُ عليها في كلامِ الأئمّة، أنّه لا يأمُرُ بالمعروف ولا يَنهَى عن المُنكَر إلاّ من كان فيه ثلاثُ خِصال....
- إذا اجتمع العِلمُ والعَدلُ والرِّفقُ كان هنا تمامُ الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المُنكر. وبقيَ بعد هذا أن يُنظَرَ في عَمَلِ الرّجُل الذي يأمرُ ويَنهَى...
- إنَّ الكلمَةَ تُؤخَذ وإن كان صاحِبُها غيرَ عامِلٍ بها لأنّهُ لا يجوز أن يُزَهّدَنا فِعلُ فلانٍ أو فِعلُ فلان في أمرِ الله عز وجل ولا في سُنّةِ رسول الله ص وآله وسلّم. لذلك قال الإمام الباقرُ عليه السلام (خُذوا الكلمة الطيّبةَ مِمَّن قالها وإن لم يَعمَل بها، وإنَّ اللهَ عزّ وجَلّ يقول { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ).
- إنَّ كُلّ إنسانٍ يُسألُ عن عَمَلِهِ ولا يَحمِلُ أحدٌ وِزْرَ غيرهِ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} .
- نقول الكلمة مرّةً ومرّتين ومرّات لكنّنا لا نستطيعُ أن نُلزِمَ أحداً، ولا نستطيعُ أن نُجبِرَ أحَداً لأنَّ الله عزّ وجَل يقول { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. كُلُّ إنسانٍ ومَا يعتقِدُ، وكُلُّ إنسانٍ وما يرى، وكُلُّ إنسانٍ وما يُحِبُّ أن يفعَل...
- هناكَ ثلاثةُ أشياء كُلُّنا يعتقدُ أنّهُ مُصيبٌ فيها هي دينُهُ الذي يعتقدُهُ، وهَواهُ الذي يَستَعلي عليه، وتدبيرُهُ في أُمُورِه.
- هكذا الناسُ والدنيا، كُلٌّ مُتعلّقٌ بالذي يُحِبُّهُ وبالذي يَهواه، وذلك أنَّ للآخِرَةِ أهلاً وأنَّ للدنيا أهلاً، وأنّ للآخرة أبناءً وأنّ للدنيا أبناءً...
-- والإستعجالُ في كثيرٍ من الأمور هو الذي يُسبّبُ الخُصومَة، وهو الذي يُسَبّبُ المُنازَعَة، لأنّهُ يكونُ بمنزلةِ فتيلٍ لتلكَ الخُصومات ولتلكَ المُنازعات.
-- إذا سَمِعَ أحدُنا كلمةً لم يعرِفها فإنَّ الواجِبَ الذي أُمِرَ به يوجِبُ عليه أن يتثبَّتَ وأن يتبيّنَ وأن يتأنّى قبلَ أن يبُتَّ حُكمَهُ فيما يتّصِلُ بهذه الكلمة.
-- لا يعْجَلَنَّ أحَدُنا في الجَدَلِ ولا في الخُصومَة فيما لا يعلَمُهُ. إنَّ أَحَدَنا إذا كان يعلمُ يُقَصّرُ في الجِدال، فكيف إذا جادَلَ فيما لا يَعلَم...
-- والمُجادلة بالتي هي أحسن، لا تكون إلاّ -كما جاء في حديث الأئمّة- (لمن إذا وَقَعَ يُحسِنُ أن يطير وإذا طارَ يُحسِنُ أن يَقَع) للذي يعرف مَداخِلَ الكلام ويعرفُ مَخارِجَهُ، والذي يعرِفُ مُحكَمَهُ ومُتَشابِهَهُ...
-- اللهُ عز وجل حين بَعَثَ أنبياءهُ وأرسلَ رُسُلَهُ أرادَ من عِبادِه أن يعبُدوه وأن لا يُشرِكوا به شيئاً وأن يكونوا إخواناً في مُعاملتهم وفي تراحُمِهم وفي توادِّهِم وفي تعاطُفِهِم.. إذا جَهِلَ أحَدُنا حَقَّ هذا الأمر فلا يَليقُ به أن يَجهَلَ حقَّ الجِوار، وإذا جَهِلَ حَقَّ الجِوار فلا يَليقُ به أن يَجهَلَ حَقَّ الإنسانية...
-- قول العلاّمة الشيخ سُليمان الأحمَد في التقاطع بالأرحام...
-- لا يَلومَنَّ أحدٌ أبناءَهُ حينَ يُسيئونَ الأدَب، لا يَلومَنَّ أحدٌ أبناءَهُ حينَ يُسيئونَ العَمَل، لأنّهُ إنّما يجني ما زَرَعَهُ فيهِم، وما غَرَسَهُ. وقول الشيخ محمد حسن شعبان في هذا..


  الخُطبة الأولى:

  يقول الله تعالى حِكاية ما خاطب به بَني إسرائيل { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} البقرة (44) صدق الله العلي العظيم.

 

  كُلّ مَن يأمُرُ بمعروف ويَنهَى عن مُنكَر فعليه أن يَكون عاملاً به قبلَ أن يأمُرَ النّاس به، مّن أَمَرَ النّاس ثُمّ قَعَدَ عَمّا أمَرَ به كان فِعْلُهُ يُدخِلُهُ في عِداد الذين يُشَكُّ في صِدْقِ أقوالِهِم، إن لم نَقُل أنّهُ يُدخِلُهُ في عِدادِ الكاذِبين.

  كثيراً ما نسمعُ من الأمر بالمعروف ومِنَ النَّهي عن المُنكَر، ولكننا نرى الذين يأمُرُون بهذا أو يَنهَوْنَ عن ذاك يكونون مِن أوّائلِ الذين يقعُدُونَ عن ذلِكَ ويتخلّفون عنه! وفي هذا أبياتٌ مشهورةٌ تُنسَبُ إلى أبي أسوَد الدُّؤَليّ:

لا تَنْهَى عن خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ   عارٌ عَليكَ إذا فَعَلتَ عَظيمُ
اِبدَأ بنفسِكَ فانْهَهَا عن غَيِّها فإنّها   إذا انتَهَتْ عَنهُ فَأنتَ حَكيمُ

  الذي يُريدُ أن يَنهَى عن شيء، فالواجِبُ عليه أن ينتَهِيَ عنهُ قبلَ أن يَنهى النّاس، والذي يُريدُ أن يأمُرَ بشيء بالواجبُ عليه أن يأتَمِرَ قبلَ أن يأمُرَ النّاس.

  وللأمرِ بالمعروف وللنّهي عن المُنكَر شُرُوطٌ جاءَ التّنبيهُ عليها في كلامِ الأئمّة، أنّه لا يأمُرُ بالمعروف ولا يَنهَى عن المُنكَر إلاّ من كان فيه ثلاثُ خِصال. هذه الخِصال إذا اجتمعَت في رجُلٍ أجازَت له أو كان عالماً بِما يقول:
أوّلُها أن يكون عالماً بما يأمُر وعالماً بِما يَنهَى، والعِلمُ بما يأمُرُ وبِما يَنهَى يوجِبُ عليه أن يكون عاملاً بما يأمُرُ ومُنتهياً عمّا يَنهى، وأن يكون عادلاً فيما يأمُر وعادلاً فيما يَنهى، وأن يكون رَفيقاً فيما يأمُر ورَفيقاً فيما يَنهى.
عادلاً فيما يأمُر: أي أنّهُ لا يُكلّف الناس مالَم يُكَلّفوا ولا يجوز أن يُحمّلهُم ما لا يستطيعون ولا أن يشُقَّ عليهم فيما يأمُرُ به.

  فإذا اجتمع العِلمُ والعَدلُ والرِّفقُ كان هنا تمامُ الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المُنكر. وبقيَ بعد هذا أن يُنظَرَ في عَمَلِ الرّجُل الذي يأمرُ بالمعروف ويَنهَى عن المُنكر، فإن كان مِمَّن يعمَلُ بما أمَرَ به فكلامُهُ أعظَمُ وأبلَغُ في قُلوب من يسمعُهُ، وإن كانَ قاعداً غيرَ عاملٍ بما أمر به لم يُلتَفَت إلى كلامِه.

  إنَّ الكلمَةَ تُؤخَذ وإن كان صاحِبُها غيرَ عامِلٍ بها لأنّهُ لا يجوز أن يُزَهّدَنا فِعلُ فلانٍ أو فِعلُ فلان في أمرِ الله عز وجل ولا في سُنّةِ رسول الله ص وآله وسلّم. لذلك قال الإمام الباقرُ عليه السلام (خُذوا الكلمة الطيّبةَ مِمَّن قالها وإن لم يَعمَل بها، وإنَّ اللهَ عزّ وجَلّ يقول { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ).

  فإذا رأينا مَن يقولُ قولاً حَسَناً ثُمّ لا يَعمَلُ به، أو رأينا مَن يأمُرُ بأمرٍ ثم لا يعملُ به، أو مَن يَنهى عن مُنكَرٍ ثم يعمَلُ به، فلا يجوزُ أن يُزَهّدَنا هذا في حقِّ الأمرِ بالمعروف والنّهي عن المُنكَر، ولا يجوز أن نصير في شكٍ من صِحّةِ ما نحنُ عليه إذا رأينا فُلاناً مُتخلّفاً عن هذا الأمر أو رأينا فُلاناً قاعداً عن هذا الأمر، فإنَّ كُلّ إنسانٍ يُسألُ عن عَمَلِهِ ولا يَحمِلُ أحدٌ وِزْرَ غيرهِ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} .

  وقد يكونُ لهذا الأمر كما تعلمون أثرٌ في النّفس، هذا الأثر في النفس ممّا ينبغي لنا أن نحتمِلَهُ وأن نتجاوَزَهُ، إذا رأينا مَن لا نُحِبُّ أن نراهُ في حالٍ ما، فإنَّ الواجبَ علينا أن ننصَحَ له وأن نُعَنِّفَهُ، ولكن بعدَ هذا إذا رَجَعَ عن خَطَئِهِ إلى الصّواب، فذلك ما نَبغيه، وإن لم يَرجِع تركناهُ ما لنا ولَه. تركناهُ وتركنا له شأنَهُ يفعَلُ فيه ما يُريد.

  نقول الكلمة مرّةً ومرّتين ومرّات لكنّنا لا نستطيعُ أن نُلزِمَ أحداً، ولا نستطيعُ أن نُجبِرَ أحَداً لأنَّ الله عزّ وجَل يقول { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. كُلُّ إنسانٍ ومَا يعتقِدُ، وكُلُّ إنسانٍ وما يرى، وكُلُّ إنسانٍ وما يُحِبُّ أن يفعَل، فإنَّ لِكُلٍّ قناعَةً وهذه القناعَةُ يصعُبُ أن يتراجَعَ عنها أحدٌ إلاّ من رَحِمَ اللهُ عزّ وجَلّ.

  هذه القناعة في تدبير الإنسان وفي هَواه وفي تفكيره التي قال فيها الإمام الصادق ع (ثلاثةٌ خِلالٍ يقولُ كُلُّ إنسانٍ أنّهُ على صَوابٍ مِنها) .

  هناكَ ثلاثةُ أشياء كُلُّنا يعتقدُ أنّهُ مُصيبٌ فيها هي دينُهُ الذي يعتقدُهُ، وهَواهُ الذي يَستَعلي عليه، وتدبيرُهُ في أُمُورِه.

  لو رأيتَ رجُلاً مُسرِفاً في المال، يضع المال في غَيرِ مَوَاضِعِه فأردتَ أن تنصَحَ له، وأن تُجادِلَهُ لتَرُدَّهُ عن إسرافِهِ إلى الإقتصاد فيما يفعل لوجدتَه مُقتنعاً بهذا قلّما يتراجَعُ عنه. وإذا رأيتَهُ مُمسِكاً ونَصَحتَ له أن يُنفِقَ ما يجبُ عليه لأتاك بما في رأيهِ مِن كلامٍ يكادُ يوهِمُكَ أنّهُ على صَوابٍ فيما يقول، ثمّ لا يتراجَعُ عن تدبيرِهِ الذي اتخذه لنفسه.

  وكذلك هَواهُ الذي يستعلي عليه، حين ترى رجُلاً تخافُ عليه أن ينزلقَ أو أن يُخطِئ، وتراهُ يميلُ بالهَوى إلى أمرٍ ما، فإذا أردتَ أن تَنصَحَ له لم تنتفِع بما تنصَحُ له حتّى يكون ممّا تعلّق به ما يُؤذيه، فحينئذٍ يرجِعُ عنه.

  وكذلك دينُ الإنسان، دينه الذي يعتقدهُ فإنّه لا يتخلّى ولا يتراجَع لأنّهُ يرى نفسهُ على صَوابٍ مِنها، وقَلَّما رَجَعَ مَن تشَبَّثَ برأيِهِ أو تمسّكَ باعتقادهِ وبصحّة ما يقول. قلّما رَجَعَ وقَلَّما نَزَلَ عن الحال التي كان عليها. فدينهُ الذي يعتقدهُ وهَواهُ وتدبيرُهُ في أُمورهِ كُلُّ واحِدٍ منّا يعُدُّ نفسه منها على صَواب.

  ولذلك إذا جادلَ أحدُنا وإذا نَصَحَ وإذا عَنَّفَ وإذا وَصَلَ الأمرُ به إلى المُقاطعةِ في بعض الأحوال فإنّهُ يفعلُ هذا لأنّه الواجبُ عليه ولكن، ليكن مع هذا في خاطِرِهِ وفي بالِهِ وفي قلبِهِ أنَّ فِعلَ فُلانٍ أو فُلان لا يُزَهِّدُهُ في شيءٍ ممّا عَرَفَهُ وكان فيه على بَصيرَة، وإن رأى تمَسُّكَ فُلانٍ برأيِهِ أو تشبُّثَهُ بما يُحِبُّهُ ويَهواه فهذا مِن طبيعةِ الإنسان إذا أَحَبَّ الدنيا.

  يقول مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام (النّاس أبناء الدُّنيا ولا يُلام الرَّجُلُ على حُبِّ أُمِّه) ومَن مِنّا مَهما بَلَغَ مِن العُقوقِ، ومَن بَلَغَ مِن عَدَمِ شُكرِهِ للفَضل أن يُنكِرَ فَضلَ الذي رَبَّاهُ، وفَضلَ الذي عَلَّمَهُ، وفَضلَ الذي أنفَقَ مالَهُ مِن أجلِ تهذيبِهِ وإصلاحِه.

  وهكذا الناسُ والدنيا، كُلٌّ مُتعلّقٌ بالذي يُحِبُّهُ وبالذي يَهواه، وذلك أنَّ للآخِرَةِ أهلاً وأنَّ للدنيا أهلاً، وأنّ للآخرة أبناءً وأنّ للدنيا أبناءً كما قال مولانا أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب عليه السلام (فكونوا مِن أبناء الآخرة ولا تكونوا مِن أبناء الدنيا فإنَّ كُلّ وَلَدٍ سيلحقُ بأُمِّهِ يومَ القِيامَة).

  نسألُ الله سُبحانه وتعالى أن يوفّقنا لما يُحبّ، وأن يُلهِمنا ما يُرضيه من الأعمال، وأن يجعل أحوالنا دليلاً نُوافِقُ به أعمالنا، اللهم صلّ على مُحمّد وآل مُحمّد....

  الخُطبة الثانية:

  كثيراً ما يتعلّقُ أحَدُنا بكلمةٍ يعلَمُ أنَّ لها مَحمَلاً غيرَ الذي تمسّكَ به، وكثيراً ما نقِفُ على ألفاظٍ لا نعرفُ معناها، ومنها ما نعرفُ شيئاً مِن معناها، ومنها ما نعرف بعض معانيها، فيتمسّكُ أحَدُنا باللفظ للمعنى الذي يعلمُهُ مِن ذلك اللفظ أو مِن تِلكَ الكلمة، ويطرحُ عن نفسه عَناء البَحث وعَناء السؤال، وعناء الإستفهام ليَعرِفَ ما المُرادُ بالكلمة التي سمعَها، وليعلم ما يُرادُ بها لكن قُعودُهُ عنها وظنُّهُ أنّهُ يعلمُ ما لا يعلَمُهُ غيرُهُ هو الذي يجعلُهُ مُستعجلاً في حُكمِهِ وفي كلامه، والإنسان كما قال الله عز وجل في صفته { خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ }.

  والإستعجالُ في كثيرٍ من الأمور هو الذي يُسبّبُ الخُصومَة، وهو الذي يُسَبّبُ المُنازَعَة، لأنّهُ يكونُ بمنزلةِ فتيلٍ لتلكَ الخُصومات ولتلكَ المُنازعات.

  إذا سَمِعَ أحدُنا كلمةً لم يعرِفها فإنَّ الواجِبَ الذي أُمِرَ به يوجِبُ عليه أن يتثبَّتَ وأن يتبيّنَ وأن يتأنّى قبلَ أن يبُتَّ حُكمَهُ فيما يتّصِلُ بهذه الكلمة.
وما كُلُّ كلمةٍ نسمعُها تكون بالمعنى الذي نُريد. قال أحد الشعراء:

يا مَن يُوَجِّهُ ألفاظي لأقبَحِها   لأنّهُ ساحِرُ العَينَين مَعشوقُ
لَو أنَّ مَن قالَ ناراً أحْرَقَت فَمَهُ   لما تفوّهَ باسم النّار مخلوق

  لو أنّ الذي ينطِقُ كلمة نار أو كلمة لهيب تُحرِقُ فمهُ ما قال أحدٌ هذه الكلمة، وهل تكون الكلمة إذا قُلتها بالمعنى الذي تُريد أو باللفظ الذي عَرَفتَهُ هي الشيء الذي يقعُ عليه ذلك اللفظُ، لو أنَّ كُلّ إنسانٍ حين يقول يُصاب بالكلمة التي يقولها إذاً لما تفوّه باسم النّار مخلوق ولتركَ كثيراً من الألفاظ يألفُها لما تدُلّ عليه وامتنع عن استعمالها.

  الواجبُ أن يتبيّنَ أحدُنا حين يسمعُ ما لا يعلمُ معناه، أو حين تَرِدُ عليه كلمةٌ، أو يقف على كلمةٍ لا يظهرُ له شيءٌ بيّنٌ من معناها ينبغي له أن يتوقّفَ، وينبغي له أن يتثبّتَ وأن يتبيّن وأن يسألَ عمّن يستطيعُ أن يُبيّنَ له ولا يعْجَلَنَّ أحَدُنا في الجَدَلِ ولا في الخُصومَة فيما لا يعلَمُهُ.

  إنَّ أَحَدَنا إذا كان يعلمُ يُقَصّرُ في الجِدال، فكيف إذا جادَلَ فيما لا يَعلَم، (والمُجادلة بالتي هي أحسن، لا تكون إلاّ -كما جاء في حديث الأئمّة- لمن إذا وَقَعَ يُحسِنُ أن يطير وإذا طارَ يُحسِنُ أن يَقَع) للذي يعرف مَداخِلَ الكلام ويعرفُ مَخارِجَهُ، والذي يعرِفُ مُحكَمَهُ ومُتَشابِهَهُ، وإلاّ يقول الإمام الصادِقُ عليه السلام (مَن هَجَمَ على أمرٍ بغَر عِلم فقد جَدَعَ أنفَ نَفسِه). إنّهُ يخسَرُ ولا يكونُ غيرُهُ مِن الخاسرين:

وإذا طلبتَ دُخولَ أمرٍ فالتَمِس   مِن قَبلِ مَدخَلِهِ سبيلَ المَخرَجِ

  إذا أردتَ أن تدخُلَ في أمرٍ فابحَث عن المَخرَجِ من ذلك الأمر قبل أن تدخُلَ فيه، وعليك أن تعلَمَ أنّهُ إذا جَهِلتَ المَخرَجَ مِمّا أنتَ فيه فلن تستطيعَ أن تخرُجَ مِنه.

  إذا أصابَ أحَدَنا بلاءٌ أو إذا أرادَ أن يعمَلَ شيئاً ثمّ لم يبحث عن المَخرَج مِن ذلك الأمر قبلَ أن يدخُلَ فيه فإنّه سيبقى فيه سَواءٌ أكانَ يُحِبُّ الخُروجَ منه أم لا.

  واللهُ عز وجل حين بَعَثَ أنبياءهُ وأرسلَ رُسُلَهُ أرادَ من عِبادِه أن يعبُدوه وأن لا يُشرِكوا به شيئاً وأن يكونوا إخواناً في مُعاملتهم وفي تراحُمِهم وفي توادِّهِم وفي تعاطُفِهِم، وكُلّنا يسمعُ الحديث الذي قالهُ رسول الله ص وآله وسلّم وإن اختلفت ألفاظُهُ أنَّ المؤمنين بمنزلةِ الجَسَد الواحِد (مَثَلُ المُؤمِنِ كمَثَلِ الجَسَدِ الواحِد إذا اشتكى مِنهُ عُضوٌ تداعى له سائرُ الأعضاء).

  إذا جَهِلَ أحَدُنا حَقَّ هذا الأمر فلا يَليقُ به أن يَجهَلَ حقَّ الجِوار، وإذا جَهِلَ حَقَّ الجِوار فلا يَليقُ به أن يَجهَلَ حَقَّ الإنسانية التي قال فيها مولانا أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام في أصناف الناس أنّهم صِنفان: (إمّا أخٌ لكَ في الدين وإمّا نَظيرٌ لكَ في الخَلق).

  وبهذا يقول العلاّمة الشيخ سُليمان الأحمَد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه:

فيما التَّقاطُعُ بالأرحامِ بينَكُمُ   وأنتُمُ يا عِبادَ اللهِ إخوانُ
إذا نَسيتُم إخاء الدين فادّكِروا   بأنكُم يا بَني الإيمانِ جيرانُ

  إذا نَسِيَ أحدُنا أنَّ هذا أخٌ له فليذكُر أنّه جارٌ له، وإنَّ حقّ الجِوار إذا أرادَ مُتكلّمٌ أن يتكلّم فيه ما استطاع أن يستوعِبَ وأن يُحصِيَ كُلَّ ما وَرَدَ فيه. ومَن مِنّا لم يَسمَع أنّه ما زال جبريل يوصيه بالجار حتى ظننتُ أنّهُ سيُوَرِّثُه.
ومَن مِنّا لم يسمع (ليس حُسنُ الجِوار كَفُّ الأذى ولكنَّ حُسنَ الجِوار الصَّبرُ على الأذى).

  ومَن مِنّا لم يسمَع مِن هذا الباب مِن الأحاديث ما لا يستطيعُ إحصاءهُ ولكن أينَ تأَمُّلُنا وأينَ تَبَصُّرُنا؟ وأينَ وقوفُنا عند ما أُمرنا أن نقف بِهِ.

  لا يَلومَنَّ أحدٌ أبناءَهُ حينَ يُسيئونَ الأدَب، لا يَلومَنَّ أحدٌ أبناءَهُ حينَ يُسيئونَ العَمَل، لأنّهُ إنّما يجني ما زَرَعَهُ فيهِم، وما غَرَسَهُ.
ليسَ مِنَ العَدل أن أضرِبَ وَلَدي وأنا كُنتُ مِمَّن عَلَّمَهُ كيفَ يمُدُّ يَدَهُ إلى ما ليسَ لهُ بِحَقّ.
وليس من العَدلِ أن أُعاقِبَهُ على شيءٍ مِنَ الفَساد أنا الذي جَعَلتُهُ فيه.

  رحم الله الشيخ محمد حسن شعبان حين قال في هذا المَعنى:

أنجَبتُموهُم أنتُمُ فسُلُكُهُم أَمْرٌ   يعودُ إلى سُلوكِ المُنجِبِ
ولَو أنَّكُم رَوَّضتُمُ أخلاقَهُم   ما خِفتُمُ هَدْرَ الفَليقِ المُصْعَبِ
لم تَرْقُبُوهُم في نُعومَةِ عُودِهِم   ويَكادُ يودي الطِّفل إنْ لَم يُرقَبِ

  نسألُ الله عز وجل لنا ولكم، لمن حَضَرَ معنا ولمن سَمِعَ كلامَنا أن يكونَ له نصيبٌ مِن عَفو الله ومن رحمة الله ومن رِضوان الله، اللهم صلّ على مُحمد وآل محمد......