العلوية وأهل الحديث, وأهل الرأي.

Submitted on Thu, 14/10/2010 - 14:48

أوجزنا الكلام على هاتين الفرقتين وأوضحنا أن الأُولى اعتمدت على الحديث وأبطلت الرأي، وعللوا ذلك بقولهم إن الشريعة أجل وأرفع من أن تكون مجالاً لآراء أهل الرأي من العباد لأن الشريعة من الله كتاباً وسنةً وما كان كذلك يكون أبعد من الخطأ والاختلاف، والآخرة اعتمدت الرأي وقللت من رواية الحديث واشترطوا لقبوله شروطاً قاسية لا يسلم معها إلا القليل من الأحاديث الشريفة.

حكم العلوية في الحديث والرأي ؟

المراد بالحديث السنة الشريفة وهي قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره.

والسنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع عند المسلمين كافة، ولا خلاف في حجيتها ووجوب العمل بها والرجوع إليها لمعرفة الفرائض والأحكام، وفي المنهاج العلوي فإن أحاديث المعصومين تدخل في جملة السنة الشريفة لأنهم خازنوا علمه، وإن حجية أقوالهم ثابتة عندنا بلا خلاف ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومون بتدوين الحديث فمُنع التدوين في عهد الشيخين وبقي هذا المنع قائماً إلى عصر عمر بن عبد العزيز فأمر بتدوينه، لكن أهل البيت عليهم السلام لم يلتفتوا إلى ذلك المنع في حينه لعلمهم بخلافه ولذلك فقد أمروا بتدوينه خوفاً من ضياعه فالتزمت جماعة من الصحابة والتابعين أقوالهم واتخذوا التدوين مسلكاً ومنهجاً مقتدين بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ومنهم على سبيل المثال وليس على جهة الحصر: معاذ بن جبل، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، والسيدة الزهراء عليها السلام، وأبو ذر الغفاري، وأبو سعيد الخدري.

ولا يخفى على ذوي الألباب أن الحديث الشريف قد مُني بالوضع والتحريف من عهد النبي صلى الله عليه وآله وقد نبه على ذلك بقوله: [ مَن كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار ].

ولهذا يقال عن السنة النبّوية أنها ظنـّية الصدور، لذا نرى اختلافاً في كثير من القضايا الأحكام وهذا ما أحدث عدداً كبيراً من الفرق والمذاهب.

وفيما يتعلق بالوضع والتحريف فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام حين سأله سائلٌ عن أحاديث البدع:

[ إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته كذباً كثيراً حتى قام خطيباً فقال: ( أيها الناس قد كثر عليّ الكذابة، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوّء مقعده من النار.)، وكذلك كذب عليه بعده، إنما أتاك بالحديث أربعة ليس لهم خامس:
رجلٌ منافق يظهر الإيمان مُتصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمداً، ولو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يُصدقوه، ولكنهم قالوا: قد صحب رسول الله صلى الله عليه وآله ورآه وسمع منه، فأخذوا منه وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبر الله جلّ وعزّ عن المنافقين بما أخبر ووصفهم بأحسن الهيئة فقال: ( إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم.) ثم تفرقوا من بعده وبقوا واختلفوا وتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب فولوهم الأعمال والأحكام والقضاء، وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا، وقد علمت أن الناس مع الملوك أتباع الدنيا وهي غايتهم التي يطلبون إلا من عصم الله فهذا أحد أربعة.

والثاني: رجل سمع من رسول الله شيئاً ووهم فيه ولم يحفظه على وجهه ولم يتعمد كذباً، فهو في بدء يعمل به ويقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله، ولو علم الناس أنه وهم لم يقبلوه، ولو علم هو أنه وهم لرفضه ولم يعمل به فهذا الثاني.
والثالث: رجل سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله أشياء أمر بها ثم نهى عنها وهو لم يعلم النهي، أو نهى عن شيءٍ ثم أمر به ولم يعلم الأمر ، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم الناس أنه منسوخ لرفضه الناس ورفضه هو، فهذا الرجل الثالث.
والرابع: رجل لم يكذب على الله وعلى رسوله يبغض الكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسوله صلى الله عليه وآله ولم يتوهم ولم ينس، بل حفظ ما سمع فجاء به على وجهه لم يزد فيه ولم ينقص، حفظ الناسخ وعمل به والمنسوخ ورفضه، فإن أمر الرسول مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه، يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الأمر له وجهان: عام وكلام خاص مثل القرآن، وقد قال الله جلّ وعزّ: (ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.)فكان يسمع قوله من لم يعرفه ومن لم يعلم ما عنى الله به ورسوله صلى الله عليه وآله ويحفظ ولا يفهم ، وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسأله عن الشيء ويستفهمه، كان منهم من لا يسأل ولا يستفهم حتى لقد كانوا يحبون أن يجيء الأعرابي أو الطارئ أو الذَّمي فيسأل حتى يسمعوا ويفهموا... الخ. ].

فلو تأملنا في هذا الكلام المتيقن صدوره عن أمير المؤمنين عليه السلام لأتضح لنا التالي:

أولاً: لقد حدد الإمام عليه السلام صفات الراوي فكان أولها الإيمان، وثانيها العلم، وثالثها متابعة الرسول، ورابعها الصدق.

ثانياً: علمنا من وجود هذه الأقسام إن عدداً كبيراً من الأحاديث موضوع ومكذوب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي رجع إليها كثيرون بلا تحقيق ينسجم مع كتاب الله.

وهنا لا بد من القول: أن المنافقين الذين عملوا على وضع الأحاديث المكذوبة والذين وصفهم أمير المؤمنين بالمنافقين هم الذين دخلوا الإسلام كرهاً لا تسليماً فراحوا يعملون على هدم بنيانه من الداخل بهذه الوسيلة وغيرها ليشوّشوا على ضعفاء المسلمين ويخلقوا حالة من الفوضى بين ربوعه وما ذلك إلا انتقامٌ من هذا الدين الحنيف الذي قام على تحطيم وثنيتهم الصماء التي ألفوها زمناً طويلة وعاشوا في ظلامها الدامس .

ومما يدل على أن رسول الله أمر بتدوين الحديث قوله صلى الله عليه وآله: [ اكتبوا هذا العلم فإنكم تنتفعون به أما في دنياكم، وأما في أخرتكم، وإن العلم لا يضيع صاحبه .].

ثم أن أمير المؤمنين أوضح لشيعته المخلصين منهاجاً واضحاً في علم الحديث عرفوا به أصول معاملته فقال عليه السلام:

  • ستكون عنّي رواة يروون الحديث، فاعرضوه على القرآن فإن وافق القرآن فخذوه وإلا فدعوه.
  • إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده، فإن يك حقاً كنتم شركاء في الأجر، وإن يك باطلاً كان وزره عليه.
  • إذا حدثتم بحديث فاسندوه إلى الذي حدّثكم فإن كان حقاً فلكم، وإن كان كذباً فعليه.
  • عليكم بالدرايات لا بالروايات.
  • همة السفهاء الرواية، وهمة العلماء الدراية.
  • اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل.
  • الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه، إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوا به، وما خالف كتاب الله فدعوه.
  • قولوا ما قيل لكم وسلموا لما روي لكم، ولا تكلفوا ما لم تُكلَّفوا، فإنما تبعته عليكم، واحذروا الشبهة فإنها وضعت للفتنة.
  • إذا سمعتم من حديثنا ما لا تعرفونه فردوه إلينا، وقفوا عنده، وسلموا، حتى يتبين لكم الحق، ولا تكونوا مذاييع عجلى.

وبعد هذا البيان المختصر عن الحديث في منهاجنا لا بد من الحديث عن الرأي باختصار:

إن العلوية المعصومة ابتداءً من أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين، ومروراً بأصحابهم المخلصين لنهجهم، وانتهاءً بمواليهم الصادقين في ولائهم ترفض العمل بالرأي رفضاً قاطعاً وتنهى عنه نهياً جازماً ويتمثل ذلك في قول أمير المؤمنين عليه السلام:
(من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس).
وقال أيضاً عليه السلام : لا رأي في الدين.
وقال أيضاً عليه السلام: إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه، ولكن أتاه عن ربه فأخذ به .
وقال عليه السلام: فلا تستعمل الرأي فيما لا يدرك قعره البصر، ولا تتغلغل إليه الفكر .

وقال في وصف أهل الرأي بما ليس عليه من مزيد:
ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً ، وإلههم واحد، ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد، أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول صلى الله عليه وآله عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) وفيه تبيان لكل شيء، وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وانه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.) وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تنكشف الظلمات إلا به.

وبالنتيجة:

فلا رأي بوجود الكتاب والسنة، أما الحديث فيدل على صحته موافقته لكتاب الله ، وإن أحسن الحديث حديثُ أهل البيت عليهم السلام، [وإن دين الله لا يعرف بالرجال بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله، إن الحق أحسن الحديث، والصادع به مجاهد ، وبالحق أخبرك فارعني سمعك .] (من كلام أمير المؤمنين)

وقال أمير المؤمنين عليه السلام:
[ ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه أنّ فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم .] .